لماذا لم تكن الأمّة الكُردية أمّة غزو وفتوحات؟
الطابع الغالب على الأمّة الكُردية خلال تاريخها أنها ليست أمّة غزو وفتح واحتلال، ومرّ سابقاً أنها كانت )أمّة خَدَمات( لدول الإسلام السياسي، ولم توظّف الإسلام لخدمة مصالحها القومية، والسؤال هو: لماذا لم يكن الكُرد أمّة غزو وفتوحات؟
للإجابة ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن عاملين رئيسين أنتجا مشاريع الغزو والاحتلال في تاريخ الشرق القديم، هما (جغرافيا التكوين) وما يتفرّع عنها من مصالح اقتصادية، و(ثقافة التكوين) وما يتفرّع عنها من توجّهات أيديولوجية، وخصائص سيكولوجية، وذهنيات سياسية. فماذا عن الأمّة الكُردية وهذين العاملين؟
جغرافيا التكوين:ذكر أرنولد توينبي Arnold Toynbeeأن العلاقة بين “الجينات والبيئة يجب أن تُؤخَذ في الحسبان لدى أيّة محاولة لتفسير طبيعة التطور أو الخَلْق“([1]). ويصحّ أن نوسّع نطاق نظرية توينبي، ونبحث عن دور الجغرافيا في تكوين شخصيات الشعوب بيولوجياً وسيكولوجياً وثقافياً، وفي الفكر السياسي عند الشعوب.
وجدير بالملاحظة أن أضخم المشاريع الغَزَوِية في الشرق القديم قامت بها شعوب صحراوية؛ إن الصحارى العربية وامتداداتها شمالاً (البادية السورية) أنتجت نزعة الغزو عند الأكّاديين والبابليين والآشوريين قبل الميلاد، وأنتجت الغزوات العربية الإسلامية في القرن (7م)، وإن بلاد فارس شبه الصحراوية (في جنوب ووسط إيران حالياً) أنتجت الغزوات الفارسية، وإن صحارى وسط آسيا أنتجت الغزوات المغولية؛ والسبب أن الصحارى بيئات معادية للحياة، وطاردة للبشر، تضطرّهم إلى السيطرة على الجغرافيا الفضلى، متسلّحين بأقصى درجات العنف والبطش.
أمّا (جغرافيا التكوين) التي تكوّنت فيها الشخصية الكُردستانية بيولوجياً وثقافياً وسيكولوجياً، فهي جبال زاغروس وأرارات (آغري) وطوروس، والمناطق المتاخمة لها شرقاً وغرباً وجنوباً شمالاً، وفي هذه الجغرافيا تكثر الأمطار والثلوج والينابيع والأنهار والمراعي الصالحة لتربية الحيوان، وفيها السهول الصالحة لنموّ النباتات والأشجار، إنها (جغرافيا الاكتفاء)، وهي أشبه بـ(سوبرماركت) تتوافر فيها الحاجات الأساسية للبقاء، ولو بالحدود المتوسطة، ولا يحتاج سكانها إلى الغزو والاحتلال.
ثقافة التكوين: إن الصحراء (جغرافيا الجوع) أنتجت (ثقافة الغزو)، وفي إطار (ثقافة الغزو) نشأت (أيديولوجيا الغزو) كقاعدة روحية ونفسية لمشروع الغزو، ونشأت أيضاً (الذهنية السياسية) التي تُنفّذ المشروع الغَزَوي. أما (جغرافيا الشِّبَع) فأنتجت ثقافة الوداعة والسلام، ومثال ذلك أن الهنود والصينيين- رغم عددهم الهائل- لم ينفّذوا مشاريع غَزَوية، بل إن الصينيين بنوا سُوراً لردّ الغزاة المغول القادمين من صحارى الشمال، وإن العقيدتين الهندوسية والبوذية هما تجسيد واضح لثقافة الوداعة والسلام([2]).
كذلك الأمر بالنسبة إلى كُردستان، إنها (جغرافيا الاكتفاء)، فأنتجت (ثقافة الاكتفاء)، وفي أحضان ثقافة الاكتفاء تأصّلت في الشخصية الكُردستانية نزعة (الانكفاء على الذات)، والقناعة بما في اليد، وأنتجت هذه النزعة (ذهنية الدفاع) لا (ذهنية الغزو)؛ والدليل أن حوالي 85% من تاريخ الأمّة الكردية يتمحور حول صدّ الغزاة، والدفاع عن الوطن، والثورة على المحتلين.
وفي حالات قليلة جداً انتقل الكُرد من الدفاع إلى الهجوم، ردّاً على اعتداءات خارجية، إن عدوان الأكّاديين والبابليين والآشوريين المتوحّش والمتكرر، جعل الجُوتيين يحتلون مملكة أكاد، والكاشّيين يحتلون مملكة بابل، والميديين يحتلون مملكة آشور القائمة أصلاً في الجغرافيا الكُردية (سوبارتو)، وحتى في هذه الحالات الهجومية القليلة لم يذهب الكُردستانيون في الغزو بعيداً، وإنما اكتفوا بالسيطرة على بؤر العدوان المجاورة لبلادهم، بخلاف الآشوريين والفرس والعرب والترك، الذين غزوا شعوباً بعيدة جداً.
الذهنية السياسية: إن تنفيذ المشروع الغَزَوي الإمبراطوري بحاجة إلى ثلاثة عوامل أساسية: دولة مركزية قويّة، وزعيم حازم مستبدّ، وقوة قتالية الباطشة. والحقيقة أن (ثقافة التكوين) الكُردستانية نمّت في الشخصية الكُردية نزعة رفض السلطة المركزية، ورسّخت الذهنيةَ السياسيةَ القائمة على حكم مجلس النُّخب(Kon Gir)، وليس حكم (القائد/الزعيم) الأوحد، وكان من الطبيعي ألاّ تنشأ القوة القتالية الباطشة، كلُّ ذلك واضح في تاريخ السومريين خرّيجي حضارة ﮔُوزانا Gozanaالكُردستانية، وفي تواريخ الجُوتيين والحُوريين والميديين، وفي تاريخ الأيُّوبيين أيضاً، فمع أن صلاح الدين كان سلطاناً مهيباً، لكن النخب الكُردية المشاركين معه في الحروب كانوا يعاملونه كأحدهم، ويعارضونه أحياناً بفظاظة([3]).
وفي التاريخ الكُردي أمثلة على أن تحوّل الملك الكُردي إلى (ديكتاتور) يهمّش مجلس (Kon Gir)، كان يؤدّي إلى وقوف النخب الكُردستانية ضدّه، وسقوط المملكة، وأبرز مثال أن مملكة ميديا سقطت في قبضة الفرس سنة (550ق.م)، بسبب نقمة بعض كبار قادة الميد على استبداد الملك أستياﮔ([4]).
أيديولوجيا الغزو:إن تبرير المشروع الغَزَوي بحاجة إلى (أيديولوجيا غزو/عقيدة غزو)، لتجييش الأمّة كي تُضحّي بالأموال والأرواح. وقد تكون أيديولوجيا الغزو دينية (الآشوريون تحت لواء الإله آشور، والعبرانيون تحت لواء الإله يَهْوَه، والبيزنطيون تحت لواء المسيحية، والعرب والترك تحت لواء الإسلام، والمغول تحت لواء ربّ السماء الشاماني)، وقد تكون أيديولوجيا قومية بغطاء حضاري (اليونان، والرومان، والاستعمار الحديث).
والمُشكل أن (ثقافة التكوين) الكُردستانية- ثقافة الانكفاء على الذات- لم تكن صالحة لإنتاج أيديولوجيا الغزو، فالزردشتية- وهي التجلي الأكثر تطوّراً للعقائد الآريانية الشرقية- عقيدةٌ متصالحة مع الكون والكائنات إلى حدّ بعيد، إنها ليست عقيدة غَزَوية، وفيها بنى فلسفية شبيهة بالبوذية المسالمة، وما تزال آثارها باقية في الديانة الأيزدية المعروفة بأنها مسالمة وغيرُ نزّاعة إلى الغزو والبطش بالآخرين.
وإن (ثقافة التكوين) الكُردستانية هي التي حالت دون أن يُوظّف الكردُ الإسلامَ لتنفيذ مشروع غَزَوي إمبراطوري، كما فعل العرب والترك والفرس، وهي التي جعلت الدولةَ الأيّوبية دولةَ دفاع عن الشرق الأوسط ضد الغزو الفرنجي، لا دولة احتلال لمواطن الشعوب وجَعْلِها مُلكاً للكرد، وإحلال اللغة الكردية والثقافة الكردية محلّ اللغات والثقافات الأصلية، إنها كانت في خدمة الشعوب الإسلامية ممثَّلةً في (دولة الخلافة)، وكان صلاح الدين يسمّي نفسه “الخادم” في مراسلاته للخليفة العباسي في بغداد([5]).
نحو ثورة ثقافية كردستانية: لا ريب في أنه مكسب رائع- من المنظور الإنساني الشامل- ألاّ تكون الأمّة الكردية أمّة غزوات، وألاّ تُقيم أمجادَها على سفك الدماء، واستعمار الشعوب، واحتلال الأوطان، وسلب الممتلكات، وسَوْق الأسرى والسَّبايا إلى أسواق النِّخاسة، وإنه لَمجدٌ مرموق أن تكون عقيدتُها دفاعية مؤسَّسة على المسالمة وقبول الآخر، لا عدوانيةً هادفة إلى إلغاء الآخر.
لكن “إذا زاد الشيءُ عن حَدّه انقلب إلى ضدّه”، وهذا الذي حدث للأمّة الكردية، إن ثقافتها الدفاعية المسالمة- في وسط ذهنيات غزوية لا تفهم إلا لغة القوة الباطشة، وتهدف إلى السيطرة على العالم باسم الله- أدّت إلى أن تصبح كُردستان مرتعاً للمحتلين، يستعبدون شعبها، ويشوّهون تاريخها، ويدمّرون ثقافتها، وينهبون ثرواتها.
والأخطر من هذا أن سلبيات (ثقافة التكوين) الكُردستانية ما تزال تُنتج الإشكالات في الحاضر الكُردستاني؛ فها هي كُردستان مقسَّمة ومحتلة بعد قرنين من الثورات والتضحيات، وها هي (مشاريع المواطنة) ضمن (دول الاحتلال) تزيح (مشروع تحرير كُردستان) إلى الهامش، وها هم نُخب الكُرد- ساسةً ومثقفين- عاجزون إلى الآن عن التغلب على وباء التشتّت الثقافي والسياسي، وعن عقد مؤتمر قومي كُردستاني شامل، وإعداد مشروع تحرير شامل، وتأسيس قيادة كُردستانية عليا تشرف على تنفيذ المشروع.
لكن هل معنى ذلك أن سلبيات (ثقافة التكوين) قَدَرٌ أبديّ، سيظل يلاحقنا ويُبقينا على هذه الحال البائسة؟ بالتأكيد لا، فالمنجَزات الحضارية، والتقنيات العلمية، باتت تحدّ من جبروت الجغرافيا وتصحّح مسار الثقافات، وكل ما نحتاجه نحن الكُرد هو (ثورة ثقافية) شاملة، نتحرر بها من سلبيات (ثقافة التكوين)، ومن (ثقافة العبودية) التي تسلّلت إلى شخصيتنا القومية طوال 25 قرناً من الاحتلالات والقهر والجهل والفقر.
ومن هم الذين تقع على كواهلهم هذه المهمّة القومية الجليلة؟
إنهم المثقّفون والساسة الكُرد الذين ينتصرون على النرجسية الشخصية والنرجسية الحزبية، ويتحررون من ثقافة الهزيمة، ويتّخذون عظماءنا (الشهداء) قدوةً لهم، ويتوحّدون بهم فكراً وشعوراً وسلوكاً، ويجعلون شعبهم ووطنهم قِبلةً لهم في كل مكان وزمان.
ومهما يكن، فلا بدّ من تحرير كُردستان!
المراجع:
[1]– أرنولد توينبي، ودايساكو إكيدا: التحديات الكبرى، ص 24.
[2] – أ. و. ف. توملين: فلاسفة الشرق، ص 241. ول ديورانت: قصة الحضارة، 3/77. الدكتور علي زَيْعُور: الفلسفات الهندية، ص، 86، 286.
[3] – صامويل كرايمر: من ألواح سومر، ص 79. دياكونوف: ميديا، ص 115- 116. 185، 379. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 574 – 575. ابن شدّاد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ص 64 – 65.
[4] – هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93.
[5] – أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النُّورية والصلاحية، 3/67، 86، 88.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكر وتوضيح :
أشكر جميع الأخوات والإخوة الذين صاحبوني بمشاعرهم المخلصة وأفكارهم النيّرة في رحلتنا الطويلة- وربما الشاقة أيضاً- مع هذه السلسلة، وآمل أن نلتقي معاً في رحلة أخرى مع سلسلة جديدة، والحلقات الثلاثون موجودة على الرابط التالي:
https://www.box.com/s/z9i11dwhyflyoj7ii8ut
فحبّذا نشرها لتعميم الفائدة. وللجميع تقديري واحترامي.
22 – 5 – 2013