من المعلوم بأن الخروج من السجن الفكري هو دليل ثورة الانسان علی عقله القاصر و لغته الفائتة و معرفته الميّتة. اليوم أصبحنا شاهداً علی ثورات سياسية، إقتصادية، فكرية، تقنية، ثقافية و خلقية وهي تطفوا علی المسرح الكوني و تعمل علی خلق الانسان الرقمي، الذي لا يتعامل مع معطيات وجوده و الأحداث التي تنبع من بيئته إلا بلغة الإختراع والإبتكار و التحويل والبناء. ولا يمكن التسبيح بحمد الإنسان، الذي لا يحسن سوی إنتهاك الانسانية، تحت شعارات الحقيقة والحرية أو العقلانية و العدالة. الضرورة تدفعنا الی القول، بأن هناك حاجة ماسة الی مساءلة مفهوم الإنسان، لتفكيكه و إعادة بناءه، لغرض فتحه علی ممكناته و احتمالاته و علی الكائن البشري الإعتراف بدونيته علی المستوی الوجودي، حتی يتحرك نحو الاعتراف بالآخر علی الصعد السياسية والمجتمعية والثقافية، بل حتی المعرفية، و هذا التحرك لا ينتج، إذا ما لم يقوم صاحبه بكسر منطق الوحدانية والمركزية و الإصطفائية التفاضلية و إذا ما لم يقاوم إرادات التأله و القبض والتحكم و المطابقة والمصادرة والاحتكار.
التغييرات التي طرأت في العالم العربي أثبتت أيضاً بأن العالم الجديد لا تصنعه الكتب السماوية و لا الفلسفات المادية، بل الكتب الرقمية والانتفاضات السلمية، التي تسجل نهاية زمن البطولات الدموية والبيروقراطيات الثقافية.
علی الفرد الكوردستاني كشف موقعه علی خارطة الحداثة، ليری فيما إذا كان هو فاعل و منتج، أم مازال مستهلك و تابع و غير فاعل. لقد بات من الضروري إستثمار الموراد علی نحو أحسن تنميةً و ثراءً و عليه إستثمار التراث الهائل في ضوء أسئلة العصر، بتحويله الی منتجات ثقافية أو الی عملات حضارية وقابلة للتداول، بمعنی إستخدام العقول بصورة حية و خصبة، أو نامية و متجددة، فعّالة و راهنة. من يتعاطی مع العالم المعولم والرقمي بالعدة الفكرية القديمة، التي فقدت مصداقيتها علی أرضها بالذات، و يدعوا الی الحداثة الخادعة والمضلّلة لا ينتج سوی الأزمات والمآزق و يعود بالمجتمع الی كهوف الماضي و أکفانه.
أما من الطرف الآخر فنری بأن صاحب الفكر الأصولي يسعی الی إستعادة الأصل والتطابق معه محكوم للماضي بنماذجه و صوره و أطيافه. و لهذا فهو ينفي حقيقة الحاضر و مشروعيته و لايری فيه سوی البطلان والفساد، ومن ثم يسعی الی تغييره بأي ثمن کان، فلا يهمه الوسيلة، بل المهم عنده أن يتغير هذا العالم الذي لا ينطوي إلّا علی الشرّ و الإثم و يعتبر وحده دون سواه ينتمي الی الفرقة الناجية. والاصطفائي يعتقد بصفاع عنصره، كونه وكيلاً لله علی الأرض مكلفاً تنفيذ شرعه و أحکامه و هكذا يستعد لممارسة العنف ضد من لا يتماثل معه.
الديمقراطية معتقد فكري و منهج سلوكي و نظام حياتي، يشمل بنطاقه كل أوجه النشاط الإنساني. وفي حالة عدم وجود المادة البشرية المؤمنة بالديمقراطية والساعية لتطبيقها، لا يمكن الحديث عن إستيلاد أنظمة ديمقراطية تضمن الحد الأدنی من العدالة الاجتماعية والسياسية في مجتمع تدار الشؤون فيه بعقل أفقي، تواصلي، تبادلي، بعد كسر العقليات البيروقراطية المركزية الفوقية.
إن القول بعدم جواز أعلان الدولة إلا بتوفر شروطها لا يمكن أن يکون سوی إجتهاد بشري مبنيّ علی إعتقاد خاطیء غير منطقي، يملأه الدعاة وديناصورات التراث السياسي بنزعتهم التلفيقية للنظريات و لفبركة الأوهام، للختم علی العقول بالدعوة الی الاقتصار لإنتاج العزلة والهشاشة والهامشية علی مسرح الأحداث. فإرادة الإنسان للحقيقة تعطيه فيضاً من الفراغ ليتمرغ فيه، وهذا الفراغ يجبره علی إدراك ذلك كدافع، لأن الحقيقة دائماً و أبداً أضعف من الجوع و الخوف.
المجتمع الكوردستاني، رغم وجود بعض من أصحاب العقول المفخخة والهويات المغلقة والثقافات العدوانية فيها، تملك غنی في المعطيات، كما تملك فائضاً في الموارد، أما الانجازات فهي موجودة و لكنها ليست بالمستوی المطلوب والسبب يعود الی الضعف في الأفكار الحية والخصبة والخلاقة. فبالخلق يثبت الواحد جدارته و فرادته، وبالتحول يحرف كيف يتدبر التحوّلات.
علينا ببناء القدرة و ممارسة الحضور والفاعلية، وليس التشبث بأوهام السيادة، بل المساهمة في اختراق الحدود و خلق الأمداء والمجالات و مدّ الجسور و فتح الخطوط و إختراع صيغ التعايش و ليس استعداء العالم.
و ختاماً: “إن طغيان البعد الواحد علی الشخصية، أو التفكير بمنطق أحادي الجانب يقوض حرية الفرد و قدرته علی الخلق و الإبتكار و يبلّط الطريق لسيطرة عقلية الدعوة والمناضلة علی لغة الفهم و إرادة المعرفة.”

