بغداد – العطيفية – بداية الستينيات من القرن الماضي
انتهزت بدء العطلة المدرسية و قرب حلول العيد لتذهب الى بيت عمها لتقضي هناك بعض من الايام كعادة الفيليين، فلم يكن غريباً ان يغادروا الابناء للبقاء في بيوت الاقارب ايام العطل والمناسبات وخاصة بيوت الاعمام والاخوال والخالات، مع وجود ابناء في اعمار تماثل اعمارهم لذا كانوا يكبرون وهم اقرب من الاخوة الى البعض من كونهم اقارب.
كان العيد قد بدأ يطرق الابواب والاطفال يتهيؤن للعيد وينتظرونه بفارغ الصبر. كان الاولاد يحصلون على ملابس جديدة جاهزة (قوط ) بالاضافة الى (دشداشة او بيجامة)*2 بينما كانت الفتيات يذهبن عند الخياطات ليخيطن لهن ملابسهن والتي وقع اختيارهن على القماش المشترى سلفاً وكذلك القصَة (التفصيلة) حسب موضة ( مودة) ذلك العام.
رافقت بنات عمها الى الخياطة التي وعدتهن بالانتهاء من خياطة ملابسهن قبل العيد – لآن الخياطات عادة في هذه الموسم يكون عملهن كثيفاً ومزدحماً حتى يضطررن الى السهر ليلاً للانتهاء منه.
تمشوا بجوار شاطئ دجلة الجميل حتى انحرف بهم الشارع يميناً – لا تذكر كم استغرق منهم من الوقت لحين الوصول الى تلك الدار التي فتحت لهم بابها فتاة رقيقة جميلة اشارت عليهن بالدخول الى صالة واسعة كانت تقع على يمين المدخل.
هناك في وسط الصالة شاهدت ميمي*1 (شه روتي) لاول مرة والتي رحبت بهم بوجهها البشوش والذي كان دائرياً ابيض اللون مائل الى الحمرة، كانت أمرأة ممتلئة مربوعة القوام في متوسط العمر، اعجبت باسمها كثيراً وهو من الاسماء الكوردية النادرة الاستخدام وتعني (البيضاء الرقيقة)… لا تعلم لماذا بقت تلك الصورة والاسم في ذاكرتها لتقفز امامها بعد نصف قرن من ذلك التاريخ وللوهلة الاولى لسماعها بالاسم. تذكرت كيف كانت كلمات تلك المرأة تخرج منها بحنان لا يمكن وصفه، لحظتها تصورت ان لهذه المرأة الماثلة امامها من حنان يمكن ان توزعه على الدنيا باكمله ولا ينضب، او ربما تخيلت ذلك عندما تذكرتها بعد تلك العقود!؟
كانت خياطة ماهرة تتقن عملها بشكل رائع لا يخلو من ذوق وفن، فبمجرد نظرة فاحصة واحدة منها كانت تقدر مقاييس صاحبة الثوب مما يعكس خبرتها الواسعة في مجال عملها، لا تعرف لماذا الحت عليهم ان تستضيفهم على غير عادة الخياطات ، فقالت في ذاتها ربما هي ليست خياطة فقط وانما قريبة لهم. وعندما رفضوا البقاء فتحت لهم صندوق الحلويات (الجكليت) لتنال كل واحدة منهن واحدة منها.
عرفت ان ميمي (شه روتي) ليس لها سوى اثنان من الابناء وذلك بدى لها غريباً فعادة الفيليين ان تكون عوائلهم كبيرة العدد، كما عرفت ان زوجها يعمل سائقاً وانه من اقدم السواق في بغداد وحتى انه كان يعمل سائقاً للسفير البريطاني في بغداد.
(2)
بريطانيا 2010
ذات الفتاة تعرفت حديثاً على (المسنجر) على احدى الفيلييات في بلاد الاغتراب يتجاذبون اطراف الحديث ويتبادلون المعلومات عن احوال الكثير من العوائل الكوردية الفيليية وما كان مصيرهم منذ وصول وباء البعث الى العراق في ستينيات القرن المنصرم ، ثم تلك الهجمة الشرسة التي انتهت بتهجيير مئات الالوف منهم بعد تجريدهم من مواطنتهم واملاكهم وابنائهم الشباب وليواجهوا المصير المجهول في الثمانينيات القرن المنصرم…
تحدثوا عن مصير من بقى في بغداد والمدن الاخرى، وهل كان حالهم فعلاً افضل في ظل الطاغية وهم ايضاً جردوا من هوياتهم وتم نقلهم او طردهم من وظائفهم وضيقوا عليهم الخناق في محل اقاماتهم وعملهم… المؤلم في الامر هو الحديث عن البعض من جيران العمر الذين لم يحفظوا ولم يقيموا للعشرة والجيرة أي اعتبار رغم ان تلك عادة متأصلة في العراقيين منذ عمق تاريخهم!؟
لا تعلم كيف تسرب الوقت حتى جاء اسم ميمي (شه روتي) ومصيرها واسرتها الى حديثهم – وكيف رجعت الذكريات قهقريً الى الوراء وبدأت المتحدثة بالكلام…
(3)
بغداد بداية الثمانينيات قرن العشرين
الهجمة الشرسة ضد الكورد الفيليين بدأت منذ اشهر ، العوائل تساق بما عليها من ملابس الى الحدود ، الشباب يساقون الى المعتقلات …
ميمي (شه روتي) تقدم بها العمر وقررت ان تستريح في ايامها الباقية من حياتها وقد اضناها المرض والتقدم في السن من مهنتها السابقة واكتفت بالاحتفاظ بماكينة (السنكر)*3 كذكرى … كانت قلقة جداً و تنتظر وتتحسب لاي طارئ لقد رحلوا عنها احباب كثيرون من الاقارب وجيرة العمر … تعودت مؤخراً أن تتحجج بكبر سنها وتعبها حتى لا تخرج الى الحي لترى بأم عينها ما حل فيه من خراب حيث البيوت المغلقة والتي كانت الى الامس تعج بالحياة بساكنيها واخرى احتلها الاغراب…
طرق شديد على الباب – تثاقلت بجسمها حتى استطاعت الى تصل الى الباب لفتحه فقد نادت على ابنتها الوحيدة (ليلى) ولكن لم تسمع رداً منها – فكان يجب عليها ان تفتح الباب لهذا الطارق الذي يشتد في قرع الباب كلما تأخرت هي في الوصول اليه — فتحت الباب واذا امامها مجموعة مدججة بالسلاح تخيلت ان هناك انزالاً عسكرياً قد حدث في المنطقة والبلد في حالة حرب!؟
بقت صامته لوهلة قبل ان يبادروها بكلمات عنصرية بذيئة لم تسمعها او تتعود عليها آذانها قبلاً – في سرها خافت لان زوجها وابنها غير متواجدين في البيت – هل يعقل ان يتم تهجيرها وابنتها دونهم!؟ حتى افاقت من الصدمة التي هي فيها – قالوا لها انك صفوية عميلة بينما نعرف ان عائلتك عراقية ولا نريد ان تبقي معهم بعد اليوم ارحلي فوراً الى حيث اهلك – توسلت بهم وقالت انها لا تعرف لها اهلاً منذ عقود طوال تزوجت وانجبت وهم عائلتها واهلها الوحيدين – لكن لم تنفع كل توسلاتها, بدءوا بسحبها دون مراعات لسنها منهالين عليها بالضرب والكلمات النابية، ثم اخذوها معهم واعادوها بعد ايام شبه منهارة – مع طلب ان تغادر العراق باي وسيلة والا فأنهم سيعاودون اعتقالها – تكررت تلك المداهمات وتكرر اعتقالها بينما لا يقوى زوجها ولا ابنائها على فعل اي شئ حتى داهمهم المرض …
كانت مصيبتها انهم اختاروا لها ان تغادر العراق بطريقتها الخاصة – فكانت تخرج باكراً لتطرق ابواب السفارات علها تحصل على تأشيرة لاي دولة مجاورة حتى تتمكن من الرحيل – ولكن ابواب تلك السفارت كانت كقلوب اصحابها موصدة قاسية باردة – فلم تستطع ان تحصل على التأشيرة للرحيل – وفي كل مرة يتكرر اعتقالها واذلالها – حتى جاء يوم الخلاص – حيث بعد عودتها من رحلتها اليومية الى السفارات ثم الاعتقال ، جلست متكئة الى حائط منزلها فمنحها الرب تأشيرة أبدية لا تعود بعدها ابدا الى هذه الحياة.
أشتد المرض على زوجها وابنها وفارقوا الحياة تباعاً بينما لم تجد ابنتها الوحيدة للخروج من هذه الحياة سوى ان تذهب مع عقلها الذي فارقها لتحلق في السماء علها تجد فيه بعض من العزاء.
يقال ان ميمي (شه روتي) والتي كانت اسم على مسمى قد تغيير لونها واصبح داكناً كقلوب معذبيها…
فالى روحك الطاهرة الابية نبعث الف سلام والى كل من سقط ضحية للفاشية لكم مجداً في العلا, وقتلتكم يتسربلون في عارهم الابدي وهزائمهم المذلة, لقد نالوا بعض القصاص في هذه الدنيا فما بالكم بقصاص الله الموعود…
20 كانون الاول (ديسمبر) 2010
د. منيرة أميد
*1 ميمي لفظة باللغة الكوردية وتعني الخالة
*2 دشداشة وبيجامة لباسان للنوم ولكنها تستخدم كلباس يومي في بلداننا
*3 السنكر من افضل انواع ماكينات الخياطة واشهرها.

