الرئيسية » مقالات » ثورة تعود لأصحابها…التأريخ و الحقائق قراءة في الثورة الايرانية (4 ـ 6)

ثورة تعود لأصحابها…التأريخ و الحقائق قراءة في الثورة الايرانية (4 ـ 6)

الاحداث التأريخية الفاصلة و المصيرية التي تتحرك في أثنائها الشعوب کموجات بشرية هائلة تجرف أمامها کل الموانع و السواتر و العقبات وتصنع بإرادتها و وفق إختيارها أقدارها و مستقبلها، تتجلى أهميتها و حساسيتها في انها تشهد حالة إستثنائية من الاجماع الاجتماعي على مواقف و رؤى محددة وخلالها ليس من السهل أن يکون هناك مايمکن تسميته”موقف حيادي” إذ ان العقل الفردي في ذلك الخضم و الفوران يتأقلم و يذوب بشکل او بآخر في العقل الجمعي. ولو تمعنا و دققنا في أحداث تأريخية کبيرة و حاسمة کالثورة الفرنسية و الثورة الروسية، فإننا نجد ان تلك الاحداث قد ساهمت وبقوة في تحديد و بلورة المضمون و المحتوى الاهم في العقل الجمعي للشعبين الفرنسي و الروسي وان مختلف الفلاسفة و المفکرين و الکتاب و علماء الاجتماع قد تصدوا للفرد و المجتمع في خضم هاتين الثورتين الکبيرتين و سلطوا عليهم الاضواء من أجل عملية‌ إستقراء دقيقة لحاصل تحصيل التأثيرات الآنية و المرحلية و النهائية على عملية الوعي الفردي و الاجتماعي. يقول الکاتب الروسي الکبير ميخائيل شولوخوف:(يهمني الناس الذين تستحوذ عليهم الفورات الاجتماعية و الوطنية..إذ يبدو لي ان شخصياتهم تتبلور في تلك اللحظات)، ان هذا الرأي الثاقب و الحصيف، لم يطلقه هذا الکاتب المعروف جزافا وانما على أساس معايشته الدقيقة لأحداث ثورة أکتوبر 1917 في روسيا، وعلى الرغم من أهمية مثل هذه الآراء و التوجهات، فإنه يجب علينا أن لاننسى في نفس الوقت الدور البالغ السلبية و المضر الذي تلعبه الشخصيات و التيارات الانتهازية و النفعية خلال مثل تلك الاحداث ساعية جهد إمکانها للتصيد في الماء العکر و إيجاد مواطئ أقدام لها على حساب أصحاب الشأن الحقيقيين الذي ساهموا في صنع تلك الاحداث، وکثيرا ماکانت الثورات و الاحداث العظيمة تؤول في نهاية الامر الى نفر ليس لم يساهموا في صنعها او التضحية من أجلها وانما حتى کانوا ضدها، وهذا الامر(أي الانتهازيين و النفعيين)من المشاکل الکبيرة التي تواجه هکذا أحداث استثنائية ولاسيما عندما يکون هنالك فراغ و فلتان أمني او ثمة خلل او شئ من هذا القبيل في المراکز القيادية التي تقود الثورة وهنا تحدث المشکلة الحقيقية إذ تبدأ بوادر حرف و تغيير مسار الثورة، وقد کان نابليون بونابرت خير مثال حي على مانقول إذ أنه في الوقت الذي ليس لم يشارك في الثورة وانما حتى کان من المتصدين لها بإعتباره ضابطا في الجيش الفرنسي حيث نجح في المهمة الموکلة إليه بحماية الجمعية الوطنية من المنتفضين الثائرين وکان نجاحه هذا بداية ظهوره الذي قاده في النهاية ليصبح إمبراطورا و ينصب اخوانه و اخواته ملوکا و ملکات على دول اوربا. وعندما نستحضر احداث الثورة الايرانية و مجرياتها العاصفة، فإننا نجد ان الخميني و التيار الفکري الذي کان يدعو إليه(برغم عدم وضوحه في البداية) قد کانا غالبين على الشارع الايراني بحيث أن معظمه کان منبهرا و مأخوذا به وانه کان طاغيا بشکل غير عادي على مختلف الشرائح و الطبقات الاجتماعية لکن النقطة المهمة جدا التي يجب أن نشير إليها ان الخميني قد استفاد أيما استفادة من توظيف العامل الديني لخدمة الهدف السياسي ونظرا للإلتزام الکبير الذي يبديه الشعب الايراني حيال العامل الديني فإن مهمة الخميني طبقا لذلك قد سهلت أکثر و صار بإمکانه و من خلال إستغلال هذا الالتزام الشعبي سد الثغرات الکبيرة في جدار الثورة، لکن في نفس الوقت نفذ الى تحت أباط الثورة و في جوانب حساسة أخرى منها الکثيرون من الانتهازيين و النفعيين الذين لم تکن يهمهم الثورة بقدر ماکان تهمهم المصالح و المکاسب الخاصة التي سيجنونها مقابل هذه الفرصة الاستثنائية، ولعلنا إذا إستحضرنا شخصية سياسية إيرانية مثل”نورالدين کيانوري”، الامين العام لحزب توده،‌ نجده و حزبه قد إنساقا مع الاحداث و إصطبغا به بحيث ان العديد من الکتاب و المحللين السياسيين يومها وصفوا کيانوري و حزبه بإنهما أکثر خمينية من الخميني نفسه، هذا ناهيك عن العديد من الاحزاب و التيارات السياسية المختلفة على الساحة الايرانية والتي إنجرفت هي الاخرى بصورة غير عادية مع الخط شبه العام للخميني و تياره الديني وطفقت الواحدة بعد الاخرى تتساقط کأوراق الخريف و تخلي الطريق أمام الخميني ليصبح حاکم إيران المطلق. وطبيعي جدا ان مهمة أي جهة او تيار سياسي وحتى فکري معادية او مخالفة للخميني کانت صعبة و بالغة التعقيد بل وانها کانت وقياسا الى تلك المجريات و التأثيرات التي ذکرناها، کانت شبه مستحيلة و محکوم عليها بالفشل لأن الامر السائد على الساحة الايرانية وقتئذ ان النظر کان يجب يکون بإتجاه واحد و التفکير يجب ان يکون وفق مايريده ويشائه الخميني و التيار المتشدد الذي بات يمسك زمام الامور رويدا رويدا في إيران بقبضة من حديد، ومن هنا فإننا عندما نستحضر الصراع السياسي ـ الفکري المرير الذي خاضته منظمة مجاهدي خلق ضد التسلط الديني الاستبدادي للخميني، نجد کم کانت المهمة التي أخذتها على عاتقها المنظمة بالغة الصعوبة و محفوفة بمخاطر ليس عد او حصر لها بالمرة، لکن وفي نفس الوقت، کانت المنظمة و قادتها البارزين يدرکون بوضوح حساسية الظروف و تعقيداتها و ملابساتها ولأجل ذلك فإنهم کانوا يسعون جهد إمکانهم و بکل مابوسعهم تحاشي الانزلاق في مجابهات او تصادمات او خلافات في غير وقتها و محلها، بل وانهم کانوا يحاولون جاهدين إيجاد حلول و معالجات للمشاکل و الازمات التي تحدث بين النظام و بينهم، وقد کانوا وفي کثير من الاحيان يبدون من التساهل و الليونة في مواقفهم بحيث کان بالامکان تفسيره بالضعف لکثرة التسامح المفرط ازاء الامور، بيد ان ذلك لم يعني بالمرة ان المنظمة تخلت او کانت تريد التخلي عن مبادئها و اهدافها التي ناضلت و کافحت من أجلها سنوات طويلـة وانما کانت تسعى للعب بذکاء و تسعى لإدارة الصراع بطريقة خاصة تحفظ للثورة الخط العام الذي ناضل الشعب الايراني من أجله، ومن هنا، فإن المنظمة وعند بدء الترشيحات لإنتخابات رئاسة الجمهورية للمرة الاولى بعد سقوط الشاه، قامت وفي خطوة لافتة للأنظار بترشيح الشخصية الدينية الايرانية المعروفة آية الله طالقاني لمنصب رئيس الجمهورية، الطالقاني الذي کان لم تمضي سوى مدة وجيزة على إطلاق سراحه من سجون الشاه، إبلي هو الآخر بلائا حسنا في مقارعة نظام الشاه و التصدي له، وکان عالما جليلا و مفسرا کبيرا للقرآن ومعروف لدى الشارع الايراني بصورة عامة کما انه کان مستقلا وليست له أية علاقة بالتيار الذي يقوده و يدعو إليه الخميني، ويمکن وصف ترشيحه من جانب المنظمة بالخطوة السياسية المحنکة و الحصيفة التي أذهلت و اصابت النظام و اقطابه بالدوار، حيث لم يکن في إمکانهم ابدا وصف او نعت الطالقاني بأية صفة سلبية لأنه کان أعلى کعبا و مقاما من أي شئ من هذا القبيل، ومع ان آية الطالقاني قد فوجئ بترشيحه و وافق على الامر على مضض منه، لکن دخوله للحلبة کان يثير مخاوف و توجسات الخميني بذاته الذي کان يفکر للسير بسياق الامور بإتجاهات غير التي يفکر بها أناس مثل الطالقاني و منظمة مجاهدي خلق، بيد ان الوفاة المفاجئة للطالقاني(حيث لم يمض على إطلاق سراحه من السجن سوى عشرة أشهر و نصف) والتي کانت بمثابة صدمة للشعب الايراني برمته و للمنظمة بشکل خاص، أثارت الحيرة و علامات الاستفهام الکبيرة وعلى الرغم من أنه لم تکن هناك ثمة أدلة او مستمسکات تشير الى علاقة الخميني و تياره بالوفاة المفاجئة لهذه الشخصية المفاجئة، لکن الجماهير الايرانية کانت تردد في الشوارع:(بهشتي ..بهشتي..قتلت الطالقاني)، وبهشتي کان في وقتها على رأس السلطة القضائية وکان معروفا بتشدده و تعنته، وکان الذي يفسر إطلاق هکذا شعارات وفي مثل هکذا ظرف حساس، أن الايرانيين کانوا يربطون بين الاحداث و لم يکن عليهم سهلا کي يتقبلوا وفاة هذه الشخصية الکبيرة التي حتما کانت کنعمة من السماء نزلت على رؤوس النظام إذ تمت إزاحة عقبة کأداء و غير عادية من أمامهم لأنه لو کان القدر قد سنح للطالقاني بالبقاء على القيد الحياة لفترة أطوال، فإن الصورة و المشهد الايراني کان سيأخذ أبعادا و الوانا أخرى مغايرة للتي إصطبغ بها فيما بعد. والحق ان وفاة الطالقاني، کانت بمثابة مايمکن تسميته بنکسة کبيرة للجهود الصامتة المبذولة خلف الکواليس من جانب مجاهدي خلق، إذ أنها أطارت فرصة ذهبية من أيديهم لکي يديروا الصراع باسلوب سياسي بعيد عن استخدام العنف و اراقة الدماء، ذلك ان ترشيح الطالقاني من جانبهم کان في الاساس خطوة على طريق مجابهة منطق النظام الديني بطريقة مشابهة لهم في الشکل لکن مختلفة في المضمون و الهدف النهائي، ويبدو ان آية الله الطالقاني”کسائر رجال الدين المقارعين للنظام الملکي” کان يقدر المنظمة کثيرا و يدرك تفانيها و اخلاصها من أجل الشعب الايراني وهو وکما تؤکد مختلف الادلة و الوقائع التأريخية لم يوافق على تقبله للترشيح إلا بعد ان ادرك بأن منظمة مجاهدي خلق تحث عليه و تؤيده بقوة، وهنا نجد من الضروري جدا الاشارة للعلاقة الخاصة التي کانت تربط بين هذه الشخصية الکبيرة و المنظمة، حيث أن مسعود رجوي وبعد تحريره من السجن، وفي بادرة ملفتة للنظر وذات مغزى خاص، ذهب الطالقاني لزيارته و قد قال في هذا اللقاء وهو يلفت الانتباه للمواقف المبدئية و النوعية للمجاهدين الذين کانوا معتقلين في سجن ايفين أيام الشاه:( التعذيب و التحقيقات التي عرفتموها و شاهدتموها عن قرب، عندما کان يرد اسم مجاهدي خلق فإن أعصاب اولئك”أي محققي النظام الملکي” کانت تثور و يفقدون سيطرتهم على أنفسهم، وهذا کان دليلا على قوة العقيدة و إيمان المجاهدين. کانوا يستوحشون من اسم مسعود رجوي ومن اسم خياباني، في الوقت الذي کنا نعاني في قبضة هذا العدو، لکن قوتکم کانت فائقة، هذه القوة التي يجب أن لانبخس من قدرها)
کما ان الطالقاني أيضا وفي رسالة له للمنظمة تليت في إجتماع بمناسبة إستشهاد مؤسسها قد قال:(اليوم من أجل تجليل الشهداء إجتمعنا والذي ومن فيض دمائهم الطاهرة منذ سبع سنوات قد حدث الطوفان. اولئك الذين نهضوا لتحطيم الشرك و الاصنام و إقامة التوحيد. العدو المشترك أيضا لهذا السبب إنتقم منهم.”ومانقموا منهم الا ان آمنوا بالله العزيز الحميد”. اولئك کانوا تلاميذ مؤمنون لمدرسة القرآن. کانوا لآلئ يضيئون في الظلمات. حنيف نجاد، بديع زادگان، عسکريزاده‌، مشکين فام، ناصر صادق، کانوا من هؤلاء المشرقين. هؤلاء سلکوا طريق الجهاد. سلام و رحمة الله على أرواحهم”. ويقينا لو ان الطالقاني کان قد بقي على قيد الحياة و دخل الانتخابات، فإنه کان سيفوز بأغلبية مطلقة ولم يکن هناك من سياسي إيراني يجرؤ بالدخول منافسا ضده، ومع الاخذ بالاعتبار خصوصية شخصية الطالقاني و استقلاليته و ماضيه المشرق في مقارعة الشاه، وکذلك تودده لمنظمة مجاهدي خلق و توقيره لها، کل ذلك ولد علامات إستفهام کبيرة للخميني و تياره المتشدد ومن هنا فإن طرح وجهات نظر تشکك في الوفاة ليست تربط فقط بما قد سردناه وانما أيضا بالتعامل الفج و الملئ بالتوجس للنظام معه حيث کان رجال النظام کثيرا مايزعجونه و يرهقونه بأمور هو في غنى و بعد عنها، وللحديث صلة.