الرجليّن هما الزعيم الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم، والمرحوم عبد السلام عارف، قاد الرجلان حركة الضباط الأحرار في الرابع عشر من تموز سنة 1958، لإسقاط الحكم الملكي في العراق وتأسيس جمهورية عراقية ديمقراطية، وسرعان ما تحولت الحركة إلى ثورة شعبية بمساندة رئيسسية من الحزب الشيوعي العراقي والقوى الوطنية العراقية الأخرى، وكذلك من الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
ومنذ الأيام الأولى للثورة طفت على السطح بوادر الخلاف بين الرجلين، أو بالأحرى كان الصراع بين تيارين أو أتجاهين، أحدهما أتجاه عبد السلام عارف الذي نادى بالوحدة الفورية مع مصر وسوريا، وناصره في ذلك حزب البعث والأخوان المسلمين والقوميين العرب، أما عبد الكريم قاسم فكان يستمد قوته بادئ الأمر من الحزب الشيوعي العراقي والحزب، والحزب الوطني الديمقراطي، وكذلك من الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وجمع غفير من الديمقراطيين وقوى اليسار الذين لم يجدوا ما يبرر الوحدة الفورية، والعراق على أبواب مرحلة جديدة من تاريخ حكمه، بل رأوا التفرغ للشأن الداخلي، وترتيب البيت العراقي، وحل القضية الكوردية بشكل سلمي من خلال الحكم الذاتي، ورفع المستوى المعيشي للطبقات المسحوقة من العمال والشيغلة والفلاحين.
بيد أن الأحداث اللاحقة بيّنت بشكل لا لبس فيه بأن قائد إنقلاب شباط 1963 المشؤوم عبد السلام عارف لم يكن جاداً بمسألة الوحدة بقدر ما كان يريد الأستيلاء على الحكم، وحبه الجنوني للإنفراد بالسلطة، حيث أنه وبعد نجاح الإنقلاب الدموي المعروف في التاريخ العراقي المعاصر، ومن ثم إنقلابه الثاني على البعثيين في 18 تشرين، وإستلامه السلطة منفرداً لم يقم بأي محاولة جادة للتقرب من مصر وإعلان الوحدة على الرغم من لقائه بالرئيس المرحوم جمال عبد الناصر.
لكن ما يهمني هنا هو تسليط الضوء على حادثتين منفصلتين تعبر كل منهما عن القيم وخُلق هذين الرجلين، ففي اللقاء الذي دار بين قاسم وعارف في وزارة الدفاع بحضور اللواء فؤاد عارف ” وهو كوردي من السليمانية، وكان حينذاك متصرف ـ محافظ كربلاء، وهو من الضباط الأكفاء، وكان مرافق الملك غازي لفترة من الزمن، ومن دورة عبدالكريم قاسم في الكلية العسكرية أو الدورة التي تلتها، وتسنم مناصب وزارية فيما بعد ” . وبناء على محاولات قام بها بعض من الضباط الأحرار من اصحاب الرتب العالية لتنقية الاجواء بين الزعيم قاسم وعبدالسلام، وتكليفهم اللواء فؤاد عارف عن طريق طاهر يحيى ــ مسؤول مديرية الشرطة العامة ــ لمفاتحة الزعيم بذلك، فقد أثمرت تلك المحاولات بإقناع عبد السلام عارف والزعيم عبد الكريم قاسم، وكان اللقاء في وزارة الدفاع حيث مقر الزعيم … أما بالنسبة لتواجد فؤاد عارف فقط معهم في الغرفة فكان ذلك بطلب من عبد الكريم نفسه، ويقول في ذلك فؤاد عارف في مذكراته: ” إذ فضلت ألا أدخل معه، ربما كانت بينهما بعض الأحاديث أو أشكال العتاب الشخصي، فلبثت في غرفة أحمد صالح العبدي ـ الحاكم العسكري العام ـ ولكني وجدت عبد الكريم قاسم يخرج من غرفته ليدخل الغرفة التي كنت جالساً فيها وأنا أنتظر، فأمسك بيدي وقال: ” فؤاد، أنا أحب أن تكون حاضراً معنا في هذا اللقاء ” .
يسرد لنا فؤاد عارف ما دار من الحديث بين الرجلين على مدى صفحتين، وخلاصة الحديث كانت أتهامات متبادلة، لكن بعد ذلك يقول والحديث للواء فؤاد: ( أما كيف دار النقاش والمتابعة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وكيف أنتهيا ؟ فقد فكرت مع نفسي أن أتركهما وحدهما قليلاً قد تكون بينهما بعض الأسرار، فأستأذنت بالخروج، وما أن خرجت من الغرفة ودخلت غرفة السكرتير حتى وجدت ناجي طالب، ومحي الدين عبد الحميد، وعبد العزيز العقيلي، وناظم الطبقجلي، وعبد الوهاب الشواف، أمتلكهم العجب بسبب تركي لهما وخروجي من غرفة عبد الكريم قاسم، حتى أن اللواء الركن ناجي خاطبني مازحاً: ” أبا فرهاد كملت الطبخة ؟ ” قلت : ” لا والله ” . وفي تلك اللحظة سمعت عبد الكريم قاسم يناديني من غرفته التي تؤدي إلى غرفة السكرتير قائلاً: ” أين أنت ذاهب يا فؤاد؟ ” فعرفت أنه لا يريد أن أتركهما وحدهما، فعدت فوراً إلى الغرفة وأوصدت الباب من ورائي وتشاغلت بالنظر إلى بعض الصور المعلقة على الجدار والنقاش دائر بينهما وأنا أنتقل من صورة إلى أخرى حتى سمعت عبد الكريم يصيح بحدة: ” يا عبد السلام خنت الثورة من اليوم الرابع لقيامها ” فالتفت إلى عبد الكريم قاسم لأجده يخرج ورقة ويقول: ” هذه برقية، بعث بها عبد المجيد فريد، الملحق العسكري المصري في بغداد إلى الرئيس جمال عبد الناصر” وقد إستطاعت بعض الجهات أن تستحوذ على البرقية وتسليمها إلى عبد الكريم قاسم . يذكر الملحق العسكري المصري ببرقيته ما يأتي وقد قرأها عبد الكريم: ” لقد أتصلت بعبد السلام عارف وهو مصر على أن يقيم الوحدة الفورية بين العراق والجمهورية العربية المتحدة، وسوف يرغم عبد الكريم قاسم على قبول هذه الوحدة، وإذا لم يوافق فسوف يتخلص منه” . وفجأة وجدت عبد الكريم يصرخ قائلاً: ” ولك أنت شدتسوي ؟ ” أي ” ماذا تفعل ؟ ” فالتفت إلى عبد السلام عارف أذا به قد سحب مسدسه وهو يهجم على عبد الكريم قاسم ممسكاً به وما كان مني إلا أن أنقضضت بدوري على يد عبد السلام عارف وأمسكت به ثم بدأت ألوي ساعده حتى أخذت المسدس منه وكان يحاول عبد السلام المقاومة ولكني سيطرت عليه فسقط على الأرض وهو يبكي.
دفعت الضجة التي حدثت في غرفة عبد الكريم قاسم إلى فتح الباب ودخول السادة الذين كانوا جلوساً في غرفة السكرتير بالاضافة إلى عبد الكريم الجدة آمر الإنضباط العسكري، و وصفي طاهر مرافق عبد الكريم قاسم، وكان أول الداخلين هو محي الدين عبد الحميد وبدأ عبد السلام عارف يبكي وهو ملقى على الأرض، وكنت أقوم بتفريغ المسدس من أطلاقاته. وجدت عبد الكريم قاسم يصيح قائلاً: ” لو لا فؤاد لغتالني عبد السلام ” فقال عبد السلام: ” أن لم أنوي قتلك” فقال عبد الكريم قاسم : ” أذن لماذا سحبت مسدسك ؟ ” قال عبد السلام: ” كنت أريد أن أنتحر” فقال له عبد الكريم قاسم: ” إذا كنت تريد ان تنتحر، فأنتحر في بيتك، أما هنا فأنك قد سحبت مسدسك في حضور رئيس الوزراء وهذه جريمة تحاسب عليها” .
وبعد أخذ المسدس سمعت عبد الكريم يقول: ” أنا أعرف أن هناك مؤامرة لاغتيالي وأن تكتلاً من الضباط بتوجيه وتبرير عبد السلام عارف يدبر للتخلص مني ” .
وبعد ذلك يضيف فؤاد عارف أخذ الجميع يقنعون عبد السلام بالسفر إلى بون ” كسفير ” ولو بصورة مؤقتة لبضعة اسابيع ريثما تعود الظروف إلى أحوالها الطبيعية، وبعد أن وصل طاهر يحيى ليأخذ عبد السلام ليوصله إلى بيته، وأذكر أن عبد السلام طلب مني راجياً أن أطلب من عبد الكريم قاسم أن يكون في توديعي في المطار صبيحة يوم سفره، اي في اليوم التالي. وبعد أن غادر عبد السلام عارف إلى بيته وكان الوقت متأخراً طلب مني عبد الكريم قاسم فيما بعد أن ابقى معه، وفعلاً أعطاني سرير نومه وفرش لنفسه هو على الارض، وأذكر أن عبد الكريم قال لي قبل أن ينام: ” والله يا أخي، يا أبا فرهاد، منذ أن قامت الثورة وأنا وعبد السلام ننام في هذه الغرفة وأعطيه فراشي مثلما أعطيتك أياها الآن، وأنام أنا على الأرض، ولكن فرقاً واحداً بينك وبينه، هو أنه عندما كان ينام في غرفتي، كنت أنام وأصبعي على زناد المسدس خشية غدره، بينما أنا الآن سأنام الليلة مطئناً منك .. ” فحاولت أن أخفف من إنطباعه عن عبد السلام، فوافق وفعلاً ذهبنا صباحاً لتوديعه ) .
طبعاً قُدم عبد السلام لاحقاً للمحكمة وبشهادة اللواء فؤاد عارف وصفح عبد الكريم قاسم عنه أخلي سبيله، والزعيم معروف من هذه الناحية ولا تزال عبارته الشهيرة ” عفا الله عما سلف” تملأ الآذان والنفوس حسرة عليه، كما عفى أيضاً حتى عن المجرمين البعثيين القتلة الذين حاولوا أغتياله في شارع الرشيد والذي اصيب فيها بعدة أطلاقات نارية وكان صدام حسين أحدهم لكنه أستطاع الهروب والوصول إلى مصر حينذاك، ومن هناك تم تجنيده من قبل السي آي أي، ويذكر بأن الرئيس عبد الناصر قد حذر معاونيه من هذا الشاب العراقي الهارب الذي يتردد على السفارة الأمريكية .
أما الحادثة الثانية التي أود الإشارة إليها وهي يوم التاسع من شباط بعد نجاح المؤامرة والإنقلاب الذي قاده عبد السلام عارف بمساندة البعثيين في الثامن من شباط سنة 1963، حيث كانت الطائرات تقصف وزارة الدفاع، وسيطر كبار قادة الإنقلاب العسكريين على دار الإذاعة في بغداد، فكان عبد السلام عارف من ضمنهم إضافة إلى أحمد حسن البكر ــ الرئيس العراقي اللاحق بعد أنقلاب 17 تموز 1968ــ مطالبين بعدم المقاومة والإستسلام، بينما جموع الجماهير الغفيرة كانت تملأ شوارع بغداد وحواليّ وزارة الدفاع تطالب الزعيم بإعطائهم السلاح لإجهاض الإنقلاب، لكن الزعيم أبى ذلك وقال : ” أنهم يريدونني أنا، ولا أريد حرباً أهلية بسببي “، فحلق لحيته وبكامل قيافته العسكرية توجه وكان معه العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الثورة، ومرافق الزعيم وصفي طاهر إلى دار الإذاعة، حيث وبمجرد وصولهم أنهالت عليهم قيّم النذالة وحكم الجبان، بالإهانة، وبأقل من ساعة قرروا التخلص منهم رمياً بالرصاص، يذكر بأن أحمد حسن البكر لم يكن مع حكم الإعدام، وذلك لعدة إعتبارات منها أن الوقت كان شهر رمضان والزعيم كان صائماً، إضافة إلى أنه قال أن عبد الكريم قاسم اثبت في هذه الظروف الحرجة بأنه عسكري منتظم حيث جاء بكامل قيافته العسكرية وحالق الذقن، لكن اصرار عبد السلام عارف أدى إلى رميهم بالرصاص، وقتلهم دون أي محاكمة أو حتى أعطاء الوقت للدفاع عن نفسهم إن كانوا حقاً مذنبين.
فبين هذيّن الواقعتين نرى بوضوح كبرياء هذا الرجل وأعني الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم وشجاعته وترفعه عن البقاء حياً على حساب الجماهير التي ستداس تحت زناجيل الدبابات ورصاص الجيش في بغداد، إضافة إلى روحه المتسامحة التي أودت بحياته لاحقاً.
وفي المقابل نرى رجلاً من طراز آخر وهو عبد السلام عارف الذي جُبل معدنه على الغدر والصلافة والحقد والتشفي وروح الإنتقام، وكتب التاريخ ومذكرات الذين عاصروا تلك الأحداث لا تخلو واحدة منها بذم هذا الرجل وطبائعه العدوانية، والغطرسة وحبه الجارف للتفرد بالحكم، وحب الظهور، كما لم تكن لهو مؤهلات قيادية، وخطيب فاشل، ورجل فارغ وخالٍ من أية كاريزما كقائد لبلد مثل العراق، وتحضرني الآن عبارة السفير البريطاني الذي كان المخطط والمهندس الرئيسي لإنقلاب 8 شباط، حين هنأنه شاه إيران بنجاح الإنقلاب. أجابه ما معناه : ” أن أصعب شئ يمر عليك في حياتك أن تتبرأ من شرف أنت صنعته ” بمعنى أن السفير البريطاني في العراق كان جوابه للشاه بعدم التدخل ولا علم له بما حصل، والحقيقة هي أنه مهندس الإنقلاب. ( لا أذكر أسم الكتاب الذي قرأت فيه هذه العبارة وهي من وثائق السفارة البريطانية في العراق ) .
فليس عجب أن تتوالى الإنقلابات لاحقاً في العراق وبأكثر دموية، لحين إستلام صدام حسين الحكم وإغراق العراق ببحر من دماء العراقيين، وما يحدث اليوم في العراق من تقتيل وتفجير ومفخخات وذبح على الهوية، ليس إلا آخر حلقة من سلسلة تلك الإنقلابات العسكرية التي بدأت بإنقلاب بكر صدقي العسكري سنة 1936، وآخرها محاولات البعثيين العودة لحكم العراق هذه المرة من خلال تغلغلهم في أجهزة الدولة العراقية التي لم يكتمل بنيانها بعد، ومن خلال سلم الديمقراطية وسيطرتهم على المجلس الوطني العراقي ليعيدوا عجلة الزمن إلى الوراء، لحكم الحزب الواحد واللون الواحد.

