لقد كان شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري صاحب الرائعة الشعرية الذائعة الصيت ( قلبي لكردستان يهدى والفم ولقد يجود بأصغريه المعدم ) محقا عندما بدأ مناجاة نهر دجلة من منفاه الأوروبي الاجباري في ستينات القرن الماضي معبرا عن مشاعر الاحباط لدىمئات آلاف العراقيين الفارين من شرور الدكتاتورية الموزعين حينذاك في سائر أرجاء العالم قائلا : ” يادجلة الخير هانت مطامحنا وأن أدنى طموح غير مضمون ” فشجاعة الشاعر المناضل الراحل أسعفته باطلاق اعترافه على الملأ سابقا بذلك مرجعيته السياسية وحركته الوطنية العراقية المعارضة مسجلا – للتاريخ – بلغته الشعرية الجميلة وبرمزية بالغة المعاني شهادة واقعية مشوبة بنقد ذاتي بمنتهى الوضوح وبالنيابة عن الكثيرين عن التسليم ليس بالعجز عن اسقاط الدكتاتورية فحسب بل فقدان أمل تغيير النظام الشمولي المستبد الذي كان يرتكز على قاعدة الأمن والعسكر والميليشيات المسلحة والخدمات السرية بحيث يعصى على الاختراق والتبديل بدون تضامن دولي مع الشعب المغلوب على أمره والمنشغل باحصاء القتلى وتأمين لقمة العيش تماما كما هو حال ما تبقى الى الآن من أنظمة شمولية مماثلة وعلى الأغلب لو توفرت في زمن الجواهري قوانين فوق وطنية تجيز باقامة محاكم جنائية دولية للنظر في قضايا ارهاب الدولة وجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية بحق الشعوب والجماعات وفكفكة نظم الاستبداد والدكتاتورية والقهر لكان أول الداعين لأكثر من محكمة جنائية خاصة بمأساة الشعب العراقي .
وبما أن الشيء بالشيء يذكرفقد قادتنا تطورات الأزمة الناشبة الآن بين حكومتي العراق وسوريا التي تجسد مقرا وممرا للعدوان على البلد الشقيق منذ سقوط نظام صدام الى استرجاع الماضي وهي محصلة ستة أعوام من معاناة العراقيين من المفخخات والتفجيرات وأعمال القتل والارهاب التي راح ضحيتها مئات الألوف من جانب أجهزة أنظمة الجوار عامة والسوري على وجه الخصوص حيث يستحوذ على حصة – الأسد – من الجرائم المرتكبة وخاصة في الموصل وضواحيها وتلعفر وسنجار ومناطق غرب العراق وقلب بغداد وكركوك ( 90% ) حسب الاحصائيات الدقيقة العراقية والأمريكية وتتقاطع تلك الحقائق مع شهادات السوريين في العديد من المناطق والمواقع ابتداء من القادمين عبر مطار دمشق والمنتشرين في الفنادق والشقق والمشاركين في دورات التدريب بالمعسكرات السرية والمتوجهين الى مراكز الحدود السورية – العراقية بواسطة سيارات الأجرة أو رسمية جلها لايحمل الارقام ومكاتب عائدة لعراقيين بحراسات وشقق سكنية موزعة بين دمشق ومساكن برزة والتل واللاذقية وحلب والحسكة ودير الزور والبوكمال والقامشلي ومشاهد اقامة بيوت العزاء ( لشهداء ) ما تسمى بالمقاومة في الكثير من المدن والبلدات وبينهم أفراد سورييون ينتمون الى مجموعات الاسلام السياسي المعروفة ان كل ذلك والذي يمكن ملاحظته أو مشاهدته بالعين المجردة لايكفي كأدلة دامغة بنظر حكام بلادنا أو وثائق تدين النظام وأجهزته المجربة والمختصة بمثل هذه الأعمال وعمليات التفجير لاتترك من ورائها أثرا غير الدمار والخراب والدماء وليتفضل أصحاب ” الأخلاق ” الحميدة في نظام بلادنا بالسماح لتحقيق عربي – دولي محايد حول مئات السيارات المحملة بالأموال المنقولة وغير المنقولة بمرافقة حاشية النظام المخلوع وأفراد عائلة الطاغية قبيل السقوط ومواكبة أمنية سورية من بوابة ربيعة الحدودية الى دمشق مرورا بالقامشلي وكذلك الكشف عن ما حمله المجرم علي حسن المجيد – الكيمياوي – في آخر زيارة له الى دمشق واجتماعه برأس النظام وبقيادة حزب الله اللبناني وما كان يحمل من هدايا ( أموال وأسلحة بيولوجية وكيمياوية ) .
كضرورة موضوعية واستجابة لواقع حال المظلومين – شعوبا ودولا وأقواما وأفرادا – العاجزين عن الدفاع عن انفسهم والرد بالمثل على المعتدي – نظاما دكتاتوريا أو أجهزة ومنظمات ارهابية – انبثقت فكرة اقامة المحاكم الجنائية الدولية برعاية هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديدا منذ دخلت حيز التنفيذ عام 2002 وعرفت بنظام روما الأساسي المخول حسب بنوده المصدقة بالنظر في : 1 – جريمة الابادة الجماعية . 2 – جرائم ضد الانسانية . 3 – جرائم الحرب . 4 – جرائم العدوان وقد انيطت بهذه المحاكم حتى الآن عدة قضايا هامة من بينها ملف اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري التي يشكل فيها النظام السوري المتهم الأول والرئيس اليوغسلافي الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش المتهم بممارسة الابادة الجماعية ضد شعب أعزل الذي انتحر في سجنه والرئيس السوداني عمر البشير المتهم بجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية ضد شعب دارفورأيضا وحسب اعلان الحكومة العراقية تجري التحضيرات القانونية لمطالبة الهيئة الدولية بالنظر في تشكيل محكمة جنائية خاصة بأعمال القتل الجماعي والارهاب التي تقف من وراء غالبيتها أجهزة النظام السوري ولاشك أن العراق الجديد الذي لم تكتمل بعد عوامل اعادة بنائه المغلوب على أمره لم يكن يقدم على هذه الخطوة غير المضمونة أصلا لو كان قادرا على التصدي ورد الصاع صاعين خاصة وأن طبيعة الحكومة العراقية التوافقية التشاركية ومنحاها الديموقراطي العام وشفافية مواقفها السياسية الخاضعة لمساءلة البرلمان لاتسمح بأي عمل انتقامي أو تنفيذ أي مخطط عنفي بعكس المنظومات الأمنية االشمولية كما هو واقع الحال في بلادنا سوريا التي تدار من جانب الحزب الواحد والجماعة الواحدة والعائلة الواحدة والرئيس الواحد حيث الأجندة السرية سيدة الموقف وهذه الحقيقة لاتعني ضعف الجانب العراقي بل أنه الأقوى على المديين المتوسط والبعيد وأن الدائرة ستدور على نظم الاستبداد ورموزها الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء كما حصل بالأمس القريب مع النظام البعثي العراقي المخلوع التوأم لنظام دمشق ومع دكتاتور الصرب وما يجري لطاغية السودان .
هناك مصلحة لأصحاب الحقوق المهدورة بل وفرصة تاريخية لقوى الشعوب التحررية الوطنية والديموقراطية وحتى الكيانات الحديثة الطامحة لاعادة بناء الدول على أسس سليمة عادلة على أنقاض الدكتاتورية والاستبداد لأن تتخذ الاستعدادات اللازمة في ممارسة حق المطالبة بانشاء مثل هذه المحاكم ذات الطابع الدولي كوسيلة نضالية جديدة وفرها القرن الجديد وزكاها المجتمع المدني في سائر أنحاء العالم وشرعها مجلس الأمن الدولي للدفاع عن الحقوق والوجود ومعاقبة المعتدي والتوصل الى الحقيقة واذا كان انشاء هذه الحاكم مازال يخضع لتعقيدات قانونية وشروط لاتتوفر في حركات الشعوب المناضلة الرازحة تحت تسلط نظم الاستبداد مثل الشعب السوري لانجازها وهو لديه المبررات الكافية للمطالبة بانشاء أكثر من محكمة جنائية ان كان مايتعلق بجرائم النظام السابقة واللاحقة منذ أن تسلم حزب البعث السلطة عبر الانقلاب العسكري بداية ستينات القرن الماضي ونهب أموال الشعب السوري وحجزه في سجن كبير بواسطة الأحكام العرفية وقانون الطوارىء وقتل أبناء الشعب الكردي في نوروز والربيعين الداميين وعلى رأسهم شيخ الشهداء معشوق الخزنوي أو التنازل عن الأرض الوطنية لاسرائل وتركيا أو عقد الاتفاقات الأمنية السرية مع الأجهزة الايرانية والتركية على حساب السوريين وشعوب الجوار أو الاساءة للقضية الفلسطينية أو الاعتداء السافر عبر أعمال الارهاب والقتل على الشعبين اللبناني والعراقي نقول اذا حالت الأسباب القانونية الاجرائية دون تمكن السوريين من النجاح في عقد المحكمة لنصرة العدالة فبامكانهم وعبر منظماتهم وأفرادهم تقديم الشهادات والوثائق والأدلة تتعلق بممارسات النظام وأجهزته القمعية لأية محكمة جنائية دولية تبحث في ملف النظام السوري ان كان في لبنان أو العراق وهو أمر لايتعارض مع الدستور والتعاون مع هيئة الأمم المتحدة وبلادنا عضو فيها ومنظماتها الحقوقية والانسانية لايشكل مخالفة للقانون ويزيل شبهة الاتصال بالدوائر الأجنبية المعادية ويفند تهمة التواصل مع الخارج الجاهزة دوما لتقييد حرية مناضلي الحركة الوطنية الديموقراطية السورية ..