إني أمقتك أيها الطاغية المستبد
فهل تستطيع أن تقرأ أفكاري ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخبر الذي اُشيع في المدينة توسع وانتشر
ورددت أصداءه القرى المحيطة بها ,
حتى أصبح في حُكم الحقائق المؤكدة لدى معظم الناس .
وهوََّ : إن المارشال يمتاز بفراسة ٍ غريبة ٍ لا مثيل لها عند أي من البشر .
فهوَّ يستطيع التعرف على مُناوئيه
بمجرد نظرةٍ بسيطةٍ من وراء نظارته السوداء .
وقيل : إنه يستطيع قراءة أفكار الآخرين على بُعد مئات الأميال .
وقيل : إنه يرى صوراً لوجوه اعدائه في لحظات تأملاته الخاصة ،
فيسهل التعرف عليهم فيما بعد .
وقيل ايضأ : إنه محاطٌ بعددٍ من العرّافين الكبار
يقرأون له الطالع كل صباحٍ ومساء ،
وقيل … وقيل الكثير عن المارشال حتى تضخمت شخصيته
وأُحيطت بها هالة ٌ من علامات التعجب ،
وصار الناس يهابون بطشه وفتكه ،
فإنفرد في استبداده المطلق .
***
كنتُ واحداً من بين مئات الأفراد الّذين إكتظت بهم سجون المارشال
ودهاليزه المظلمة ، وأنفاقه الرطبة التي تزرع اليأس في النفوس ،
وتدس اليها الموت ببطئ .
كانت تلك الأمكنة لا تميِّز بين النساء والأطفال والشباب والشيوخ ،
فقد توزعوا بمكرمةٍ من المارشال في زواياها بتهمةٍ أو بدونها .
يوم ألقوا بي هناك كنت متردداً في تعاطفي مع الثوار
الَذين يخططون للإطاحة بالمارشال ،
وتساورني الشكوك في مقدرتهم على تحقيق الإنتصار .
وإن َّ بذور الامل التي ينثرونها لن تثمر أبداً .
هكذا كان شعوري وبرغم ذلك فقد إعتقلوني
بمجرد الشك في عدم ولائي لسلطة المارشال
***
ذات يومٍ لم نكن لنُميِّز فيه بين الليل والنهار …
وكيف لنا أن نعرف ذلك في قاع تلك الظلمة الدامسة .. ! ؟
دخل السجانون علينا بهراواتهم الغليظة ،
وإقتادونا ضرباً وركلاً وعتلاً الى الساحة الكبرى لحامية البلدة .
ووزعونا على شكل طوابير في صفوفٍ طويلةٍ ،
بعد أن كبلوا أيادينا الى الخلف وأحكموها بوثاق من حديد .
وأخبرونا بواسطة مكبرات الصوت أن المارشال سيصل بعد بزوغ الشمس ،
لكي يتعرف بنفسه على المخربين من أعدائه
فينالوا جزاءهم رمياً بالرصاص أمام الحشد .
وإنتظرنا طويلاً حتى إنتصفت شمس الظهيرة ،
ومرَّت الدقائق ثقيلة ً في حساب الزمن الّذي لم نعرف كم تبقّى لنا منه .
أخذت ساقاي تصطكان ببعضهما ولا تقدران على حملي من شدة التعب والإرهاق ،
وأوشكتُ على الإستسلام للمصير الّذي ينتظرني في حال وصول المارشال …
وأخيراً إنطلقت الأبواق ُ معلنةً عن وصول المارشال ( صاحب الفراسة الفريدة )
إنتابني الإضطراب وتسارعت نبضات قلبي ودكت أضلاعي بعنفٍ ،
حين بدأ المارشال بإستعراض المحتجزين
وإطلاق رصاصة ٍ غادرةٍ على رأس من يقع عليه إختياره .
تساقط العشرات مضرجين بدمائهم …
وإقترب موكبه من الطابور الّذي أقفُ فيه ..
فأيقنتُ بإقتراب الأجل وإرتخت مفاصلي ،
ويبس لساني وتهيأت جمجمتي لتستقر فيها رصاصة من مسدس المارشال .
* * *
تبصّرتُ الشمس لأمتع ناظري بآخر لحظات اللقاء معها .
رأيتُ أشعتها تخترق أديم الأرض ،
تابعتها فإذا بالأرض تنشق رويدأً رويداً وينحدر إاليها دماءُ الضحايا .
وبلمح البصر إنبثقت من بين تلك الشقوق سنابل خضراء ،
نَمَتْ بسرعة في الحال وإرتفع قوامها الممشوق ،
وتحولت إحداها الى فتاة بثوب أخضر،
ووجه صبوح وعينين مزينتين برموش ذهبية .
إبتسمتْ بوداعة ٍ وتقدمت نحوي ،
وشدت على ذراعي بلمسةٍ رقيقةٍ ،
ثم عانقتني بشوقٍ وقبلتني بحرارة .
شعرت بقوةٍ عارمةٍ تثبتُ أقدامي ،
وشحنةٍ عاليةٍ من الشجاعة تسري في شراييني .
فعادت نبضاتي لطبيعتها ،
وإنزاح من بين ضلوعي ذلك الخوف الّّذي كان ينتابني .
أحسست ُ بالإطمئنان حين تأملت جميع السنابل الخضراء وهي تعانق السماء .
* * *
بعد لحظات مرَّ المارشال من أمامي .
حدقني من خلال عدستي نظارته ،
فرمقتُ فيهما شزراً ونظراتي تُهشمُ أسوارهما لتخاطبه بصلابةٍ :
ـ إني أمقتك أيها الطاغية المستبد ..
لم تستطع فراسته المزعومة التي قيل عنها الكثير أن تقرأ أفكاري ،
وتتعرف علي َّ .
ومضى عني وهو يأمر بفك قيدي .
حينها أدركتُ أن كل َّما رُوِِّج عن تلك الفراسة وهمٌ وزيفُ وكذبٌ وخداع .
خرجت من تلك التجربة وأنا مصممٌ هذه المرة للالتحاق بصفوف الثوار .
وبدأْتُ من ساعتها أزرع الرعب والخوف في قلب المارشال
حتى توقفت نبضاته تماماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيدر الحيدر ـــ بغداد ـ مايس 2003
من مجموعتي القصصية ( أصداء تدوي في فضاءات أحلامي )