الحلقة الأولى
يُحبب إلى النفس الكوردي تلك الروايات والأساطير الخيالية التي تتحدث عن الماضي والغموض والمجهول ،
وقد كانت لسماعها من ذوي الخبرة الرواة والحفاظ مقاماً مرموقاً لديهم ، وكانوا يتخذون الحديث عنها بمثابة طقس مقدس يمارسونها في ليلهم الشتوي الطويل ، بل وكان الحديث عنها يأخذ جزءً كبيراً من وقتهم في المضافات التي كانت يديرها وجهاء القرى والعشائر .
ومع تكاثر الناس وظهور معجزة الكهرباء في الأرياف ، فقَدَ رواة القصص والدراما الخيالية مكانتهم لدى المضافات والتجمعات ، وحلت مكانهم الوسائل الإعلامية الحديثة ، الراديو والتلفاز والديجتال … ، التي أخذت حيزاً كبيراً لدى المشاهدين ، مما دفعهم إلى نسيان تلك القصص التي كانت تروى عن عالم الجان ، وكيف أنهم كانوا يظهرون في وضح الليل دون خوف ويلازمون الظلام الدامس ، ويتعايشون مع الناس ، أحياناً في صراع وأخرى في وئام .
ولعل من أهم الأسباب التي جعلت تلك القصص تفقد مستمعيها هو تكاثر الناس بالشكل الذي جعل من الجن كما يقال الرواة : ( الرحيل عن عالمنا ) .. وقد يكون هذا المقياس هو نفسه سبباً لعودة تلك القصص والروايات ( عندما يقل الناس تعود الجن ) .
ولعل التفريغ المبرمج الذي حصل في المدن والأرياف الجزيرة بحكم الهجرة المليونية للناس جعلت منها أرضاً خصباً لعودة الشبح ، لتعود بعد ذلك أريا فها إلى العصور ما قبل التاريخ ، وإفراغ قرى كبرى برمتها من السكان تسببت في وجود مسافات شاسعة فارغة بين القرى ، التي بقيا في بعضها القليلين من السكان ، فخففت التنقلات فيها ، وتوقفت عجلة السرعة التي كانت تمثلها المركبات ، واختفت الأصوات التي كانت تصدر من المحركات الوقودية ، التي كانت تستخدم لاستخراج المياه لزراعة السقي ، بسبب رفع سعر الوقود الذي لم ينخفض حتى اللحظة ، وعدم وجود الدعم اللازم من قبل السلطان المعنية والمختصة والمحتكرة لكل شيء .
وإنك حينما تمر بتلك القرى ليلاً تجد فيها الانقراض الحقيقي للكائن البشري ، حيث لا حركة ، ولا صوت ولا كهرباء ، الصمت العائم سكن المكان ، مما يدفع بالمرء إلى الإحساس بالخوف والرعب ، وتذكر تلك القصص الخيالية المرعبة التي كانت تتناولها الناس في قديم الزمان ، وتخيل كيفية نهاية البشرية بهذا الشكل البشع والمريب !؟..
وبذلك عادت تلك القصص والروايات بشكل دراماتيكي إلى الأرياف وأصبح الناس يداولونها بشكل عادي ، وإنك تجد أكثر الأحاديث تشويقاً في الأماكن العامة حديث الجن والشبح ..!؟.
وفي غضون السنين الخمسة الماضية وبعد قحط المواسم الزراعية التي كانت أهم مصادر المعيشة لدى الناس ، اضطر مئات العائلات الكوردية الهجرة القسرية من أرياف الجزيرة متجهين ثوب المدن الكبرى ، لاقتناء فرصة عمل يأمن لذويهم لقمة العيش ، تاركين ورائهم آلاف الذكريات المنسوجة في ذاكرة أطفالهم ، وتلك الأحلام المنهارة التي رسموها وبنوها على جدران بيوتهم .. وفي بساتينهم الخضراء التي تحولت إلى قطران بفعل الأيادي الحقودة على الشعب الكوردي ، الحاقدين الممجوجين الذين يقومون بتمشيط المنطقة بشكل مبرمج ومدروس ، يفرغونها من سكانها الأصليين .. فبعد الهجرة المئوية الشبابية التي اكتظت منها شوارع الدول الغربية ، تأتي الهجرة المليونية القديمة الجديدة المتجددة بفعل المراسيم العنصرية لتفرض أثقالها ومتاعبها على الشعب الكوردي لتهدد بنيانه الاجتماعي ، ومكانته التاريخية في عقب داره ، والتي بدأت أي المراسيم العنصرية شرارته ا مع الإحصاء الجائر سنة 1962والحزام العربي العنصري الذي يطبق بأمتياز ، وازدادت وتيرتها بشكل غير مسبوق في هذا العام والعام المنصرم ، بحكم المشاريع التهجيرية الممنهجة التي تديرها الدوائر الحقودة على الشعب الكوردي ، بغية التخلص من وجوده في مناطقه التاريخية ، ليهدد بذلك السلمي الأهلي ووحدة ترابه الوطني المقدس .
فبعد تطبيق المرسوم المشؤوم ( 49 ) الذي عطل كافة الأعمال والأعمار في الجزيرة وشمال سوريا عموماً ، توالت بعدها عدة مشاريع عنصرية ، ممتدة إلى اللحظة ولم يستثني منها حتى البعثيين الكورد ، والموظفين في الدوائر الحكومية ، ومعلمي المدارس ، وغيرهم أصحاب الدخل المحدود من العمال وصغار الكسبة الكورد ، في مرافئ ومجامع العمل الحكومي ، وتم تعطيل الأيدي العاملة ، بعد شل حركة الأعمار ، وانعكست بذلك على أصحاب الاختصاصات والمهن من المهندسين والأطباء والصيادلة وغيرهم ، الذين تركوا قراهم ومدنهم بعد إفراغها من الناس ، ملتحقين بهم إلى المدن الكبرى والعاصمة دمشق على الشكل الخصوص ، التي لم تعد تتحمل ثقل البشري الهائل ، الذي وحسب الإحصاءات بلغت أكثر من عشرة مليون نسمة ، معظم المهاجرين فيها من أبناء المجتمع الكوردي المُهَجَر . ومن الطبيعي أن يلتجأ المهاجرين إلى السكن في الضواحي لضيق المدينة ، وعدم تحملها هذا الكم الهائل من البشر ، فدفع الحال بهم إلى إقامة مخيمات شبيهة بمخيمات دارفور ، وقيل ان بعض المهرطقين من الأغنياء وأبناء المسؤولين اعتقدوا أن تلك الخيم إنما للنور مما دفع بالكورد إلى الكتابة على واجهاتها ( لسنا نوراً وإنما مهاجري الجزيرة ) .
وإنك تلاحظ صدى ذلك في شوارع دمشق العاصمة التي اكتظت بالعمال الكورد ، ذكوراً وإناث ، حيث عشرات العائلات الكوردية ليس فيهم معيل سوى فتيات ، قد عرضتهم الظروف المعيشية الضنك إلى العمل في أي مكان المهم منها تأمين قوت يومهم ، مما عرضهم ذلك إلى الإهانات والخضوع لرب العمل ، كل ذلك يجري على مرمى ومسمع الحكومة التي تفننت في انتشار دوائرها الأمنية ، وغير مستعدة في مساعدة مواطنيها الكورد ، ورافضة في عمل أي شيء ، وبدل ذلك زاد وتيرة قمعه في خلق المزيد من المعانات اتجاه المواطنين الكورد ، بالملاحقات الأمنية العشوائية ، وفرض مراقبة صارمة على أماكن سكنه وعمله ، مما رفع نسبة البطالة بشكل مخيف ومرعب داخل العاصمة ، وأصبح من المستحيل إيجاد فرصة عمل فيها ، وكل ذلك دون تدخل الجهات المختصة في حل أذن الجمل من المشكلة .
وكأن ما يجري ليس للدولة به علاقة ، وليسوا حكومة وجِهات مختصة من واجبها حل مشاكل المواطنين .. مع أنهم يشاطرون في الحديث عن المواطنين ويدعّون ذلك في الجرائد الرسمية والوسائل الإعلامية التابعة لهم ، مما يذكرنا بمشهد لمسرحية عادل إمام ( الزعيم ) حيث يظهر فيه يستعد ليخاطب الشعب ولكنه نسي أسم الشعب . والسؤال الأعظم هو من هذا المواطن الذي يتحدثون عنه ليلاً ونهاراً ويتغنون في سيرته جهاراً !؟. أهو الشبح .. أم المُهَجَر .. أم من .
وللحديث تتمة ..