يقول سون لقد قبلت ذلك حامداً شاكراً وعندما كانا في العراء امام الطبيعة عبّر الشيخ الأربيلي عن احاسيسه بعبارة طويلة (الله اكبر) ثم اشار الى سون بان ينظر الى جمال مجرى عظيم يتدفق ماؤه عارماً وضفتاه الملونتان بلون اصفر والشجر المخضوضر اخضراراً فاتحاً نابضاً بحياة سنة جديدة. وجلس الشيخ صامتاً مرة اخرى وارسل النظر بعينين ضيقتين الى الجبال البعيدة وما ان عاد الى الكلام الا وتدفقت روح كردي جبلي بكلمات خشنة وبلهجته الخاصة.
ان الله، الله، الله غير المنظور، تتجلى عظمته وجلاله في اعيننا ورحمته في قلوبنا وعقولنا. ويحاول الحاج ولي الأربيلي ان يشرح فلسفته في الخالق والكون بيد ان سون يخلص الى ان الشيخ كان يعاني من شيء من الازدواجية ويذهب الى ان هذه الحالة (الشخصية المزدوجة) وجدها في فارس بكثرة ويمكن ان نستنتج من مجمل انطباعات سون حول هذا الشيخ هو انتقاله بين اقصى الواقعية واقصى الخيال، ولقد وجده في موقفين خرج منهما الشيخ عن طوره اولهما حين رشق بعض قطاع الطرق (الكلك* ) بالنار اذ يقول سون لقد عني كل منهم باتخاذ البالات درعاً له وعلى الرغم من انهم كانوا يعلمون باننا سنتجاوز الازمة لكن دم الكردي العجوز – ويقصد الشيخ ولي – فار لمجرد تصوره انه لم يكن مالكاً بندقية يجيب باطلاقاتها على اطلاقات مهاجمينا. اما الجندي التركي الذي كان مسافراً على الكلك فقد حشر نفسه بين اكياس المشمش وجماعة الكلك اما الموقف الثاني فقد رأى الشيخ الورع وهو يشتم الاتراك وبعصبية بالغة فقد كان لدى الشيخ العجوز جواز سفر اعطي له عندما ترك الجيش قبل 35 عاماً ايام السلطان عبد العزيز وقد اجبر على دفع مجيدي لانه على هذا الحال من القدم (91-108).
يعقوب باشا
يذكر نوئيل في مذكراته العشائر الكردية في كردستان الشمالية التي زارها ويصف رؤساء هذه العشائر، وكان هدف نوئيل مع الوفد الكردي الذي كان يصاحبه دراسة مشروع تأسيس كردستان مستقلة في تركيا على ان تكون تحت الانتداب البريطاني.
لقد التقى نوئيل في جولته تلك عام 1919 عدداً من رؤساء العشائر بيد اننا اثرنا اختيار واحد من اولئك الرؤساء نموذجاً لفترة ما بعد الحرب العالمية الاولى في منطقة ما يسمى اليوم بكردستان تركيا.
يذكر نوئيل ان يعقوب باشا رئيس عشيرة (أتمي) الكردية هو نجل سليمان اغا بن محمد اغا بن باز اغا بن اساف اغا بن ابراهيم اغا، وله شقيق واحد واسمه شيخ محمد وهو متزوج من ابنة تابو اغا.
لقد كان نحيف البنية طوله خمس اقدام وتسعة انجات وتعلو وجهه تعابير، هي مزيج من القلق والشك والمكر، ولكن ربما كان السبب في هذا المزيج من الملامح زجه في السجن في السنة الماضية، أي السنة التي سبقت لقاء نوئيل به. فقد سجنه الاتراك تسعة اشهر بتهمة مساعدته (لعصابات قطاع الطرق) وطبيعي هذا المصطلح وما يشابهه من المصطلحات التي تزدحم بها قواميس الحكومات المتعاقبة والمقتسمة لكردستان، تطلقه على كل رجل او فئة يناضل من اجل تحرير كردستان ومن اجل حق تقرير المصير لهذا الشعب.
كان يعقوب باشا حسن الاطلاع ولكن يبدو عليه الاندفاع والاثارة ويمكن ان يتحسن كثيراً لو عومل معاملة جيدة، ولكن كرهه للاتراك مسألة واضحة تماماً وقومي متحمس للكرد (39).
وفي موقع اخر من مذكراته يقول نوئيل، انه حوسب مع عشرين شخصاً كانوا في معيته. وقد قام الاتراك بضرب هؤلاء المرافقين العشرين لينتزعوا منهم الشهادة ضد يعقوب باشا.
تسعة منهم صمدوا ولم يذعنوا اما البقية فقد اذعنوا وادلوا بما كان المطلوب منهم ان يقولوا. انه ليس من الصعب لان نتصور مدى ما يشعر به يعقوب باشا من مرارة واسى بازاء الترك، ولكنه في هذا المجال ليس الوحيد اذ يشاركه الزعماء الكرد هذه المشاعر في المنطقة بأسرها (13).
التجارة والاقتصاد
يتضمن هذا الفصل عرضاً لانطباعات ومشاهدات عدد من الشخصيات التي زارت كردستان وهي غير متخصصة في الاقتصاد أو التجارة بيد انها سجلت في مذكراتها نتفاً عن الواقع التجاري والاقتصادي. الحقيقة لا يمكن الكتابة والتعمق في هذا المجال والمؤلف محدد بحدود كتابه الواضح من عنوانه من جهة ومن جهة أخرى وهي الأهم ان الواقع الاقتصادي يرتبط بالواقع السياسي حتماً، أي الاقتصاد في ظل المؤسسة السياسية. ولما كانت مثل هذه المؤسسة غير واضحة المعالم لا بل لا هوية حقيقية لها، لأن كردستان التي زارها الرحالة وكتب عنها المستشرقون ليس لها وجودها السياسي الموحد من جهة ومن جهة أخرى فأن اقتصادها خاضع إلى قطبي جذب كبيرين وهما دولتا إيران وتركيا. فبالرغم من ان المنطقة منطقة إنتاج اقتصادي لكنه كان ولم يزل اقتصاداً تابعاً وليس مستقلا بسبب العلاقة الجدلية بين العامل السياسي والعامل الاقتصادي. هذا مما جعلنا لا نجد ملاحظات (اقتصادية علمية محضة) في مذكرات وكتابات الرحالة والمستشرقين بل جاءت ملاحظاتهم وصفاً لما تنتجه المنطقة وحركة السوق من صادرات وواردات وضرائب.
وبالرغم من اقتضاب الفصل فاننا نعتقد انه يمثل صورة لا بأس بها عن الجانب التجاري والاقتصادي من وجهة نظر البعض ممن زاروا كردستان ضمن الحقبة التي تبناها هذا الكتاب. جاء في مذكرات ريج 1828 لم تكن تجارة السليمانية تجارة واسعة، وهي بوجه عام منحصرة بين السليمانية والاماكن المدونة في ادناه، وتنقل بواسطة القوافل:
تبريز – تخرج عادة إلى تبريز قافلة واحدة في كل شهر، لكن ذلك لم يكن بانتظام. وتعود القافلة محملة بالقز، والاقمشة الحريرية وغير ذلك، ويصدر اكثر القز إلى بغداد اما الأقمشة فتستهلك في كردستان، وصادرات السليمانية إلى تبريز هي التمر والبن وغيرهما من المواد التي تجلب عادة من بغداد.
ارضروم – تخرج سنوياً قافلة واحدة على الاقل من السليمانية إلى ارضروم، وهي تحمل التمر والقهوة وغير ذلك فترجع بالحديد والنحاس والبغال. وهم يشترون الكثير من هذه الحيوانات ويستوردونها واحسن بغال هذه البلاد من ارضروم.
همدان وسنه – تصل شهرياً من هاتين المدينتين قافلة صغيرة محملة بالدهن والفواكه المجففة والعسل والفولاذ الوارد من اطراف بحر قزوين.
كركوك – المتاجرة مع كركوك مستمرة دائمة، وتستورد منها الأحذية وبعض الأقمشة القطنية الخشنة. اما صادرات السليمانية اليها فهي البقول والعسل والعفص والسماق والفواكه والرز والدهن والقطن والاغنام والمواشي. وكركوك في الحقيقة سوق رائجة لجميع منتوجات كردستان.
الموصل – المتاجرة مع الموصل مستمرة بعض الاستمرار. وتستورد منها الأحذية والغتر والخام والاقمشة القطنية الملونة، ومنتوجات الشام وديار بكر وغير ذلك. اما الصادرات اليها فالعفص وغيره.
بغداد – المتاجرة بين السليمانية وبغداد دائمة وتستورد السليمانية من بغداد التمر والبن والمنتوجات الهندية والاوربية والاقمشة. اما الصادرات اليها فهي البقول والتبوغ والجبن والدهن والسماق والصمغ والشحم والصابون الاعتيادي- صابون الشحم. (217-8)
يذكر سون الأحوال الاقتصادية والتجارية في مطلع القرن العشرين، فقد غدت السليمانية سوقاً لحاصلات كردستان الجنوبية كلها، ذلك ان البسط كانت تردها فتباع او تحمل الى الموصل وبغداد، وكذلك صمغ الكثيراء المستورد من بانه يباع في السليمانية ويفضل على بيعه في مدينة سنه في كردستان إيران.
Taakhi