ويستطرد ايكلتون، ان مثل هذه الشخصية المركبة بإمكانها ان تبعث وبشكل واسع عواطف واراء متباينة بين الاشخاص ممن عرفوه او كانوا ملزمين للتعامل معه. (51)
والحقيقة لنا تعليق على ما جاء في وصف ويليم ايكلتون، ان كتابه حول جمهورية كردستان كتاب قيم اقتنيته وقرأته عندما كنت اعمل في المملكة العربية السعودية عام 66/1967.
وكان هذا الكتاب الشريان الوحيد الذي يربطني من السعودية بكردستان.
نعتقد ان ايكلتون غير دقيق في وصفه لـ (مصطفى البارزاني) بشعوره بوجود نواقص في فرص تعلمه. نقول لنفرض كان (مصطفى البارزاني) له هذا الشعور ولكن من اين اتى وليم ايكلتون بهذا الكشف. هل صرح (مصطفى البارزاني) يوماً بهذا التصريح؟ إذن كان عليه أي على المؤلف ان يذكر ذلك. هل اخبره احدهم انه سمع عن هذا الشيء؟ فمن هو؟ ومع ذلك فهذا ليس مما يفقد الإطراء من وجهة نظرنا الشخصية لـ (مصطفى البارزاني) فماذا يفعل ان لم تتح له فرص الدراسة في قرية كتب الله لها ان تكون عاصمة النضال الكردي حتى قبل مولده؟ اما مصطلح الـ Egoism الذي اورده ايكلتون في كتابه فهو مصطلح نفسي معناه التمركز حول الذات او بلغة نفسية علمية التمحور حول (الانا) وفي اللغة الادبية الانانية.
نود ان نقول لوليم ايكلتون ان هذا الذي سمعه عن (مصطفى البارزاني) هو سمة من سمات أي قائد في فترة النضالات السلبية. ان المركزية العالية للقائد العسكري لا سيما في الشرق وعبر التاريخ هي من متطلبات نجاح القائد.
نعتقد انه لمن الجنون ان يطالب القائد العسكري ابان الحرب او العمليات العسكرية بالتخلي عن ذاتيته وارساء الديمقراطية. وحتى فترات اللاحرب التي عاشها البارزاني في كردستان العراق او كردستان ايران لم تكن سلاماً بل كانت هدنة. والهدنة حرب صامتة.
اما عن قصر النظر الذي جاء كواحدة من سماته، فأيضاً نقول لايكلتون، كيف تصف شخصاً بالبراعة الدبلوماسية والعسكرية من دون تعلم. ومنعه للمتطوعين من الطلبة للانضمام الى صفوف المقاتلين وحثهم على التمسك بالثقافة والتعلم وتعود لتصفه بقصر النظر Short sightedness الحقيقة كان على ايكلتون ان يتذكر كيف استطاع ان يفلت هذا القائد بمناورة ذكية من يد القوات الايرانية والعراقية ويشق لنفسه ومئات الرجال معه طريقاً الى اراضي الاتحاد السوفيتي عبر خطة محكمة. كان لنا شرف اعداد حلقات مسلسلة عنها في جريدة التآخي عام 1972.
وكذلك فهو ادرى كم كان هذا الرجل مناوراً وعسكرياً طوال حياته وهو لم يتخرج في كلية الاركان البريطانية لكننا نعود ونذكر ان ايكلتون يعترف في مقدمته ان بعضاً ممن اعطوه المعلومات رغبوا في عدم ذكر اسمائهم أي المعلومات الواردة في الكتاب برمته.
يذكر شميدت انه حاول عند لقائه (مصطفى البارزاني) عام 1962 ان يذكره بمقابلة صحفية اجراها معه في كانون الاول 1959 اثناء ما كان مقيماً في بغداد لكنه اجاب انه لا يتذكر المناسبة معرباً عن اسفه (281).
لقد لاحظ شميدت ان (مصطفى البارزاني) يرزح تحت وطأة هم اذ كان قبل سنتين ونصف السنة في بغداد يبدو هاشاً باشا لطيفاً مستجماً، واكثر وزناً اما الآن فان الخطوط في وجهه قد ازدادت عمقاً وبدت عليه تعابير الجلال والخطورة حتى لكأن كل مسؤولية الثورة التي تعودها قد ناء بثقلها عاتقه. وهو يرتدي الزي الكردي المألوف الازرق والابيض، لا يفضل به على ثياب رجاله ولا يقل عنهم. كما لاحظ شميدت انه كان يشغل نفسه بمدية في يده وعيدان خشبية.
ويعبر شميدت عن دهشته عندما خمن بعد ايام ان الطعام في مقر (مصطفى البارزاني) قد يكون اسوأ من طعام أي قرية صادفها في الطريق فهو لا يخص نفسه ولا من هم من حوله بالأطايب (282).
ان هذا الانطباع جاء من اجتماع شميدت بـ (مصطفى البارزاني) على مائدة واحدة ومن اجتماعه مع الآخرين على موائدهم والاشتراك معهم في الطعام.
ولا ينسى ضمن ملاحظاته ان يؤكد قيام (مصطفى البارزاني) بغسل يديه بالماء والصابون قبل وبعد الطعام. ولقد لاحظ معظم الرحالة هذه الظاهرة عند الكرد وذكرنا ذلك في موقع آخر من هذا الكتاب.
عندما توجه شميدت اليه بعبارة Mon General فالتفت اليه (مصطفى البارزاني) قائلاً، لست جنرالاً، اني مصطفى لا غير، قل لصحيفتك اني لا اهتم قلامة اظفر بالالقاب واني لست الا فرداً من الشعب الكردي.
ان شميدت يعلق على ذلك انه لم يستطع حمل السلاح نفسه بأن يناديه بأسمه المجرد، وان وجوده كان يتطلب شكلا من المخاطبة كثيرة الاحترام وهذا ما لاحظه في الاشخاص المحيطين به (283) لقد عايش شميدت (مصطفى البارزاني) وتبعه من مكان الى آخر وجلس معه وتحدث اليه ملياً حتى – كما يذكر شميدت – انه أي (مصطفى البارزاني) تعود عليه واخذ يتكلم بحرية وانطلاق.
انه يصف شخصيته بالرجل الذي لا تفارقه كرامته ورصانته في كل الظروف. قد يغضب، الا انه لا تأخذه سورة منه وقد يضحك ولكنه لا يقهقه، ويصر على ان يأكل مع رجاله او على الاقل ان يأكل ما يأكلون، وفي اغلب الاحيان يقطع مشياً على الاقدام المسافة التي يقطعونها بدلاً من امتطاء الخيل او البغال الميسورة له دائماً. ومع انه يظهر بهذه المظاهر الديمقراطية الا انه يحافظ على ما اعتبره – تحفظاً ارستقراطياً – انه قد يمزح مع زائر ولكنه لا يزيل الكلفة من بينهما.
وبقدر ما امكن شميدت ان يستنتجه ان (مصطفى البارزاني) لم يكن لديه رفيق يخصه بود فائق، ويتغير الرجال من حوله تغيراً مستمراً لا يمكن لاحد ان يدعي بانه المقرب والادنى وصاحب النفوذ المطلق عليه. وليس يوجد له (ساعد الايمن) بين المعاونين ولا (مرافق ملازم). ان طريقته في تبديل حلقة الرجال التي تحيط به دائماً احتياطاً امنياً ومن جهة ربما اسلوبه السياسي للابقاء على اتصاله المباشر بأوسع مجموعة من افراد شعبه. فيبني حمايته السياسية مع كثير من الافراد وكثير من القبائل ويستطيع ان يكون في منتهى الظرف والسحر كما يستطيع ان يصل احياناً الى حدود الخشونة (284).
ويذكر شميدت ان (مصطفى البارزاني) يملك ذهنية سياسية متطورة جداً تعينه على التغلغل عميقاً حتى يصل النتيجة النهائية او الى القلب من المسألة في حين تجد الاخرين ما يزالون غائصين في التفاصيل.
وكانت تنقلاته سرية دائماً، ويعلق شميدت قائلاً، مع ان المفروض فنياً اننا مرتبطون به ارتباطاً وثيقاً فقد نستيقظ يوماً بعد يوم لنجد ان البارزاني قد (اختفى) اثناء الليل وانتقل الى معسكر آخر جديد لا يعرف موقفه بالضبط الا قلة من المقربين كالرجال المسؤولين عن امور حياته اليومية وافراد حرسه الخاص.
وقد لاحظ شميدت انه من الصعب انتزاع جواب مباشر عن اسئلة مباشرة من (مصطفى البارزاني) ولكنه يميل الى ان يضع اراءه بطريقة ضرب الامثال. ويأتي شميدت بمثال على ذلك من خلال سرده لحكايتين رمزيتين شعبيتين اراد منهما (مصطفى البارزاني) افهام شميدت واقع حال القضية الكردية (284-5).
يذكر شميدت ان (العدالة) هي محور حديثه المفضل، وبرأيه ان الشعراء والفلاسفة والحكومات يتحدثون عن العدالة، انهم يتحدثون عن الرحمة وسلامة النية. لكن القوة وحدها هي المعّول عليه في حياة الشعوب، وقد جاء (مصطفى البارزاني) بأمثلة على ذلك مستقاة من التاريخ الكردي (287).
ولعل الوصف الاتي يعطي القارئ صورة جميلة للحياة اليومية (الاعتيادية) لهذه الشخصية القيادية.
اذ يذكر شميدت انه في صبيحة يوم قارس كثير الضباب من ايام شباط 1963 وفي اراض براح خارج بلدة قلعة دزه في كردستان العراق كان (مصطفى البارزاني) القائد العام للقوات الثورية الكردية يقف وحده وقد سمح ان يلتقط مصور زائر صوراً له من كل الجهات. ها هنا رجل متين البنيان الى درجة غير عادية دمث الطباع وقور السمت، نفاذ العينين. على انه الان يبتسم ابتسامة فيها ظل من التهكم والغموض.
والى مسافة تقرب من مائة قدم كان يقف باحترام جمع قد يبلغ مئة من ضباط قوات (مصطفى البارزاني) والوجهاء المحليين. يتقدم (الجنرال) بخطى وئيدة نحوهم، كان يسير سير الواثق بساق ثابتة ومشية عسكرية، وهو يبتسم، فتنفرج صفوف الرجال امامه كأنها تفسح له هيبة وجلالاً وكان على المرء ان يطلب منهم الدنو والوقوف الى جانب الرجل العظيم كي يلتقط صورة وهو في وسطهم.
يرتدي (مصطفى البارزاني) ثياباً لا تمتاز بشيء عن سائرهم، بذلة وطنية رمداء – بيضاء بسيطة ويشد فوق خصره حزامين من الرصاص ويعتمر العمامة الحمراء والبيضاء التي تميز بني قومه، وهو متوسط القامة الا انه يشمخ كالبرج الاشم فوق رجاله، او هو كالعملاق في وسطهم.
ان (مصطفى البارزاني) رمز الحركة الوطنية الكردية وهو الرأس المفكر لثورة الكرد العراقيين والقائد العسكري والزعيم السياسي، القلب والدفاع، الرجل الذي يتمتع بأعظم الحب في كردستان، الرجل الذي يشيع اعظم الرهبة في كردستان (140).
ولي الأربيلي
الحاج ولي الاربيلي احد الشخصيات الكردية التي التقاها سون في ديار بكر ولم يكن الحاج ولي زعيم قبيلة او شخصية حكومية ولقد اثرنا ان نكتب عن لقائه به لما يتمتع به من سمات مميزة.
يبدو ان الحاج ولي الاربيلي كان في ديار بكر وهو في طريقه الى الموصل عائداً من تركيا وقد سمع ان سون يزمع السفر بواسطة الكلك عبر دجلة فجاء يبحث معه امكانية السفر معاً ويعلمه ان هناك (كلك) مهيئاً.
كان يرتدي رداء طويلاً ومشد خصر من لباد من طراز كردي جنوبي وقدم نفسه باسم الحاج ولي الاربيلي وكان يتكلم الكردية وقليلاً من الفارسية والعربية والتركية واعلم سون بانه عائد من حجته الـ (17) إلى مكة.
لقد كان على حد تعبير سون ذا خلق معتبر مبادر وكان يراوغ في تطمينه وقد اعتاد على الاحترام بسبب من الـ (17) حجة إلى مكة لذلك لم يكن ليستسيغ أي رفض لمقترحاته. لذلك عندما اقترح عليه ان يسميه (موسى) واخذ يناديه بابني الحبيب وان يشترك في نفقات السفر وافق سون.
يصف سون المواد التي ابتاعوها كعدة للسفر ولكن ما يهمنا من هذه الرفقة بينه وبين الحاج الاربيلي ملاحظة سون ان هذا الرجل طلب منه شيئاً غير متوقع، يقول سون، ادهشني بعد ان اضنانا السوق بطلب لا يشبه ما يطلبه الناس هنا، لقد اخذ بذراعي وقال، موسى يا بني! بعد تعب النهار دعنا نذهب الى بقعة هادئة بين الاشجار على الشاهق الصخري نجلس ونحلق ونتملى المنظر.
ان سون استغرب من هذا الطلب الذي يتضمن التنعم بمشاهدة الطبيعة!
Taakhi