يذكر لنا ريج انطباعاته عن محمود باشا عندما توفي نجله الثاني اذ يصف اثر الوفاة على نفسية الباشا: لقد بدا بجلاء ان قلب الباشا كاد يتفطر على الرغم من تجلده ومحاولته اخفاء ما يعانيه بكل رجولة. وقد صعب على ريج ان لا يشاطره احزانه، أو ان لا يشعر برهة وكأنه فقد ولده.
ويذكر أيضا انه لم ير مطلقاً فاضلاً فياض الشعور والإحساس في أي بلد كالباشا، انه يحب زوجته وأولاده حباً جماً لا يضاهيه في ذلك الا احسن الرجال في اوربا. وقد بدا عليه نوع من الذهول المخيف اعتراه بغتة فودعه ريج متألماً مثقلاً بالأحزان (215-6) وعندما عاد ريج إلى الامير بعد خمسة ايام كما يظهر من التاريخ المدون في مذكراته، وجد الباشا ما زال مغتماً ويتنهد باستمرار تنهداً عميقاً وعلى الرغم من ان ريج كان قد زار الباشا هذه المرة لغرض الوداع لكن الباشا اغتنم هذه الزيارة فتحدث في مواضيع دينية وسأل ريج عن عدد الأناجيل سواء السماوية منها أم الموضوعة من قبل البشر بوحي من الله وهل يظهر المسيح ويبسط سلطانه على الارض؟ أو هل انه يظهر يوم الحساب؟ (222).
ويبدو ان مجموعة من العوامل النفسية كانت قد المت بالباشا في تلك الايام وبخاصة موت ابنه وخيانة عمه له، مما شجع لديه الرغبة في اعتزال المسؤولية، هذا ما عرفه ريج من عثمان بك شقيق الباشا. ويقول ريج ازاء رفض عثمان بك فكرة ان يعتزل اخوه كانت رغبة الباشا منحصرة في العيش بسلام والاعتزال مع زوجته واولاده وان يتنازل عن امارة بابان، وانه يبذل قصارى جهده لارجاعه عن عزمه. وهذا ما يقدر عليه ويزيده شرفاً إذ لو تم تنازل الباشا عن منصبه لخلفه هو في منصبه (218).
ان ما تقدم حول رغبة الباشا التي يذكرها ريج تجعلنا نقرر ان الباشا كانت تعوزه قوة الشخصية والقدرة على مجابهة المواقف العصيبة التي هي من صفات الشخصية القيادية المتمكنة الناجحة فلا يكفي ان يكون القائد طيب القلب مؤمناً. ربما الوراثة حمّلت محمود باشا امير بابان ما لم يكن مؤهلاً له فالأوضاع التي كانت عليها امارة بابان ذاك الوقت بحاجة إلى زعامة قوية حاسمة قادرة على اتخاذ القرار.
يعلق ريج عن شخصية الباشا التي ذكرناها انها ضعيفة بقوله، ان خطأه الباشا الكبير هو ضعفه واحترامه للأتراك الاحترام الكلي المنبعث في الحقيقة عن الشعور الديني وقد عبر ريج عن استغرابه الشديد لضعف الباشا النفساني في هذا الشأن وكان يشعر بالأسف من شدة انخداعه بباشا بغداد الذي اعتاد ان يسميه عندما يذكره بـ (افندمز) أي سيدنا.
ويستطرد ريج يقول لو كان يقدر قوته ومصالحه حق قدرها لكان من المحتمل ان يجعل باشا بغداد منقاداً إلى ما يريد والى معاملته المعاملة اللائقة به (223).
ان وداع ريج للباشا يعطينا مؤشراً واضحاً عن شخصية الباشا العاطفية، إذ يذكر ريج عندما ودعه انخفض صوته وارتجفت يده وهو يصافحه ويقول، لقد كنت شخصاً مكتئباً مثله لمفارقتي اياه، لقد رجاني ان يراني ثانية (230).
لقد كوّن ريج انطباعات واضحة عن شخصية الباشا من خلال مجمل لقاءاته إذ يذكر صعوبة المفارقة الاخيرة لرجل عديم الاكتراث ثم يسأل كيف وانت تفارق رجلاً توده وتحترمه؟ ويقول كان محموداً باشا رجلاً محبوباً جداً في الحقيقة واني سأتذكره على الدوام بشوق فملامحه النقية لا تنم الا عن الطهر والاخلاص والبساطة وما كنت اتوقع مقابلة رجل مثله في الشرق كما انني اخشى ان لا يجد المرء الكثير من امثال هذا الرجل في بيئات ارقى. ان المرء ليلمس الحزن والرقة في خلقه ذلك مما يجعله رجلاً لطيفاًُ جذاباً فهو الاحساس بعينه. انه لم يتغلب حتى الان على ما داهمه من الاحزان لوفاة ولده وانني أدون رأيي مطمئناً لما أقول ان ليس هناك رجل في الشرق يحب اولاده وزوجته كحبه لهم. يذكر ريج مدى تأثر الباشا بسبب موت ابنه، فعندما دخل الباشا على حرمه للمرة الاولى بعد المصاب ناداه طفل من ابناء اخيه بكلمة بابا. لقد كان الاسم وصوت الطفولة الذي ردد الاسم اكثر مما يحتمله الباشا فصرخ وسقط على الارض مغشياً عليه، هذا مع العلم كما يذكر ريج ان الدين الاسلامي منع الاحزان وان الافراط في الشعور بازاء المرأة أو الولد من الامور الشائع نكرانها أو الازدراء بها بين المسلمين، الامر الذي يعزز جمود الشعور وصلابة النفوس. ويضعنا ريج امام تقرير ذكي عن شخصية امير بابان فهو كما يذكر من اقوى الناس تمسكاً بدينه في الشرق الا ان تمسكه هذا لم يعطه التعصب والركود في الاحساس. وربما كان بامكان رجل اقل منه حظاً في الخلق ان يكون اكثر ملاءمة لحكم كردستان، وان محمود باشا لم يكن بالزعيم الذي تحتاجه تلك البلاد لان فضائله جديرة برجل يعيش عيشة خاصة إذ انه كان لين العريكة جداً كثير الثقة بغيره ولا يقدر نفسه الا باقل ما تستحق مع كونه شجاعاً في ميدان القتال فقد كانت تعوزه جرأة المدني اللازمة، لقد جعله الدين والتفكير قليل الاكتراث بالاخطار كما افقده الحزم والعزم ايضاً وهذا رأي ريج.
لقد كان بميسور أي رجل يقوده فكان يركن إلى أي فرد يتقدم لمعونته حتى في الامور التي تخالف رأيه الراجح ومع انه كان بشخصه مثالاً للصدق والشرف فقد كان يجهل أساليب ارباب الدهاء الذين كانوا يموهون أسوأ خططهم الجهنمية بالصبغة التي ترضيه، وعلى الرغم من وقوعه مراراً على خدعهم كان يظل على ثقته بهم ذلك لانه كان ببساطة الطفل الصغير ووداعته فلقد استطاع داود باشا، باشا بغداد العثماني، مؤخراً ان يفسد اخاه عليه وحاول تحطيمه لكنه وجد الان من مصلحته ان يكسبه إلى جانبه واظهر له كثيراً من التودد والاحترام وقد تناسى محمود باشا كل ما حدث في الماضي. (230-1)
ويذكر ريج انه سعى ليحرك فيه الشعور القومي والعائلي ولكن دون جدوى، لكنه أي ريج احس بوجود قليل من الحماسة عنده عندما كان يتطرق إلى تاريخه القديم الا ان تلك الحماسة ما كانت الا سراباً لان اخلاقه تتصف بالدين والتواضع الممتزجين بالاوهام والقنوط مما يجعله منقاداً كل الانقياد إلى ما ترسب في اعماقه من الخزعبلات المثبطة ويعزو ريج ذلك إلى الدين لانه كما يذكر وجده متجرداً تجرداً تاماً من كل ما يتعلق بنفسه أو ببلاده وذا فطرة عنيدة لا تطاوع الغير وكان يظهر الصلابة بازاء كل مناقشة لريج معه حتى قال له مازحاً ما إذا كان قد عزم على استعمال مهارته في ايجاد العراقيل لاصلاح بلاده. ثم تحدث الباشا عن قلقه بسبب حساب الاخرة متسائلاً ِلمَ اختاره الله حاكما؟ (229).
محمود الحفيد
بالرغم من عدم التقاء هاملتون بالشيخ محمود بيد ان علاقاته مع اقرانه وسماعه لاخبار هذه الشخصية الكردية جعلته يصف الشيخ محمود بالزعيم العظيم الذي حاول انشاء دولة كردية مستقلة عن العراق ولثلاث مرات (62).
ويمكن ان نتعرف على شخصية الشيخ محمود من خلال معايشة كلارك الذي عايش الشيخ محمود كمستشار في البدء ثم تحول الى شبه اسير. ان النقيب كلارك كان في اربيل عندما التقاه هاملتون في ليلة عيد الميلاد.
ان هذا اللقاء فضلاً عن التقاء هاملتون شخصيات عملت مع الشيخ محمود قبل اندحاره جعلته يكون بعض الانطباعات عن هذه الشخصية.
يرى هاملتون، انه لم تكتب بعد القصة الكاملة لثورة الشيخ محمود وكفاحه الطويل الذي يحدد ايمانه بمصالح قومه، مع انها قصة درامية مثيرة من الدرجة الاولى، ويضيف انه سمع في ليلة لقائه مع كلارك طرفاً من هذه القصة التي كان كلارك احد ابطالها الرئيسين في فترة من فصولها.
يذكر هاملتون: عندما اعلن الانتداب البريطاني على العراق شعر الشيخ محمود ان كل خططه قد احبطت ظلماً وتعسفاً وقال ان قومه لا يأملون التقدم والازدهار في ظل حكم بغداد.
وصدر الامر بانسحاب الضباط البريطانيين وابقي النقيب كلارك وحده اذ امر ان يبقى بوظيفة ضابط سياسي ومشاور للشيخ وقضى كلارك وقتاً عصيباً فالشيخ يبادله الصداقة والود الا انه مصمم على رفض كل اوامر تصدرها حكومة عربية ولكنه كان مثال الادب والرقة.
التآخي