اما من النواحي الاخرى فقد كان مرتب اللباس والهندام. وكانت احدى رجليه مصابة بالعرج لرفسة اصابته من احدى الخيول، كما كان يتكلم بصوت خافت، هذا ما ورد في رسائل فريزر.
لقد دخل في حديث طويل مع الدكتور روس اكثر من مرة في مواضيع عامة غالباً، فاستفسر منه عن طريقة التعليم في انكلترا، وديانة اهل الصين والهند، وقد كان يرغب في معرفة علاقة بريطانيا بايران وروسيا.
ثم استفسر منه في مناسبات اخرى عن اشياء كثيرة مثل استعمال الادوية وتأثيراتها وحالة النبض في اثناء المرض، وعن الطاعون والهيضة وغير ذلك وانتقل بعد ذلك الى مواضيع الحرب فتحدث عن الطبنجات والمسدسات واخرج طبنجة انكليزية قديمة ذات سبطانتين وبندقية فكانت هذه مع سيف وناظور وشمسية وسرير خشبي وعدد من المحافير تكون القسم الاكبر من اثاث خيمته.
ومن الامور التي ذكرها روس عن حياة امير راوندوز، انه كان يقيم اجتماعين في اليوم قبل الظهر وفي الليل في خيمة قرب خيمته وهو لا يذهب للنوم مطلقاً قبل بزوغ الفجر وعندذاك ينام الى التاسعة او العاشرة من صباح اليوم التالي وقبيل صلاة العشاء بربع ساعة يعزف جوق صاخب شيئاً من الموسيقى، وفي وقت الصلاة تطلق اطلاقة مدفع.
ويصف روس المعسكر المحيط بالامير ثم يتحدث عن مغادرته لراوندوز، ويغتنم الدكتور روس فرصة المغادرة والسير في منطقتين متباينتين سياسياً، منطقة يحكمها امير كردي، امير راوندوز ومنطقة يحكمها الاتراك.
يذكر فريزر هذا عن روس نفسه اذ يقول: في اللحظة التي وصل فيها هذه الجهات ويقصد المنطقة التي كانت تدار من قبل الدولة العثمانية، حتى فوجئ بطلبات البخشيش، وبعد تجريده من كل ما كان يمكن ان يكون قد حمل معه فان الاوغاد المناكيد تبعوه الى منزله (محط نزوله) طالبين المزيد. اما في ممتلكات راوندوز فان البخشيش لم يذكر قط، وقد اجرى الدكتور روس مقارنات في كل ناحية من النواحي بين حكومة علي باشا في بغداد وحكومة امير راوندوز الكردي وهو يعطي الافضلية للاخير ويشير الى احاديث الخيانة التي كان يصرح بها علانية بالنسبة لعلي باشا بينما كان الاطراء والثناء على امير راوندوز يلهج بهما الجميع بصراحة (17-25).
محمد كوى
يصفه المستر هَيْ انه كان رجلاً في منتصف العمر، طويل القامة على حظ كبير من العلم والمعرفة ذا موهبة خارقة في الاكثار من الكلام، فحيثما يكون تجده يحتكر الحديث، ومن حسن الحظ انه موهوب بفطنة عريضة تصيره اشد الناس ايناساً. انه ليفخر دوما بانه اعلم علماء كردستان طراً، وتلك هنة من هنات طبقته. وكان ان غدا (حاكم الشرع) في مدينة كوى تحت ظل الادارة البريطانية وعلى الرغم من ان علمه فوق الشبهات الا ان سداد حكمه كان يكتنفه التساؤل غالباً، ذلك انه روحاني دنيوي شغوف بالمجتمع وحطام الدنيا (164).
محمود باشا أمير بابان
يقول ريج عن موكب محمود باشا (امير بابان) عندما طالعه لاول مرة، كان موكباً بدائياً مفرحاً وكان الباشا وحده في الموكب يمتطي جواداً اما جسمه فكان صغير الجرم جداً حتى انه كان يختفي عن الأنظار وسط جمهور الكرد طويلي القامة، وكان عمره خمساً وثلاثين سنة. والباشا يرد على تحية حرس ريج بوقار عظيم إذ يضع يده فوق صدره ونستطيع ان نجد هذا الانطباع بين سطور ريج بسهولة، أي نزعة الباشا إلى احترام الغير وكونه شخصية وقورة، وعندما يريد الباشا التعبير عن بالغ احترامه بالضيف فانه يصافح بكلتا يديه.
ولاحظ ريج ان الباشا يغالي كثيراً في إظهار الاحترام، وقد حاول ريج كثيراً إقناع الباشا بان يجلس بشكل مريح لان الباشا كان مصراً على الجلوس بشكل غير مريح ليظهر مشاعر الاحترام بالركوع مستنداً الى كعبي قدميـه (50-1). وقد رحب الباشا مرة بعد أخرى بريج لزيارته كردستان مكرراً لكلمات المجاملات الشرقية.
ويذكر ريج انه سلم محمود باشا رسالة باشا بغداد ولما كانت الرسالة رقيقة جداً فقد حاول ريج ان يسلمها إلى محمود باشا على مشهد من حاشيته وملازميه، ويذكر ريج ان الباشا أدرك اهتمامه (51) ويبدو ان ريج أراد تقوية مركز الباشا امام حاشيته وأركانه فقد كان يعرف ان المؤامرات تحاك ضده وان موقفه بات ضعيفاً بعد ان عانى من قمع الآخرين لسلطانه وكذلك الصعوبات التي يكابدها بسبب وضعه على حدود سلطتين متنافستين لا تنفك الأولى عن اضطهاده في طلب الجزيات والضرائب إلى إيران والثانية وهي السلطة المنقاد اليها حكماً اي سلطة الأتراك الذين كانوا يريدون قطع علاقته نهائياً بالفرس وان لا يدفع لهم جزية أو مالاً.
الحقيقة ان ريج قدر حالة القلق الشديدة التي كان الباشا يعاني منها فعلى الصعيد الخارجي كان الباشا يعيش بين قوتين متصارعتين على المنطقة فهو مهدد من القوى الفارسية والتركية لا بل فان كردستان هي ساحة احتدام طويل. اما على الصعيد الداخلي فقد عانى من الخيانات الداخلية والولاءات السرية من داخل الأسرة إلى مراكز قوى خارج الإمارة البابانية لا بل اكثر إذ تورط بعضهم بمؤامرات حقيقية مدفوعة للإطاحة به.
ويذكر ريج ان محمود باشا لم يكن يملك ما يميزه في شخصيته، فهو رجل بسيط رشيد وهو في الوقت ذاته رقيق الحاشية دمث الطبع وكذلك ان أخلاقه الفردية كاملة لا شائبة فيها وذلك امر لم يكن من الامور الاعتيادية بين الاكراد (52) ولا ندري كيف ولماذا هذا الانطباع عن الكرد عند ريج (11) إذ ليس له من تبرير الا انه كما يبدو كان يحمل هذا الاعتقاد قبل وصوله كردستان ولكن الاشهر التي قضاها في كردستان جعلته يغير من انطباعه عنها وهو يختتم رحلته بهذه العبارة:
وأنني ابارح كردستان بأسف لا حد له فما كنت أتوقع مطلقاً ان أجد فيها أطيب الناس الذين لاقيتهم في الشرق كله.
من زيارة ريج الأولى إلى قصر الباشا يمكن ان نستشف بعض الانطباعات، فقد لاحظ ريج ان قصر الباشا لا يليق في الحقيقة بقصر حاكم (56) كما لاحظ ان الباشا يصبح حيوياً اكثر عندما يكون الحديث حول النسب العشائري ويرغب في ان يمتدح نفسه وان يذكر انه من أسرة عريقة وعشيرة كريمة (57) ولكن في الوقت ذاته لم يكن الباشا على ما يبدو مغروراً أو مغرماً جداً بتاريخ عائلته أو بالأحرى الاهتمام بتدوين هذا التاريخ. يبدو ذلك في إجابة الباشا إذ يذكر ريج عند بحثه تاريخ كردستان وتجرأ فذكر استغرابه لقلة اطلاع الباشا على تاريخ عائلته أجاب بأدب واحتشام بان ذلك التاريخ لا يستحق التدوين ولم يكن تاريخ عائلة مالكة بل هو تاريخ قبيلة متواضعة. فاجابه ريج ان عائلته عريقة وشريفة. فاجاب بأنها لم تكن موغلة في القدم ولم يصبح أبناؤها باشوات الا منذ عصر واحد. فقال ريج انه يعرف سلالة عائلته منذ ذلك العهد فوقع قوله في نفسه وقعاً حسناً وتحركت عنده على الفور عصبيته القبلية وعزته العائلية فانجلت ملامح وجهه وداخله انتعاش لم يكن اعتيادياً على حد تعبير ريج وقد عقب الباشا بعد ذلك بانه غير شغوف بالتاريخ خلا تاريخ الأولياء والأنبياء اما غير ذلك من التواريخ فلا يقرأ منها الا الشاهنامه (214).
ومما تقدم نستنتج ان الباشا كان يجمع بين نزعتين في شخصيته المركبة فهو يملك نزوعاً قبلياً ويشعر باعتزاز بازاء انحدار سلالته ولكنه في الوقت ذاته يشعر بتواضع كبير ولا يريد ان يبدو مميزاً قبلياً أو سلالياً عن رعيته فضلاً عن ان جانب النزوع الديني الذي كان يسمو لديه على كل شكل من أشكال التفوق الاجتماعي أو السلالي. فهو الذي اخبر ريج بانه غير شغوف بالتاريخ ما خلا تواريخ ألاولياء وألانبياء.
لقد كان الباشا ذكياً وعادلاً عندما أومأ ريج إلى ان والي سنه من عائلة قد لا تحظى باحترام عشائري كبير وعلى الرغم من ان هذه العبارة أطربت بعض الحضور العشائري الا ان الباشا اجاب ريج بان والي سنه من عائلة عريقة جداً وهو أي باشا السليمانية من عشيرة اسمها في الأصل (كرمانج) (57) ولاحظ ريج ان الباشا عندما يتحدث عن امور تاريخية لا يتمكن من ذكر التواريخ وان كل ما يعرفه هو ان اجداده كانوا ذوي شأن ثم خصصت لهم باشوية. اما عن التاريخ القديم فقد استهوته قصة زينفون ورحلة العشرة الاف ولاحظ ريج علائم الاهتمام على وجهه وهو يسمع عن أجداده الكرد ودورهم في صد الهجوم الأجنبي (76) ان انطباعات ريج عن الباشا انه شخص كريم يحب الضيف، فلقد امر الباشا ان لا يشتري ريج شيئاً من حسابه الخاص طوال أقامته في السليمانية وكذلك اغدق عليه الهدايا ويذكر ذلك في اكثر من موضع (53).
ويخرج ريج من احدى زياراته للباشا وهو في أسبوعه الثاني لزيارة السليمانية، بإعجاب شديد بالباشا إذ يذكر انه قضى ساعة ونصفاً معه وكانت عنده من أطيب الأوقات ويقول بعد ذلك اللقاء، انه يتميز بخلق متين، متواضع، غير متكلف إلى حد يجعل الحديث معه مؤنساً ممتعاً. يذكر ريج انه سأل الباشا لم لا يلبس الدرع وهو اللباس الحربي المفضل لدى الاكراد؟ فاجابه انه لا يقوى على حمله (77). ويعلق ريج انه لو سئل اكثر الشرقيين هذا السؤال لاجابوا بانهم لا يحبون ذلك، او انهم يأنفون من وقاية أنفسهم في المعارك، ويقصد ريج ان الشرقيين على عكس الغربيين، فالغربيون يرتدون الدروع في المعارك وفي احدى زيارات ريج للباشا وجد الباشا جالساً في ساحة معشوشبة واخبر ريج بانه امر باقامة مباراة المصارعة لكي يدخل البهجة على قلب ريج ولكنه قال انه لا يستذوق هذه الامور البتة (91). ولا شك ان مثل هذا التقرير عن الذات يعطي ريج انطباعاً ان الباشا شخصية طيبة غير قاسية فهو لا يستذوق حتى (مشاهدة) المصارعة والحقيقة ان معظم الناس الذين لا يرغبون مشاهدة الألعاب الجسدية القاسية هم اناس ميالون إلى المسالمة والرأفة والنزوع الإنساني في التعامل اليومي وهذه وجهة نظرنا من الناحية العلمية النفسية.
كان ريج يرى محمود باشا من خلال مشاعره التي افصح عنها إلى ريج، انه إنسان على درجة عالية من الإحساس والإخلاص وحسن السريرة، ويقول ريج في هذا الصدد وهو يصف الباشا عندما تحدث عن مشاعره بعد ان اكتشف خيانة عمه له، انه لا يتذكر ان لمس مثل هذه الإحساس وحسن السريرة في الشرق مطلقاً ويفصح عن اعتقاده بانه لن يجد مثل هذا حتى في البلاد الراقية كثيراً، فقد كان الباشا صابراً مكابراً امام خيانة عمه له (104). اما عن التدين أو النزعة الدينية لدى الامير فان ريج ذكر انه لا شك وبدون استثناء ابعد المسلمين الذين عرفهم عن التصنع واتقاهم فعلاً. وقد قص محمود باشا قصة واقعية على ريج كانت قد حدثت له ليوضح له دور الايمان بالله. فقد حدّثه ايام كان رهينة في كرمنشاه تعبيراً عن ولاء والده وقد اضطر والده ان يؤيد مصالح تركيا في ظرف ما واصبحت حياة محمود باشا الابن في خطر وقد ارسل الشهزاده في طلبه ليلاً ليقتله. ويصف محمود باشا كيف ان الهلع اخذ منه مأخذاً والجلاد واقف ينتظر الإشارة ويقول اني اعترف ان قواي خارت ولكني في لحظة تذكرت الله فاستنجدت به وسمعت وكأن صدى صوت الله يدور في نفسي وهو يقول الم أخرجك من بطن امك ووقيتك الأخطار حتى الساعة؟ الست بالقادر على القضاء عليك في أي لحظة أشاء؟ إذن لم هذا الخوف؟ ليس بوسع الرجل ان يسيء اليك دون إرادتي. ويقول في تلك اللحظة شعرت بالراحة والطمأنينة، وعدل الامير عن رأيه في قتلي وارسلني إلى سجني مرة ثانية (101).
ان ريج إذ يسوق هذه القصة في مذكراته انما يريد ان يطلع القارئ على مدى ايمان محمود باشا بالله وارادته.
التآخي