ويبدو من مذكرات ريج الانطباعية ان كل رجال عمر اغا بمن في ذلك عوائلهم كانوا يعيشون مع عمر اغا في السراء والضراء دون ان يضيقوا ذرعاً بالظروف السيئة التي كانت تحيط عمر اغا عندما يجور عليه الزمان، رجال يعملون ويجوعون ويرتدون أسوأ اللباس ثم عندما تتحسن احواله في عودته إلى منصبه تتحسن احوالهم هم ايضاً ولا يتأففون أو يضجرون.
لقد كان عثمان بك السبب في هذه الازمات التي يلقاها فبالرغم من ان الباشا كان يوده في الحقيقة وداً اكيداً لكن عثمان كان يكره عمر اغا كرها شديداً ويحرض الباشا عليه. ان عمر اغا كان في اعماقه يدرك ان محمود باشا غير حاقد عليه ولكنه خاضع إلى ايحاءات اخيه عثمان بك، وهذه من وجهة نظرنا نقطة من نقاط ضعف الباشا فكيف يؤذي رجلاً من رجالاته إلى هذا الحد وهو مقتنع بانه مخلص له وكان مخلصاً لابيه ايضاً. ان هذا الذي نقوله من ضعف الباشا مسألة كان قد ادركها ريج بنفسه ولمّا اوضحها بشكل أو اخر لعمر اغا لم يلق التأييد منه.
يقول ريج، لم يفكر مطلقاً في التخلي عن الباشا كما لم يبد تذمره الا عند التحدث إلى من يعتمد عليه من الاصدقاء وفي هذه الحالة لم يكن كلامه لينم عن تذمر او تبرم بل انه صوت توجع اليم ليس غير. وعندما رثيت لضعف الباشا اجابني عمر اغا من فوره وبصدق واضح قائلاً اؤكد يا سيدي بانه ليس كذلك انما هذا شأنه بازائي فقط.
ولم يكن قول عمر اغا هذا تصنعاً بل كان منبعثاً من الصميم حسب اعتقاد ريج، وهو يرى ان عمر اغا عندما قال ذلك انما كان حذراً من ان يظلم ريج سيده في الظن به وهو أي الباشا منزه عن هذا. ثم يسترسل ريج في تدوين مذكراته عن اوضاع عمر اغا فيقول، لقد انحط مستوى عمر اغا المالي لدرجة الفقر المدقع لسوء المعاملة التي يلقاها من جراء عداء عثمان بك له كما سبق ان ذكر وهو لا يخفي سخطه عليه ومع هذا فهو لا يشتكي بل يبذل اعظم الجهد لكي لا يشعر بضيق ذات اليد وحاجته. وعلى الرغم من مصاحبته لريج منذ بضعة اشهر لم يظهر مثقال ذرة من التلميح أو الرغبة في الحصول على شيء منه ولو كان اغنى الاتراك في مكانه لما تردد في الاستجداء من ريج براحة خلال نصف تلك المدة. هذا ما يذكره ريج مضيفاً، لما ارسل تاتارا أي ساعياً للبريد إلى استنبول تلك العاصمة التي اصبحت تحوي كل ما يحتاجه المرء من المواد الكمالية والضرورية التي قد تغري أي شرقي، سأل عمر اغا عما يرغب في جلبه له منها فاجاب بانه لا يتذكر احتياجه الى أي شيء وغير مجرى الحديث فوراً (195-6).
لقد استطاع عمر اغا على ما يبدو ان يفهم شخصية ريج وحتى الامور التي يرغب ان يسمعها كاخبار العشائر واصولهم والمناطق الجغرافية في كردستان وطرائف الامور المتعلقة بالكرد، ويقول ريج في هذا الصدد، وصل السليمانية اليوم رجل من (داره شمانه). وعمر اغا الذي يعلم بانني اتطلع الى طرائف الامور وارغب في استقصائها ذهب فوراً لمقابلته ووعدني بان يأتيني به غداً واطلع منه في الوقت ذاته على القضية الغريبة الرومانتيكية التي تتعلق باصل العائلة البابانية وهي قصة تقترب من الاسطورة في زواج الفقيه احمد من امرأة اجنبية بارزها وبارزته في حرب تركيا مع الافرنج ولم يكن يدري انها امرأة الا بعد ان صرعها فاكتشف انها امرأة ثم تزوجا.. وانجبا وان الاسرة البابانية بدأت من تلك الزيجة (207-8).
ومن الاشياء التي اسهمت في تكوين انطباعات حسنة عند ريج بازاء عمر اغا انه فاجأه في يوم ما بمفاجأة سارة اذ جاءه بلفافة طويلة من الورق كالحمائل او التعاويذ في وعاء من جلد يحمل على الدوام داخل الجيب وكانت اللفافة تحوي سلالات امراء العائلة البابانية من عهد سليمان باشا، وكان عمر اغا قد بحث عنها جاداً حتى عثر عليها عند احد الاكراد الذي اعتاد اجداده ان يدونوا الوقائع في تلك اللفافة مع ذكر التواريخ واقتدى هو ايضاً بهم.
يقول ريج حول ذلك، كانت الاوراق مكتوبة بالفارسية ولهذه الاوراق قيمتها العظمى التي لا تقدر اذ ان ما فيها من المعلومات ستكون الحلقة المتممة لتاريخ الاكراد فيما لو اسعدني الحظ وحصلت على نسخة من ذلك السفر المفيد وبادرت حالاً الى ترجمة ما تضمنته هذه اللفافة المدهنة (214-5). كما يبدي ريج اعجابه بعمر اغا عندما وجده يدرك مخططاته أي الرسوم التي كان يخططها ريج ويقول، لقد عجبت كثيراً لادراكه لها وقد ذكر لي اسماء عدة اماكن واسماء قمم وتلال وبين لي المحلات التي يجب ادخال بعض العوارض الارضية عليها في تلك المخططات وكنت قد اهملت رسمها او ذكرها اذ لم اشاهدها، صحح لي بعض اقسامها بل انه ادرك اصغر التلال التي مررنا بها في طريقنا وهذا دليل واضح على ذكائه وعلى صحة مخططاتي في الوقت ذاته. لقد قابلت في بغداد كثيراً من الناس الذين درسوا الرياضيات بوجه خاص – كما يسمونها – ولكنهم لم يستطيعوا الاحاطة ولو قليلاً بالخرائط والمخططات.
اما عمر اغا، فحالما تناول التخطيط بيده وجه المخططات الواحد بعد الاخر الى استقامة طرقنا وتابعها باصبعه دون أي تردد وان كونه جبلياً مما يزيده في ذكائه الفطري وفي تعوده على اتباع سلاسل التلال والنظر الى قيعان الوديان ذلك لان سكان البلاد الجبلية جميعاً يدركون تفاصيل المخططات بسهولة (218-9).
الحقيقة ان عمر اغا هذا شخصية غريبة فعلى الرغم من الثقة العالية التي يوليها الباشا اليه نجده يودع التوقيف مع بعض رجاله وقد اشرنا الى ذلك وعلى الرغم من انه قريب من الباشا واسرته وحاشيته نجده يعاني من العوز وقراره مصادرة املاكه حتى ان ريج تدخل في موضوع اعادة قراه واملاكه المصادرة اذ قال ريج، ويسرني ان اذكر ان عمر اغا صديقنا العظيم لا يزال (مهما ندارنا) وانني راجعت الحكومة في السليمانية لتعيد اليه بعض القرى التي انتزعت منه بطريقة مزرية وقد وعدوني بذلك ارضاءً لي فبقي عمر اغا في السليمانية لتسلم القرى. وان مئتين من الرجال يعدون من محسوبيه ويعتمدون عليه في عيشتهم (235).
ويبدو ان ريج كان مسافراً فذهب معه عدد من الرجال في حين بقي عمر اغا ينتظر تسلم قراه في السليمانية لكن ريج يذكر في موضع آخر من مذكراته ان عمر اغا التحق به بعد ايام ولم يتسلم أي قرية من قراه (239).
الغريب حقاً، ان يضطر عمر اغا هذا القريب من حاشية الباشا الى التوسط عند ريج الضيف لاطلاق املاكه!! ويبدو ان عمر اغا رافق ريج من السليمانية الى اربيل وهناك توادعا… انه لشيء مؤسف حقاً هذا الذي اطلعنا عليه من خلال مذكرات ريج. انها الحقيقة المرة في التاريخ فكثيراً ما ظلم الحاكم مخلصيه. ان عمر اغا من وجهة نظرنا يبقى مثالاً لضحية كائنات لازمت الحركات الكردية وامارات كردستان ولم تزل هذه الكائنات فاعلة، والتي أود ان اطلق عليها اسم (البكتريا الكردية) التي تستطيع ان تنفذ من خلال الدوائر المحيطية المتلاحقة المتعاقبة، مثل دوائر الماء عند اسقاط حصوة فيه، وصولاً إلى اقرب مقربي الحاكم ثم الحاكم نفسه وتستطيع هذه البكتريا بعد إيغالها ان تنشط بهدوء يكاد يقترب من الصمت محققة غاياتها، ومن هذه الغايات المصالح الخاصة (المتواضعة) ومنها المصالح التي تصل إلى درجة تقويض النظام بأسره لا لمبدئية بل لعمالة إلى جهة ما. وإلا ما اسباب الضغينة بين عثمان بك شقيق امير بابان والمخلص الحقيقي للامير وعمر اغا الفدائي للامير؟ كلاهما يخلص للامير، وفي النتيجة حلّت الضربات الماحقة بكليهما من الامير نفسه ليبقى من بعد تحت رحمة البكتريا المذكورة حتى تقوض النظام وجاء زمن عادت بابان تاريخاً مضى لا غير.
Taakhi