ولقد تأكد لدى هاملتون ان نجاحه في عمله لا بل سلامة حياته مرهون اساساً بموقف هذا الرجل منه اذ يقول هاملتون، لو شاء، فنفوذه كاف لنقله من المنطقة متعللاً باي حجة. وان ظن ان الطريق الجديدة ستكون خطراً على نفوذه فلا اسهل عليه من ازاحة هاملتون باسلوب اقل رسمية وهو في مركزه هذا مسؤول عن سلوك رجال القبائل.
فكل ضعف في ادائه يشجع على الفوضى وخرق القانون وبذلك يعرقل عمل هاملتون حتماً. مجمل القول ان سيد طه رجل خطير من وجهة نظر هاملتون قبل الشروع بسفرته فقد التقاه في مضيق سبيلك ويصف اللقاء الاول بسيد طه اذ يذكر انه لمح رتلاً طويلاً من الفرسان الشاكي السلاح يملأون الطريق القديم مندسين بين العمال المنصرفين الى واجباتهم وما ان اقبل (الشيخ) حتى دارت الهمسات بين العمال وتركوا العمل وتوجهوا جماعات جماعات للسلام على الزعيم الشهير اثناء مروره وكان يرافقه عدد كبير من الخدم والحشم والموظفين والمترجمين وقطار من البغال المحملة بالبضائع المبتاعة وقد رصت رصاً فوق ظهورها. كان الموكب قادماً من بغداد اذ اجرى الشيخ حديثاً مع الملك فيصل والمندوب السامي. ويذكر هاملتون ان الشيخ بدا له مثال الامير الشيخ في بلاد بعيدة عن المدينة وهو على صهوة جواد ضخم الهيكل فاحم اللون ينقل قوائمه بحذر ودقة بين الصخور المسننة الحادة حتى اذا اردنا ترجل راكبه وحياني بانكليزية جيدة جداً. لقد كنت اعده افرع قامة من معظم الناس كما سبق لي ان علمت في العراق انه من المفيد جداً ان تبدو متعاظماً ذا هيبة عند التعامل مع الزعماء المحليين لكني شعرت باني اكاد اكون لا شيء امام هذا الهيكل الدبلوماسي الضخم الباسم الذي راح يوجه اليّ اسئلة مؤدبة وهو يحدق فيَّ بمقلتيه.
– كيف يسير العمل بكم؟ متى تبلغ راوندوز؟
– أي خدمة استطيعها للتعجيل به؟
ان هاملتون (الانكليزي) لا يمكن ان يفوت هذه المجاملة دون تقليب وتمحيص، فقد اخذ يسأل نفسه أحقاً يرغب السيد طه في ان تنسف ابواب حصن وقلاع اجداده؟ لان هذا الطريق في الحقيقة سوف يسهل وييسر عملية اسقاطه من قبل حكومة المركز، فهل كان سيد طه يرى في الطريق الجديد الممهد هذا فائدة لبني قومه وان كانت فيه خطورة تتعلق بتقويض سلطانه؟
ان هاملتون وضع فرضيتين ازاء موقف سيد طه، فاما ان يكون كاذباً في موقفه الظاهري هذا واما ان يكون خاسراً في لعبه، او لعله قد جمع بين الامرين.
ان انطباعات هاملتون عن شخصية سيد طه انه ملك في كردستان، عزيز الجانب، تهابه رعيته ان لم تحبه. ارغمته الظروف القاهرة على الخضوع الى حكومة تدعمها حراب البريطانيين ونفوذهم ويعتقد هاملتون ان سيد طه مدين للانكليز فلو اسره الاتراك لنفذوا به حكم الاعدام فقد كان – وهو زعيم قبائل ثارت على الاتراك – شوكة اليمة في جنبهم سنين عديدة، وكذلك لو تمكنت منه الحكومة الايرانية ايضاً اما وزراء بغداد العرب فيسرهم جداً ان يسحقوه لو سمح لهم المندوب السامي البريطاني انه ليعلو على زعماء الكرد الاخرين. انه عظمة مغروزة وحيدة لانه محاط باعداء متحفزين من كل جانب والانكليز وحدهم حماته. وهو لا يجهل هذه الحقيقة وبعد ان قدم الشيخ سيد طه، تحياته الدبلوماسية ووزن شخصية المهندس، هاملتون امتطى جواده واستأنف رحلته في سبيلك.
لقد ترك السيد طه، هاملتون يضرب أخماسا باسداس – حسب تعبير هاملتون – حول حقيقة رأيه بالطريق الذي سيصل الى منطقة نفوذه عن قريب، لكن صلة هاملتون توثقت به وزادت معرفته له واصاب من حسن نواياه فوائد جمة، وقد اسهمت الشرطة الخاصة بالسيد طه في حفظ امن المنطقة اتي كان يعمل فيها هاملتون ويصفها بانها كانت حراسة لا تثمن.
واخر انطباعات هاملتون عن سياسة سيد طه، انه كان يسوس اتباعه بحكمة مع قسوة فيه، الا ان استقلاليته وفرديته، وانفته وكلها من طباع سكان هذه الجبال – سببت له نكسات قاصمة ادت الى سقوطه (81-5).
عادلة خان (الجاف)
ما ان وصل سون حلبجة حتى ذهب الى بيت طاهر بك الابن الثاني لعثمان باشا من زوجته الاولى وهو موصول ببيت السيدة عادلة زوجة عثمان باشا، باشا حلبجة الذي كان قد اوكل الامور في إدارة المدينة إلى زوجته. وقد عرض نفسه على انه تاجر وكاتب فارسي يجوب ديار السيدة عادلة ويرتكن الى فضلها ويذكر سون انها أي السيدة عادلة جادت عليه بغرفة في بيت طاهر بك وبعد ان يصف اصول الضيافة التي اشرنا اليها في موقع اخر من هذا الكتاب التقته السيدة عادلة وحادثته. ولقد وضع سون عبارة (سيدة عظيمة) تحت مذكراته فيما يخص السيدة عادلة (288).
يصف سون الغرفة والاثاث التي التقى فيها السيدة عادلة، اما فيما يخص شخصها فيقول عنها، ان اللمحة الاولى دلت على انها من اصل كردي خالص. ان وجهها ضيق بيضوي وهي فوهاء نوعاً ما وذات عينين صغيرتين سوداوين براقتين وانف نسرى، قليلاً وكلها امارات دالة على ذلك الاصل وتنسجم نحافتها تماماً مع العادة المتبعة للقوام الكردي وهو قوام لا تعتوره سمنة. ثم يسترسل سون في وصف الزي الذي ترتديه السيدة عادلة وقد دامت المقابلة الاولى ساعة وزيادة قرأ فيها سون رسالة فارسية للسيدة عادلة التي اعجبت بقراءته السليمة ويقول سون لقد كانت مشوقة الى ان تعرف ان كنت مرتاحاً تماماً (289-91).
ويذكر سون ان السيدة عادلة هي التي كانت قد خططت بناء سوق المدينة في حلبجة (295). كما انه يقول عنها، هذه الامرأة الخارقة التي احل في بيتها ضيفاً. انها في الاسلام لامرأة لا كفاء لها ولا لها نظير في القوة التي تملكها وفي القدرة التي تصنعها في استعمال ما لديها من اسلحة (276) ويبدى سون اعجابه في الطريقة التي دعمت بها السيدة عادلة مركزها وشخصيتها في حلبجة اذ يقول ما ان حلت السيدة عادلة في حلبجة الا واسرعت في تدعيم مركزها يساعدها على ذلك ما لأسرتها من احترام وهيبة وهو امر لم يعارض فيه عثمان باشا زوج السيدة عادلة ابداً.
لقد شيدت بيتين فاخرين لا نظير لهما في السليمانية ذلك على طراز مدينة سنه قام به بناءون من ايران.
واستطاعت السيدة عادلة ان تثبت وجودها من خلال تضييفها للاكراد والفرس وجعل الطريق بين حلبجة وسنه سالكة وهي مسافة خمسة ايام سيراً واخذت تمسك بزمام الامور ادارياً وبشكل تدريجي، ذلك ان زوجها عثمان باشا كثيراً ما كان يستدعى الى الموصل وكركوك والسليمانية في مهمات رسمية فاخذت عادلة تحكم بالنيابة عن زوجها. فبنت سجناً جديداً واقامت محكمة قضائية كانت هي رئيسة المحكمة ويقول سون كان الباشا وهو في حلبجة يزجي الوقت بتدخين ناركيلته وببناء حمام جديد ويقوم بتحسينات بلدية في حين كانت زوجته هي (الحاكمة).
ويذكر سون في انطباعاته ازدهار حركة التجارة في زمن السيدة عادلة وحظيت المنطقة بتقدم ملموس مما ازعج العثمانيين ان تكون هذه المنطقة القصية على حظ من الازدهار فأرادوا فرض سيطرتهم من خلال مد خط برقي وعبرت العشائر عن معارضتها بقطع الخط ونصحت السيدة عادلة الاتراك بالا يعمدوا الى اصلاحه وانذرتهم ان قومها سيقومون بقطعة وهي في الحقيقة لم تكن ترغب بتدخل الاتراك في منطقتها (280-1).
يلخص سون اعجابه بهذه الامرأة قائلاً في هذه الزاوية القصية من الإمبراطورية التركية المتفسخة المتردية بقعة صغيرة فذة، تسامت تحت ظل حكم امرأة كردية ونمت من قرية حتى غدت بلدة (282).
Taakhi