ابو بكر (ملا افندي)
يبدو ان مستر هَيْ كان كثير الاستشارة مع ذوي الشأن من اهالي مدينة اربيل وكان ملا افندي احد الاشخاص الذين يجالسون مستر هَيْ، فقد دأب الاخير على الاجتماع بوجهاء اربيل كل يوم جمعة بعد الظهر ليبحث القضايا المهمة اثناء احتساء الشاي. ويطلق هَيْ على هذا المجلس من باب الدعاية (البرلمان).
وكان المواظبون على حضور هذا المجلس هم ملا افندي وسيد عبد الله باشا والمفتي وعلي باشا والحاج رشيد اغا واخرون ممن هم اقل شأناً من هؤلاء. والاشد خطورة كما يذكر هَيْ هو (ملا افندي) وكان على الاغب يزوره في بيته الكائن في (باداوه) وهي من ضواحي مدينة اربيل وكان ملا افندي شاهداً على المفاوضات التي جرت مع رؤساء الدزه ى.
ويبدي هَيْ اعجابه بباداوه وموقعها اللطيف والبساتين التي كانت تحيط بها والدار التي كان يسكنها ملا افندي الذي فيه روضة وحوض ماء وكذلك يشيد بالاثاث الداخلي للدار.
يمضي ملا افندي نهاره في المسجد الكبير في اربيل فهو امام هذا المسجد ثم يخلد الى مأواه في المساء وان اسمه الحق (ابو بكر) لكنه يعرف دوماً بـ (الملا الصغير) و (ملا افندي)، وهو قصير القامة ذو ملامح مصقولة، تقي ورع ويبدى هَيْ اعجابه بيديه الرقيقتين، وهو يرتدي في العادة جبة طويلة رمادية تبلغ قدميه ويضع على رأسه طربوشاً لف حوله القماش الموصلي (موسلين) ازرق اللون فاتحاً انه مبجل في كردستان كلها واهلها يتابعون اخباره وحصل اسلافه على سمعة كهذه.
وعلى النقيض من افراد اسرته فقد كان يحرص على قراءة النشرات التي تأتي من مصر وتركيا، واحاديثه ذكية تتناول موضوعات السياسة والعلم.
لقد سأله هَيْ يوماً سؤالا عن وجهة نظره في الوضع القائم في بلاد ما بين النهرين (العراق) فأجاب ان كل فرد يتوق الى رؤية بلاده (الام) مستقلة ثم اضاف ملا افندي، ان الحسد المتبادل قد فرقنا شر تفريق وليس هناك من يصلح للحكم. نريدكم ان ترعوا امورنا حتى يعود الامن والسلام اليها ونصبح على حكم انفسنا قادرين.
ويعلق هَيْ على وجهة النظر هذه، ان ملا افندي بقي مخلصاً صادقاً لمثل هذه السياسة وعلى الرغم من ملازمته فانه رفض أي منصب حكومي، ودأب على مد الحكومة واعانتها باقصى ما لديه من نفوذ وقوة، وقد قاد اكثر من أي شخص اخر الرأي العام في اربيل.
ويتحدث هَيْ باسف شديد عن اصابة افراد اسرة ملا افندي جميعاً بداء السل وتوفيت زوجته وثلاث بنات له بهذا الداء ولم يبق عنده الا ابن صغير في الخامسة من عمره (213-4).
احمد باشا يتحدث مستر هَيْ عن احمد باشا دزه ى انه كان كثير الكلام وضئيل البنية وعمره اكثر من ستين عاماً وحظه قليل من التعليم ولكنه كان تاجراً ناجحاً وهـو – اميل الى التجارة منها الى رئاسة القبيلة، وكان يعرف بـ (كافروش) أي بائع التبن، ويبدو عليه الحرص الشديد على جمع الثروة. لم يكن غنياً في بداية حياته، بل كان من هواة لعبة (الطاولي). ولكنه فكر من بعد ان يشيد قرية في كنديناوه وفعلاً بدأ يجذب المزارعين اليها ولكن حصاد السنة الاولى باء بالفشل فقدم الى الحكومة طلباً يرجوها اعطاءه قرضاً كي يستطيع هو وجماعته من شراء حبوب للربيع القادم.
يذكر مستر هَيْ ان احمد باشا بدأ يقرض الفلاحين من هذا المبلغ وازدهرت الزراعة عنده من بعد فاصبح يملك مع ابناء عشيرته الاقربين نحو (18) قرية ويقال انه كان يحتفظ بـ (200000) من الجنيهات من الذهب في بيته وكان يستطيع بثرائه ان يشتري عون الحكومة العثمانية في صراعه مع ابراهيم اغا.
ولكن على ما يذكر مستر هَيْ، ان احمد باشا بعد ان وجد انه لا يستطيع شراء العدالة البريطانية عمد الى اظهار تحيزه بازاء الحكومة ولعله كان المحرك الاول للاضطرابات الراهنة (205).
اسماعيل بك الراوندوزي وباويل اغا
التقى هاملتون اسماعيل بك الراوندوزي في المدة التي كان يعمل بها في المنطقة مهندساً لشق طريق راوندوز اربيل.
يذكر هاملتون ان اسماعيل بك الراوندوزي اوسع الزعماء نفوذاً في راوندوز وظل سنوات يمثل منطقته نائباً في البرلمان العراقي وهو المالك بحكم الوراثة معظم الاراضي المجاورة وليس ثم من يفوقه شرف المعاملة او احتراماً عند الفلاحين كرداً واثوريين على حد سواء. وقف اسماعيل بك الى جانب النظام والقانون ولم يتردد – حسب قول هاملتون – في كبح جماح كل قبيلة يخطر ببالها ان تشق عصا الطاعة على السلطة المنتدبة واستخدام سلطته الواسعة اكثر من أي كردي اخر لاقناع بني قومه بالفائدة التي ستعود عليهم من شق هذا الطريق الذي سينفذ الى داخل كردستان ولن يعلو لهم شأن او تنعم كردستان بالرخاء الا بعد تعبيد الطريق في جبالها وكان يؤمن ان الرخاء المنشود يمكن الوصول اليه بعون الشعب البريطاني.
ويعلن هاملتون ايضاً، ان اسماعيل بك كان واحداً من عدة رجال كرد ادركتهم الخيبة المرة لانتهاء الانتداب قبل السنوات الخمس والعشرين المعينة في بداية الامر.
الحقيقة ان ما ذكره هاملتون تواً عن الخيبة التي شعر بها اسماعيل بك لانتهاء الانتداب البريطاني مبكراً لها اسباب عند اسماعيل بك، ذلك انه أي اسماعيل بك كان قد حسم موقفه وأيد البريطانيين وكان يجد من الوضع السياسي انذاك اهمية البريطانيين مباشرة سنداً له اذ كان مهدداً بالقتل فقد كان باويل اغا وابنه نوري يتعقبانه وينتظران الفرصة المناسبة لاخذ ثأرهما منه، ولكنه كان قد نصب حاكماً عسكرياً لراوندوز وصدق هذا التعيين النقيب هَيْ نزولاً عند رغبة معظم اهالي راوندوز واسماعيل بك ما يزال فتى لم يتجاوز الثمانية عشر عاماً من عمره ولكن اسرة باويل اغا في راوندوز كانت مناوئة لاسرة اسماعيل بك، وكانت اصابع الاتهام تؤشر الى باويل اغا في مقتل سعيد بك والد اسماعيل بك.
ان هاملتون وهو صديق شخصي لاسماعيل بك يعتقد بخطأ تعيين اسماعيل بك انذاك حاكماً عسكرياً لمدينة راوندوز ربما لصغر سنه او للخصومة المستفحلة بينه وبين باويل اغا. على الرغم من ان هاملتون كان معجباً اشد الاعجاب بشخصية اسماعيل بك اذ يذكر عنه، انه كردي قح وسليل حكام متوارثين حكموا راوندوز منذ القديم ولذلك ليس ثم اجدر منه لمساعدة البريطانيين في اقامة حكم مستقل في العراق. وكان ذكاؤه فوق الذكاء الاعتيادي وهو يتكلم اللغات الفارسية والتركية والعربية والانكليزية فضلاً عن لغته الام. لكنه قليل الخبرة بالرجال وبالحكم على كفايات ناصحيه الكثيرين بسبب نشوئه في كنف امه واهمال ابيه له، ولا شك ان النقيب هَيْ كان غير مرتاح الى هذا التعيين نوعاً ما.
لقد طلب من شيوخ ووجهاء مدينة راوندوز القسم على المصحف بالولاء الى اسماعيل بك ولم يحضر نوري ولكن والده باويل اغا حضر وعندما حان دوره، وضع يده على المصحف ونطق بالعبارة التالية وبوضوح كاف (سيصفو قلبي لاسماعيل بك طالما صفا قلبه لي) (220) وقد التفت الجميع مبهوتين الى الرجل الذي ابطل يمينه بشرطه.
لقد اعلن نوري باويل التمرد والقي القبض عليه وارسل مخفوراً الى اربيل ومن هناك الى بغداد ثم افلت في الطريق وهرب وعاد الى الجبال ليصبح خطراً حقيقياً ولا سيما ان ثورة العشرين التي راحت تمتد نارها من الجنوب حتى الموصل وبنوري طليقاً لابد ان الثورة ستبلغ جبال كردستان اللهم الا بأتخاذ خطوات حازمة ضده ثم القي القبض على والده باويل اغا وزج به في موقف اربيل (222). وانضم نوري الى قوات الثوار في جبهة عقرة ثم استطاع باويل اغا وابنه نوري من السيطرة على مدينة راوندوز وظلت المدينة في قبضة الثوار حتى عاد البريطانيون الى احتلالها واخمدوا الثورة وعاد اسماعيل بك الى راوندوز لكنه لم يتول الحكم فيها بل اصبح السيد طه شمزيناني مسؤولاً عن مدينة راوندوز (224) وبقي اسماعيل بك يعاني من قلق الثأر وهذا ما تم فعلاً اذ قتل على يد نوري اغا في الطريق الى راوندوز. لقد طلب اسماعيل بك من هاملتون ان يشتري له جهاز راديو وفعلاً اشترى هاملتون له هذا الجهاز اثناء عودته من احدى اجازاته من لندن. ويذكر هاملتون هذا الموضوع اذ يقول، لقد كان اسماعيل يتابع حال الدنيا بعينين حادتين ذكيتين ويركز اهتمامه على كل التطورات التي يقع عليها في ميادين العلم والصناعة دون ان يجعل من تأخر بلاده وبداوتها عقبة في اهتمامه بذلك..
ويعقب هاملتون اذ يقول ولذلك لم تعترني الدهشة عندما وجه اسماعيل بك الحديث الى تقدم التلغراف واللاسلكي والبث الاثيري في السنوات الاخيرة وقال ونحن جالسون في جو ليلة هادئة يغلب عليها العلم والثقافة:
لا ادري هل يكون بامكانك ان تأتيني بجهاز لاسلكي عند عودتك من اجازتك؟
قيل لي ان ثمة اذاعات كثيرة تصدر عن اوربا وتركيا وروسيا.
وانا احب بنوع خاص سماع الاذاعات الانكليزية فانا اتكلم اللغة واستطيع تعقب الانباء والانصات الى موسيقاكم الغربية (228).
يذكر هاملتون، لا يعرف كيف سمع نوري بمقدم اسماعيل بك فترصده مع جماعة من ثلاثين شخصاً، وكان نوري انذاك قد عين “مفوضاً في الشرطة” وتوزعت هذه الجماعة على جانبي الطريق المؤدي الى راوندوز وعلى حين غرة انثال الرصاص منهمراً على سيارته ومع مقاومة رجال اسماعيل بك فقد اردي قتيلاً كما اصيب نوري بجراح ايضاً. ويعرب هاملتون عن استغرابه من ان نوري لم يقم بأي محاولة للفرار بل سلم نفسه للشرطة طائعاً فأحيل الى المحاكم وبعد كثير من التأجيل والتردد حكم عليه بالموت شنقاً بعد تقديمه للملك استرحاماً للعفو مستنداً الى العادات العشائرية وابدل حكمه بالسجن المؤبد (243-4).
Taakhi