15/10/2008
![]() |
إلا أن ما لم يكن بالحسبان هو تحليق سعر الذهب هذا الأسبوع , الى أعلى قيمة وصل لها في كل تاريخ البشرية حيث زاد سعره خلال السنتين الأخيرتين بمعدل 10 آلاف دولار أمريكي للكيلو الواحد من عيار 999,9 .
سبيكة الكيلو الواحد وهي قطعة لا يزيد حجمها عن حجم الهاتف النقال الصغير سعرها اليوم 34320 $ دولار أمريكي , أي : أربعة وثلاثون ألفا وثلاثمائة وعشرين دولارا أمريكيا . ترى إلى أين يمضي عالم اليوم ؟؟؟
![]() |
![]() |
جون كينيث جلبرت |
![]() |
لندن في العشرينيات |
في آذار 1921 إنخفضت الأجور وأصبح التذبذب الإقتصادي أكثر وضوحا , ولم تعد بريطانيا ( بلدا صالحا للأبطال ) كما كانت تَعِد بذلك دعاية الحرب , على الرغم من أن الضمان الإجتماعي إمتد ليشمل أغلب العاملين من ضعيفي الأجور إضافة الى العاطلين .
![]() |
باريس في العشرينيات |
![]() |
نورنبرغ في العشرينيات |
![]() |
الفرنسيون في العشرينيات |
كل ذلك لم يكن يهم أحدا غير الأمريكان .. فإذا كانت ألمانيا غير قادرة على دفع التعويضات الى دول أوربا , فهي في نفس الوقت غير قادرة على سداد دينها الى الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة شراء السلاح منها طيلة فترة الحرب … مثلما لن تتمكن بريطانيا وفرنسا من سداد ديونهما عن السلاح الذي إشترتاه من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي كانت تبيعه لكل من يريد .
لحل هذه المشكلة تمت مباحثات إقتصادية قامت بموجبها الولايات المتحدة بإقراض ألمانيا المال الكافي لإعادة بناء إقتصادها وإعادة دفع التعويضات الى فرنسا وبريطانيا , ليتمكن هذين البلدين من دفع ديون الولايات المتحدة .
في البداية كانت الإتفاقية ناجحة , فأوربا بين عامي 1925 _ 1929 صارت منتعشة إقتصاديا وإعتدلت سياسيا وقد كان واضحا أن كل ذلك يعتمد على الإقتصاد الأمريكي . ذات يوم قال وزير الخارجية الألماني : (( بالحقيقة , ألمانيا ترقص على حافة بركان لأن الأمريكان إذا طالبوا بسداد ديونهم فإن قطاعات واسعة من الإقتصاد الألماني ستنهار )) .
![]() |
الولايات المتحدة في العشرينيات |
الرؤساء الأمريكيون : وارن هاردنج 1921 _ 1923 , الرئيس كالفن كوليدج 23 _ 1929 , والرئيس هربرت هوفر 29 _ 1933 , قاموا بإتباع سياسة خاصة مع المال . تم تخفيض الضرائب المباشرة على الدخل والعمل , مقابل رفع الضرائب غير المباشرة التي تشمل المجتمع كله . فصار من الأسهل على أرباب العمل إقتراض المال من البنوك , كما ضوعفت الضريبة على المواد المستوردة لحماية الصناعة الأمريكية من المنافسة في داخل الولايات المتحدة .
هذه الإجراآت ساعدت السوق على الطفرة الإقتصادية , مما أدى الى نشوء صناعات جديدة تعتمد على التقدم التكنولوجي الحاصل . صناعة السيارات كانت مهمة جدا , لأنها كانت تستخدم إنتاج مصانع أخرى مثل إنتاج الفولاذ والمطاط والزجاج , في صناعة السيارات .
كما كان هناك نمو سريع لصناعة الأدوات المنزلية كالثلاجات والراديوات والمكانس الكهربائية . كانت تلك بحق فترة إزدهار إقتصادي أمريكي , وكان العمال يقبضون ضعف الأجور , في ذلك العقد من السنين .
بالطبع ليس جميع الأمريكان يتشاركون في هذا الرخاء , فالفلاحين الذين ساعدتهم التكنولوجيا الحديثة , كانوا ينتجون الكثير وبسبب إرتفاع العرض عن الطلب كانت أسعار محاصيلهم تهبط فيخسرون . ولهذا فقد تعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء , وفقراء أمريكا أغلبهم من السود الذين أسسوا التجمعات للمطالبة بتصحيح أوضاعهم العامة , كما طالبوا بقانون ضد ( الإعدامات الكيفية ) بحقهم , وأن يشملهم حق الإنتخاب , لكن تلك المطالب أهملت , لتتكون منها فيما بعد مشاكل أكبر .
غالبية الأمريكان , كانت عشرينات القرن الماضي بالنسبة لهم وقتا للتفاؤل العظيم . وسموا تلك الفترة ب : ( العشرينات الخارقة ) و ( عصر الفيضان ) و ( عصرموسيقى الجاز ) .
كانت هناك إنجازات في كل شيء , وصلت الى الأفلام السينمائية الناطقة والموسيقى الجديدة الإيقاع .
تغير العالم بسرعة .. والى الأحسن , ولم يكن يبدو هناك سبب يدعو هذا الرخاء الى الإنتهاء , أو يحدد ما يمكن أن يحققه الأمريكان , أو يملكونه , أو يفعلونه .
هذا الإحساس بالتفاؤل والقوة قاد الى تصورين بمنتهى الخطورة :
# الأول هو الإحساس أن لا شيء من الممكن أن يمضي في طريق الخطأ وعليه فليست هناك حاجة للتنبه ضد المخاطر .
# الثاني هو الحصول على كل ما كان يعد في زمن آخر نوعا من الحماقة , وأحسن مثال على هذا هو التدافع المجنون لتكوين الثروات من خلال المقامرة في أسواق البورصة .
كيف بدأ الكساد الكبير , وإلى أين وصل ؟
أرض فلوريدا كانت رخيصة جدا , ومرغوبة لبناء بيوت لتمضية الأجازات والمتعة , ومن هنا سيبدأ التحطم العظيم وإرتفاع الأسعار .
مشترو العقارات والأرض في ( فلوريدا وحدها ) كان عليهم دفع 10 % من قيمة الأرض المشتراة في فلوريدا الى الحكومة للحصول علة وثيقة التملك التي تعطيهم حقا خاصا في بناء عقار عليها , من حقهم بيعه بعد البناء والتحصل على ثروة من دون أن يكون عليهم إعادة 90% من ثمن الأرض الذي تبقى للدولة . والمالك الجديد الذي يشتري منهم , سيكون مالكا للبناء كاملا + قيمة 10% فقط من قيمة الأرض , وتبقى الدولة تملك 90% من قيمة الأرض .
قام هؤلاء بالبناء والبيع الى أشخاص آخرين بمبالغ خيالية وحققوا الثروات . ما دامت الأسعار مستمرة بالصعود .
بحلول عام 1926 .. عاصفة ( هوريكان ) ضربت فلوريدا ودمرت الممتلكات .. فلم يعد المُلاّك الجُدد الذين دفعوا مبالغ ضخمة للحصول على ممتلكات في فلوريدا يملكون غير 10% من قيمة الأرض التي عليها أبنيتهم المدمرة .
لتعويض هذه الخسارة بدأ الناس بالمضاربة في أسواق الأسهم بشكل جنوني , وكانت أسعار الأسهم تخضع لجاذبية الشركة التي تطرحها للتداول , لذلك سارع الناس للشراء من كبريات الشركات , فتجمعت جميع الإستثمارات في مصارف محددة , عندما إنهارت , سحبت معها الجميع .
بحلول بداية سبتمبرعام 1929 , بدأت أسعار الأسهم في أسواق البورصة / ويل ستريت بالتراجع , بعد أن كانت قد حافظت على إرتفاع منتظم لمدة 7 سنوات . ليس تراجعا كبيرا , لكنه كان كافيا لإقلاق الناس . شيء يشبه سقوط حجر صغير في بحيرة ماء , حيث تبدأ الترددات برسم دوائر أكبر وأكبر حول نقطة السقوط . خصوصا والناس محملة أصلا بقلق ما حصل في فلوريدا .
بدأت الأخبار تنتقل بين الناس بسرعة كبيرة , وخوفا من تراجع أكبر في سعر الأسهم .. بدأ الكل بالبيع . في يوم الخميس 14 أكتوبر الذي يعرف ب (الخميس الأسود ) وحده تم بيع 13 مليون سهم , الذين باعوا كانوا يخافون الهبوط , والذين إشتروا على أمل توقف الهبوط أو الربح , واجههم نفس المصير في الأيام التالية .
خلال أسبوع قامت العديد من البنوك الكبيرة وهي تسعى لوقف الإنخفاض بشراء الأسهم المباعة بثقة , لكن ثقتها تبخرت بإشاعات عن الكارثة إنتشرت في كل مكان . الإندفاع الى البيع كان على أشده ولا شيء يمكن أن يوقفه . يوم الإثنين كان سيئا لكن الأربعاء 29 أكتوبر كان أسوا يوم لتدافع الناس من أجل البيع .
الإقتصادي الأمريكي جون كينيث جلبرث أطلق على ذلك اليوم تسمية ( اليوم الأعظم تدميرا في تاريخ البورصة ) ما يزيد على 16 مليون سهم بيعت فيه , أكثرها مقابل لا شيء في الواقع , آلاف من المستثمرين , ومئات من المصارف الإستثمارية .. أفلست تماما . وهذا التحطم في رؤوس الموال هو الذي سيفضي الى الكساد الكبير , حيث البطالة : فلا عمل .. ولا بيع ولا شراء .
رجال كانوا يقودون سيارات ليموزين فارهة ويأكلون في أفخم مطاعم نيويورك .. صاروا شحاذين خلال ليلة ويوم , وكانت هناك جملة من عمليات الإنتحار في نيويورك , ويقال أن موظفي الخدمة في الفنادق كانوا يسألون النزلاء الجدد فيما إذا كانوا يطلبون غرفة ليناموا فيها … أم ليقفزوا منها !!؟
تبين سريعا أن المستثمرين ليسوا وحدهم الذين خسروا حياتهم وممتلكاتهم بسبب المضاربات والكساد … فحين طالبت الولايات المتحدة الدول الأوربية بسداد ما بذمتهم من ديون , إتسع الإنهيار عن القارة الأمريكية ليصل الى دول أوربا الإستعمارية .. ومنها الى أبعد مستعمراتها على الأرض حيث دخل الى كل بيت حول المعمورة .
البنوك والشركات في الولايات المتحدة وخارجها إنتهت , وسحبت معها غيرها الى النهاية . الإقتصاد العالمي إنكمش على نفسه وأفلست المصالح , ومن لم يرد الإفلاس , فقد كان عليه إيقاف العمل مؤقتا لمدة قد تطول أو تقصر .
أهل العراق يذكرون تلك الفترة من ثلاثينات القرن الماضي , ويسمونها ( أيام التموين ) حيث كان يوزع عليهم الطعام بالبطاقة التموينية , ويذكرون منها السكر الأسمر , والرز الأحمر , والصابون الزيتي , وقماش الخاكي , الذي يوزع بالبطاقة التموينية أيضا ليستعمل في صناعة الملابس والفرش والأغطية .
وصارت الفترة تعرف عالميا ب ( الكساد الكبير ) وإستمرت في بعض الدول فترة أطول من غيرها لتعم الفاقة وفقدان الأمل بين الناس .
الكارثة الإقتصادية التي جلبت ( الكساد الكبير ) كانت السبب الرئيسي في صعود الحزب النازي في ألمانيا الى السلطة , والسبب المباشر للحرب العالمية الثانية ( 1939 _ 1945 ) .
كما ألقى ( الكساد الكبير) بضلاله على الطريقة التي يربط فيها الناس ما بين الإقتصاد والسياسة لما تبقى من القرن العشرين الذي قام ( عباقرة النظام العالمي الجديد ) في نهايته بإعلان حرب جديدة سموها ( الحرب على الإرهاب ) لفتح دوامات الهاوية الإقتصادية العالمية من جديد , والتي لن تضر العالم وحده لكنها ستلحق الضرر بالخزائن الأمريكية نفسها , وتلك هي منتهى ( العبقرية ) التي تثبت أن الإنسان لم يتخلص من دوافعه الحيوانية الأصلية رغم كل تبجحه بالتفوق العلمي والفكري والسياسي وغزو الفضاء ونظرية الإنفجار العظيم . فالحضارة ليست تقدما علميا وتكنولوجيا وتفوقا عسكريا يسحق الدول والشعوب تحت قبضة من حديد , لكنها نظام قيمي وأخلاقي ومعرفي , ومن دون هذا النظام , يكون تقدم الإنسان وسيلة لتحويله الى وحش كاسر .. ليس إلا .