لا شك أن تقديم خمس مجموعات شعرية، في جلسة واحدة، هو في الواقع تقديم لملامح مهمة من التجربة الشعرية في المغرب. واعتبارا للتحقيب الزمني الذي يجعل الشعراء المعنيين أصحاب هذه المجموعات ضمن جيل شعري واحد، فإن هذه الملامح هي تحديدا ملامح، أو بعض ملامح التجربة الجديدة، التي جاءت لتكرس اشتغالا جديدا سواء على مستوى اللغة أو على مستوى القضايا التي تلامسها في هذا الزمن الذي تتسارع فيه التحولات.
إن هذا يعني أيضا أن ثمة مشتركا بين هؤلاء الشعراء، مشتركا يتعلق في جزء منه بهموم الكتابة الشعرية الجديدة، وقضاياها، ويمكن أن نرصد ذلك انطلاقا من العناوين، قبل النصوص التي تتضمنها هذه المجموعات الخمسة: »قميص الأشلاء«، و »آت شظايا من رسائلهم«، و»صمت الحواس«، و»خصبة مسافة الألم« و»شبهة الطين«. هذه العناوين هي تنويعات على ما يبدو للوهلة الأولى لقاسم مشترك هو الغياب، الذي قد يكون غيابا في الموت وبالموت، أو في البعد، أو شرودا للتأمل، وقد يكون غيابا لشيء معنوي هو بالتأكيد نقيض للألم.
إن تقديم أربع مجموعات شعرية، إذن، انطلاقا من قراءة سريعة جدا، يُسقط بلا ريب في نوع من الاختزال الذي هو نقيصةٌ، وقد يدخل في باب ما لا يليق، ولكنه ضروري، ويشفع له الحيز الزمني الذي لا يسمح إلا بقراءة متعجلة لا تحيط بمجمل الأعمال وما تضمنته، وإنما تكتفي بالإيماء إلى ما يمكن أن يشكل بداية لقراءة حقيقية، وربما لما يمكن اعتباره طعما لاصطياد قارئ نهم يهمه البحث ويحركه الفضول.
يجمع هؤلاء الشعراء المغاربة، ادريس علوس وعبد الحق ميفراني وعبد الغني فوزي وعبد الرزاق الصمدي ومشروحي الذهبي الانشغال بما يمكن تسميته ببياضات الذات، تلك الندوب التي تؤجج صراع الكائن الهش مع العالم المتحول بشراسة بالغة، حيث تشكل الخسارة والخيبة القسط الأوفر من نصيب الذات في الحياة.
لقد أضحت الخيبة، قضية الشعراء المغاربة الجدد، هذا إذا لم تكن الخيبة قضية الشعراء الجدد جميعهم في العالم العربي. ففي غياب القضايا الكبرى التي انشغلت بها الأجيال السابقة من الشعراء، بسبب التوصل إلى أنصاف الحلول وسقوط جدران الإيديولوجيا هنا وهناك وانحسار الخطابات القومية الضيقة التبشيرية، باتت الخيبة الوجودية، الفردية في الظاهر الجماعية في العمق، قضية كبرى جديدة، وأضحى القلق يمسك بتلابيب الوجدان، مهما تنوعت التجارب وتعددت الأسماء. ولكن دون أن يلغي هذا التقاطع والتلاقي في الهموم والقضايا، ذلك التجافي والتباعد في الأساليب والصور الشعرية التي تشكل الميزة الفارقة بين شاعر وآخر.
يقول عبد الرزاق الصمدي:
سنتي
أن أحمل وردة الأسئلة
وأتنزه تحت أمطار الحزن
سنتي
أن أستل دمي
من سلالة مريضة
ومن تعب لانهائي،
في هذا المقطع تجتمع كل أسباب الخسارة بالرغم من الأسئلة التي تحمل قلق الكائن ورغبته في الوصول إلى الأجوبة المستعصية عن أسرار وجود الكائن وأسباب نزوله من عليائه إلى الأرض غير المقدسة. هذا القلق الذي يفترض أن يفتح آفاقا ما، في عتمات الحياة يندفن مرغما تحت أمطار الحزن، وبسبب سلالة دم مريضا وأيضا بسبب تعب لا ينتهي.
ويقول ادريس علوش:
ما تبقى
من هذي الديار
غير الخراب
وأطلال
لا يبكيها
الشعراء
قط.
في قراءة سابقة لمجموعة سابقة أيضا قلت إن ادريس علوش مولع بتحويل أشياء الخارج إلى ملك لذاته، وهو هنا يجعل تلك الخيبة التي يشعر بها كشاعر ضمن هؤلاء الشعراء الذين جعلوا من الخيبة والخسارة والألم وقودا لقصائدهم، خيبة عامة حين يتحدث عن الديار. إنه يمعن في تصوير هذه الخيبة وتعميق ندوبها في القلب، وهو يستحضر من بعيد الوقوف على الأطلال، والبكاء عندها. إن الديار تعيش مأساتين لا مأساة واحدة، وذلك على خلاف ما كان عليه الأمر في عصور العرب الغابرة. لقد تحولت الديار إلى خراب وأطلال، وهي خيبتها الأولى، إلا أنها لا تجد من الشعراء من يقف عنها أو يبكيها، وتلك خيبتها الثانية.
ويقول عبد الحق ميفراني:
كل ما أتذكره
في صباح الخسارات…
العدم يهشم المعنى
السقوط يقتفي آثار لذة الضحية
الحزن فتاة جرباء بالبياض
هذا المقطع عالم صغير، هو عالم الخيبة المسترسلة، والخسارات الدائمة، لأنها لا تتعلق باليوم أو بالحاضر، بل إن الذكرى نفسها مغلفة بالسواد »كل ما أتذكره«، بل إن الطريق إلى المستقبل هي نفسها محاطة بإمكانية الهزيمة »السقوط يقتفي آثار اللذة«. بهذا تكون الخسارة شاملة، والقلق من الأفق يزداد احتشادا في الداخل، عندما يأخذ الحزن تلك الاستعارة كفتاة، بكل دلالاتها، كأنثى وكامرأة وواهبة للحياة، لكنها فتاة ملفعة بالبياض. قد يكون البياض كفنا، ولكنه أيضا قد يكون مساحة للتأمل تبعث على الأسئلة وعلى مزيد من القلق.
ويقول عبد الغني فوزي:
هاهم يعبرون للموت
دون أثر يعبرون كانكسار الموج في أفق القوارب…
ها هم يتخطون الحياة
بأعوادهم الفتية
فيسقطون. ويسقطون
كأن الوطن ظل مقبرة.
يغطي الانكسار مساحات وافرة من مجموعة هذا الشاعر، هذا الانكسار الذي يولده الهامش، بلا شك، باعتبار الانتماء إلى منطقة محددة هي مدينة الفقيه بنصالح، وهي منطقة بالمناسبة أنجبت أيضا الشاعر الراحل عبد الله راجع. كما تولده أيضا تلك المأساة التي يشير إليها المقطع السابق، في كثافة لغوية جميلة. إن هذا الانكسار بقدر ما هو متعلق بذات الشاعر فهو أيضا متعلق بأفق عام، لأن ما اصطلحنا عليه ب »قوارب الموت«، لم يوفر منطقة من مناطق المغرب. إنها تمثل الخيبة الكبرى، الخيبة التي تنتج عن يأس مطلق من الحياة داخل الوطن الذي ليس هنا سوى ظل لمقبرة.
ويقول مشروحي الذهبي:
بين ركام الأوراق أنام على كابوس وأستيقظ على كابوس
ويقول:
أنا لا أنتظر شيئا وأنا أحلق على بساط هشاشتي أنا لا أنتظر سوى حضور الموت لأشهد عن قرب بكاء اللغة علي.
وأيضا:
لكل الذين لم يموتوا منا بعد
نحن القادمين لمأتم ذليل،
قبر جماعي وآخر
وآخر
يذهب مشروحي الذهبي إلى أقصى حدود الخسارة. ماذا يتبقى إذا لم يعد ثمة ما يمكن انتظاره غير الانزلاق تحت أجنحة العدم في قبر جماعي، أو في كابوس مقيم أو في الموت فقط.
إذن هذه إطلالة متعجلة على هذه المجموعات الخمسة، وهي إطلالة غايتها الإشارة بمحبة إلى هذه الأعمال، دون عميق نظر في كل ما يعتمل فيها من لغة وصور وأساليب، وإذا كان لا بد من إضافة بعض الكلمات، فهي أن هذه التجارب هي جزء من التطور الذي عرفه الشعر المغربي الحديث، وهي
تجارب تصدر عن انتماء لما يمكن تسميته بالأفق الكوني للشعر المعاصر حيث يستحوذ الإنسان بتفاصيل حياته، وبقلقه، وضآلته أمام آلة الزمن والتكنولوجيا، والتحولات المتسارعة، على اهتمام الشعراء في العالم. لقد بات الإنسان هو القضية الكبرى للشعر اليوم، ولعل تلك المقولة التي تقول إن المحلية هي مفتاح العالمية انكسرت، مع الانفتاح الشامل للشعوب على بعضها، وخاصة ما يتعلق منه بالجانب المعرفي والثقافي، مع ما يتيحه ذلك من تلاقح والتقاء.
*ألقيت هذه الورقة خلال الأيام الثقافية الإماراتية بالغرب يوم 12 أكتوبر 2008، وقد صدرت المجموعات الشعرية ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب، بدعم من دائرة الثقافة بإمارة عجمان
—
جمال الموساوي
شاعر وصحفي مغربي