يسر صفحة دراسات كوردية ان تقوم بنشر كتاب الدكتور بدرخان السندي
( المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي) وذلك عبر حلقات متسلسلة.ان تجاوب الشيخ محمود مع الانكليز كان تجاوباً واضحاً لا لبس فيه فها هو ويلسن يطلعنا على مذكرة الشيخ محمود له والتي تحمل فضلا عن توقيع الشيخ محمود توقيع اربعين رئيساً:
لما كانت حكومة صاحب الجلالة قد اعلنت عزمها على تحرير الاقوام الشرقية من نير الحكم التركي، ومنح مساعدتها لهذه الاقوام على تأسيس استقلالها، فان الرؤساء، بصفتهم ممثلين لأهالي كردستان، يرجون الحكومة ان تقبلهم ايضاً تحت الحماية البريطانية وتلحقهم بالعراق لئلا يحرموا من منافع مثل هذا الارتباط. ويسترحمون من الحاكم الملكي العام في العراق ان يبعث لهم ممثلاً عنه مع المساعدة الضرورية التي تمكن الشعب الكردي من التقدم في ظل الاشراف البريطاني تقدماً سليماً على اسس مدنية. واذا ما قدمت الحكومة مساعدتها وحمايتها للأكراد فهم يتعهدون بتقبل أوامرها ومشورتها.
وطلب الشيخ محمود علاوةً على ذلك ضباطاً بريطانيين للعمل في جميع الدوائر الحكومية، ومن بينهم ضباط للشبانة الاكراد، مشترطاً فقط ان يكون الموظفون المرؤوسون من الاكراد وليس من العرب على قدر الامكان (179). ان ما تقدم يعني ان الشيخ محمود قد افترض امكان الحصول على حكم ذاتي في العراق يكفل الحقوق القومية للكرد ولكن تحت الحماية البريطانية وفي ضوء ما اعلنه الحلفاء في ضمان الحقوق القومية للشعوب وفي ضوء مختلف الوعود والقرارات بما في ذلك قرارات الرئيس الاميركي ويلسن.
وقد استجاب ويلسن لهذه المذكرة واعطي كتاباً ينص على ان أي قبيلة من الزاب الكبير إلى ديالى عدا اكراد ايران تقبل بمحض ارادتها بزعامة الشيخ محمود سوف يسمح لها ان تفعل ذلك وان الشيخ محمود سوف يحظى بالتأييد المعنوي في حكم المناطق المذكورة اعلاه بالنيابة عن الحكومة البريطانية.
لا نعتقد ان أي شخص اخر لو وصلت به ثقة بريطانيا إلى هذا المستوى ويحمل روحاً قومية الا وان يفكر أو يذهب به الطموح إلى اعلان الدولة المستقلة.
ان ويلسن ينتقد الشيخ محمود في مطالبته باعلان دولة مستقلة يكون هو رئيسها وتحت الحماية البريطانية (180) أي على غرار ما حدث في بغداد ونقول لِمَ لا؟ ان الشيخ محمود وغيره وحتى من يقرأ مذكرات هؤلاء الحكام السياسيين البريطانيين يسأل ذات السؤال لِمَ لا؟ لان مذكرة الشيخ محمود كانت قد اشترطت الحماية البريطانية وليس الحماية العربية في العراق المستقل.
فماذا يعني ان تضع امام شخص ظامئ قنينة ماء بارد وقدحاً؟ اليس في هذا دعوة لشرب الماء؟ ان ما فعلته بريطانيا بالكرد هو ذات الشيء وكانما تقول له كن دولة ولا تكن وهاك ماءً ولا تشرب! ستبقى السياسة البريطانية انذاك مدانة ازاء القضية الكردية اما (التخريج) الذي ذهب اليه ويلسن وربما استمده ممن اكبر منه ثم استعارته مس بيل وكذلك نوئيل فسوف يبقى اسخف تخريج سياسي ذلك الذي يذكره ويلسن، وهو انهم كانوا يعتقدون ان كردستان الجنوبية لا يمكن ان تزدهرالا باعتبارها جزءاً من بلاد ما بين النهرين (يقصد العراق تحديداً لان منطقة ما بين النهرين في الواقع لا تتحدد بالعراق وحده بل تبدأ من تركيا لتشمل جزءاً من سوريا ثم العراق) والسبب في اعتقادهم هذا على ما يذكره ويلسن ان السوقين الوحيدين الممكنين لكردستان هما الموصل وبغداد! وكانت المواصلات الوحيدة المؤدية اليها تمر عبر العراق (186).
وطبعاً لا يمكن ان ننكر الواقع الجغرافي والسوق ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ان قيام دولة كردية مستقلة معناه انعدام العلاقات الاقتصادية بين هذه الدولة والعراق أو بين السليمانية وبغداد؟! الم تقم التجارة انذاك حتى بين القارات التي تفصلها المحيطات؟! وما علاقة السيادة القومية بالتجارة؟ لقد كانت امارة بابان تصدر وتستورد البضائع من بغداد والموصل بانتظام اكثر من مئة عام قبل احتلال الانكليز للعراق وانقضاء الحكم العثماني وقيام دولة تركيا المستقلة لم يلغ التجارة بين انقرة وبغداد إلى يومنا هذا.
ان انطباع ويلسن عن توقعات شريف باشا ممثل الكرد في مؤتمر الصلح كانت توقعات بارعة كما يصفها. إذ يذكر ان شريف باشا كان قد عرض خدماته على الانكليز وقد حثهم على اتخاذ الخطوات المطلوبة لجمع الاكراد كلهم، واعلان سياسة بناءة للملأ باسرع ما يمكن وكان اقتراحه ينص على وجوب ضمان الحكم الذاتي لسكان كردستان الجنوبية تحت اشراف الانكليز بينما يتحتم على الموظفين البريطانيين الذين ينتدبون لهذه الغاية ان يقدموا مساعدة ادارية ويمارسوا مقداراً كافياً من السيطرة المالية. وازاء اقتراح شريف باشا هذا يعترف ويلسن انه كان عليهم ان يفعلوا للاكراد مثل ما كانوا ينوون القيام به بالنسبة للعرب. وقد اكد – أي شريف باشا – على الانكليز ضرورة تشكيل ادارة فعالة على الفور من دون انتظار صدور قرار رسمي من مؤتمر الصلح الذي كان عليه ان يجتمع في النهاية. ومن دون القيام بالحاقات اقليمية وانما الاكتفاء بتشكيل دول عدة مستقلة والسيطرة عليها من قبل بريطانيا. ويستطرد ويلسن قائلاً، وكان مشروعه هذا في الحقيقة توقعاً بارعاً لنظام الانتداب الذي صدر بعد مدة من الزمن (181) وهنا يجب ان توضح مسألة مهمة وهي ان شريف باشا لم يكن هدفه النهائي والاخير كردستان بل ان مذكرته التي قرأها في مؤتمر الصلح كانت تشمل عموم كردستان وتثبت الحدود الجغرافية لعموم كردستان مطالباً بحق تقرير مصير الشعب الكردي باسره. ان ويلسن يضع امامنا صورة الدعاية التركية التي كانت تستفز الكرد وتستعديهم على المسيحيين فاحدى النشرات التي يذكرها تقول.. (.. فعن قريب سوف يصم اذانكم قرع الناقوس ولن تسمعوا صوت المؤذن. وسوف يعاملكم الموظفون النصارى كما عاملكم الروس من قبل. ويتحتم عليكم ان تقبلوا اقدام العرب والكلدان (182)) والحقيقة فان هذه الدعاية التي كانت تبثها تركيا لم تحظ بدعاية مضادة من البريطانيين، بل بالعكس، فقد عزز البريطانيون هذه الدعاية ورسخوها في الذهنية الكردية لا سيما القبلية، فويلسن يعترف بنفسه وفي ذات الكتاب إذ يقول: ولا شك انه لم يكن من الممكن ابتداع وسيلة افضل من هذه لتنمية الكراهية الدينية والعنصرية بين الناس يومذاك، فقد كان بوسع أي مسيحي، يدلي بمعلومات مقبولة ظاهرياً، ويقسم عليها بين يدي ضابط استخبارات أو ضابط سيطرة ان يضمن توقيف أي مسلم يكون له ثار أو ظلامة عنده (183). وليس لنا ان نقول كان الله في عون الكرد بين شدقي طاحونة الدعايات واشكال التعامل والحرب النفسية ضدهم التركية والبريطانية.
ان ويلسن يعترف بوجود بعض اشكال العطف الانكليزي والمحاباة (لابناء ديننا) كما يذكر، وان هذا العطف وهذه المحاباة كان الاكراد ينتظرون ظهورها (184) وهنا لابد من ان نسأل، إذا كانت بريطانيا العظمى انذاك تتأثر بالنزعة الدينية وتسمي المسيحيين في كردستان (ابناء ديننا) فكيف تكون النزعة (وهي عواطف وانفعالات) بالنسبة للمجتمع الكردي القبلي؟ البريطاني المثقف والمتحضر جداً لا مانع من ان يحابي ويتعاطف مع (ابن دينه) ولكن الكردي المتخلف حضارياً والقبلي عليه ان يكون مدنياً علمانياً! اليس هذا اجحافاً بالمنطق؟! وفوق ذلك فان البريطاني محمل بقوى عسكرية ومنتصر حربياً واحد اهم صناع الواقع السياسي الجديد في المنطقة، جاء ليحمي حقوق (الغلابة).
اننا على ثقة لو ترك الكرد والارمن والكرد المسيحيون دون تدخل روسيا وتركيا وبريطانيا لعرفوا التعايش دون ماس وويلات. ولكن التدخلات الخارجية واثارة النزعات والنعرات من الخارج ستبقى هي المسؤولة دوماً عما حدث عبر التاريخ. الفاتحون الغاصبون باختلاف جنسياتهم واعرافهم عبر التاريخ كانوا البلاء الذي حل بكردستان ولم يزل.
التآخي