اعتدنا ومنذ أمد بعيد على ما يرتسم على الصفحات الإعلامية من حديث عن أزمة للمسرح تعددت في معاينة أسبابها واستنباط نتائجها واقتراح الحلول لها الآراء حتى اعتقدنا بأن المسرح بات في طور الاحتضار وأن ما تبقى من الفنون قد أطلقت العنان لنفسها لتقرع أجراس خواتيم الطقس المسرحي وأعلنت بدء بدء الحداد عليه وعلى أعماله ورواده المتهادين وهنا على خطى أرقام تقويم الحاضر واسهاما في عملية إبطاء ريشة رسم القافية لسيدة الفنون سأخط عبر هذه الكلمات أحكاما وافتراضات للتدقيق فيما قد يسهم في تشخيص هذا الداء وتوصيف لكيفية التشافي منه .
ولبدء الخوض في هذا الموضوع لن أجد أفضل من الحديث عن علاقة المسرح بالإنسان ذلك الكائن الذي استطاع ابتكار هذا الفن كحل لأزمته مع نفسه ومجتمعه وان كان المسرح قد حقق هذا الهدف بشكله المجرد في بداياته فقد بدأ بترميم نفسه لتحقيق متطلبات الحد من الآفات الإنسانية المتجددة مع ظروف الحياة المتمثلة بظلم الإنسان لأخيه وعدم قدرته على تطبيع علاقته بمحيطه وذلك من خلال إبداع مذاهب متجددة قادرة على أن تبرئ الجرح الإنساني وها ستحيلني هذه المقدمة إلى الاستفسار عن أحدث المذاهب المسرحية أو الأدبية بشكل عام في هذه الآونة من تاريخ ” الإنسان ” ؟ وسأجد نفسي أمام فكر عقيم غير قادر على الجدال وعبثا ستكون رغبتنا في الاطلاع على مجرد محاولات قام بها رجال المسرح في سبيل الولوج إلى الزاوية التي يقبع فيها جمهور المسرح غير قادر على الحراك ليتجه إلى المسرح الذي أضحى مجرد خشبة دون روح.
ولذلك سأتناول هذه الأزمة عبر عدة استفسارات أخرى ولتكن: – هل أزمة المسرح هي أزمة مذهب قادر على مواكبة الروح البشرية بكل أزماتها القائمة في زمن الظلم العالمي وفي زمن أللاعتناق الأخلاقي بفكرة الواجب ؟- وهل أن أزمة المذهب الأدبي والمسرحي بالمحصلة هي أزمة إنسان تخلت عنه السلفية الشعورية لمبتكري المذاهب وألئك الذين كانوا يشكلون سبب المخاض المذهبي للفئات البشرية والجماهير التي كانت تشعر بالأزمة فتدفع بممثل لها أكثر إدراكا للعمق المأساوي للحظة التاريخية والاجتماعية وأكثر قدرة على الوصول إلى جذور قادرة على بث الحل من خلال مذهب جديد تلتئم به الجراح أو يكون النافذة التي تحلق من خلالها النفوس الكئيبة إلى عوالم جديدة أكثر أمنا وأكثر شاعرية وضبابية ؟
ولنلملم هاهنا وجهد المستطاع حفنة من الأسئلة الأكثر دقة ومادية والتي قد تفيد في استنباط كنه العقدة وحلها وكما تراها فئات مختلفة من حيث زاوية ونمط الرؤية,ترى هل نحن بحاجة لتطبيق متجدد لفكرة القائد أو ما يسمى بالرائد القادر على السير بالموكب المسرحي لإنقاذه من هذا الضمور , ذلك الرائد المبدع لمذهب حديث ؟
أم أننا بحاجة لثورة على الخشبة الجامدة ؟ أم لانقلاب على الأدوات المسرحية انقلابا جذريا يجددها ويبتكر أدوات إضافية تغير من تعريف المسرح في بعض جوانبه ؟
أم إلى تحويل المسرح إلى مؤسسة تملك من الأدوات ما للمؤسسات السياسية والحزبية كالكوادر التي تشرع بتوعية الجمهور وتعرفه بأهمية هذا الفن الإنساني المطهر للنفس البشرية والعلاوات المادية المنتظمة من وللكادر المسرحي ؟ ولصيغة لغوية تشكل هدف كل مسرح ليصبح رديف السياسة والاجتماع وبذلك يصبح لكل مؤسسة حكومية مسرحها ليشكل أداة إعلامية تهدف إلى تنقية تلك المؤسسات لتصبح هذه المسارح عبارة عن زوايا وتكايا تهدف لإعادة الإنسان لطبيعته الإنسانية الحقة ومن بعدها تنفصل عن تلك المؤسسات , أي هل أننا بحاجة اليوم لمسرح انتهازي يحافظ على نفسه من الزوال كما كان في بعض بداياته فتاة قوانين وقيم النبلاء ؟
وإذا كان الدواء متمثلا في الإجابة مفصلا عم يماثل هذه الأسئلة فمن الواجب العمل بدأب على هدي الهدف الأسمى وبطاقات كل من يكن الحب لهذا الفن علما بأن مسألة التنظير تبقى هي الرافد الوحيد الذي تجتمع من حوله الأقلام المسرحية الناقدة ومسألة ضعف الإمكانات لسان حال الكادر العامل وبذلك يكون الاستعلام لما هو قائم وواقع الحل الأكثر يسرا وبساطة وتستمر عروض ما قبل عقود في ارتياد الفراغ الذي تزاح عنه الستارة دون أن يكون هنالك أي فضول جماهيري لما تكمن خلفها من تجربة طالما أنها محاورة ( جديدة ) لعرض ( قديم ) .
إن الطاقة التي تستلزمها عجلة المسرح في عصرنا كامنة في مذهب جديد يلاءم متطلبات عصر الآلة وأحدث أنواع التكنولوجيا وهذا ما سيلخص الرد على ما سبق , فقد انتهت مدة صلاحية العمل بمذاهب العبث وما اندرج تحتها من مذاهب توحي بالفرار ومدة صلاحية المذاهب الواقعية وما توحي إليه من فكرة التشبث بالواقع كما هو .
ولم تعد الأدوات المسرحية هي الحل لمثل هذه الأزمة فما أضعف تلك الأدوات التي استخدمتها مسارح كانت هي الأقرب للجماهير .
إن مصدر هذه المذاهب هو الإنسان دائما وأبدا ولكن هل ” إنساننا ” المعاصر مهيأ لابتكار مثل هذا المهب الشافي وهو الكائن الأكثر ضياعا في غمرة اللامذهب السياسي واللامذهب الاجتماعي والإنساني وفي زمن قد يكون فترة فترة انتقال ما بين الإنسان ككائن اجتماعي إلى الإنسان ككائن فرداني غير قادر على التعامل سوى مع الآلة الأكثر رحمة من القلب النابض بحب الإنسان ؟
فما هي مهمات هذا المذهب المأمول والذي نرغب في الاعتماد عليه كأداة مشاركة مع غيرها لحل هذه الأزمة ؟ لربما كان عليه عناء البحث عن الشخصية الخفية القابعة أمام ممثل المونودراما تلك الشخصية غير المرئية والتي ستكون الصديق الوحيد والأوفى القادر على احتواء الهم المنطوق من قبل الممثل الوحيد وبذلك سيكتسب هذا المذهب ( متقمصا ) دور المشخص للحالة الفردانية التي يعيشها الممثل معبرا عن أزمة الفرد الإنسان وعليه حينها اكتشاف كنه الأزمة والتصريح بها بحيادية دون أن يتحول لمذهب جنائزي لفئة من الناس والمبشر بالنبالة لفئة أخرى على غرار ( السريالية (الدينية ) ) و ( العبث البرجوازي ) و ( الواقعية الاشتراكية ) وغيرها .
وحينها يجب عليه أيضا أن يقدم مسرحا يستقطب لا أن يستقطب هو الإنسان فيصبح بذلك الزائر للمتفرج لا المضياف الذي لا يكلف نفسه عناء البحث عن هذا الكائن المحاصر بين قضبان آلاف السلطات اللانسانية.
ولكن لنتدارك الجانب الآخر من معادلة الأزمة والذي لا يجوز تبرئته من التهمة التي يجب أن توجه إليه كذلك ألا وهو الجمهور وهو الناطق باسم الواقع الحي ذلك المتفرج الذي أصبح يشجع جماعة ضد أخرى في الصراع الإنساني وأصبح جزءا من المعادلة ليمارس بنفسه فعل الجريمة ويسفك بيديه داء النبض الأخلاقي فلم يعد البطل المسرحي يشفي غليله بفعله الخير وصراعه الطاهر مع قوى الشر ولم تعد جرعات المسرح العلاجية تطفئ ظمأ المتفرج فلم يعد يرغب إلا أن يلوث يديه غير معتمد على الصراع السلمي لشخصيات بات قادرا على التنبؤ بما ستقوم به فلم يعد قادرا على ممارسة فعل التطهير المنوط به منذ ولادته , فهل نستطيع أن نطلق على المتفرج صفة المتآمر على المسرح بعد أن فقد الأمل بالشفاء على يديه ودون أن يحاول المقاومة خدمة لهذا الفن ؟
وبما أننا أطلقنا صفة المعادلة على سببي هذه الأزمة فسيقع العبء بذلك على عاتق المسرح برواده وكل من يمثل على الخشبة من جهة وعلى عاتق المتفرج من جهة أخرى وبالتساوي .
وإذا كانت أزمة المسرح هي بالأساس أزمة مذهب وبالتالي أزمة ” إنسان ” فانه لن يكون بمقدوره أن يستضيف على مدرجاته سوى ذلك الكائن الذي يجب عليه أن يعود الأدراج إلى نقاءه الحسي والى تلك العبرات التي كانت خير وسيلة ودليل على صفاء سريرته والطامح إلى الخير المطلق عبر بوابة سيدة الفنون .