هذا السؤال مطروح اليوم بقوة في الأوساط السياسية والثقافية العراقية، وخاصة العربية منها، بعد تحفظ القيادة الكوردستانية على صفقة الأسلحة التي تنوي الحكومة شرائها، فهناك من يتسائل بخبث مشككاً بالكورد كشركاء حقيقيين للوطن، أما البعض الآخر يتسائل بطيبة وبراءة مستغرباً من مخاوف الكورد من المستقبل، ومن تسليح الجيس العراقي وغيرها من الأمور، لا سيما بأن رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء، ووزراء آخرين من الكورد في الحكومة العراقية .
لربما سنحصل على جواب هذا السؤال من خلال مراجعة سريعة للمحطات البارزة للعلاقة بين الكورد كشعب وقيادتها السياسية، والحكومات العراقية المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 23 | آب | 1921 لليوم . أرى من المفيد في مستهل عرضنا هذا الإشارة إلى أن التسمية الرسمية في المراسلات والوثائق الحكومية البريطانية والعراقية في بداية القرن الماضي كانت تطلق على ” شمال العراق ” أو أقليم كوردستان كما يقال اليوم أسم ” كوردستان الجنوبية ” وبقيت هذه المنطقة أكثر من خمس سنين خارج العراق العربي المشكل من ولايتي بغداد والبصرة، أي منذ عام 1921 إلى بدايات عام 1926، وذلك للإنتهاء من المفاوضات من ما يسمى في التاريخ العراقي والأقليمي “بمشكلة ولاية الموصل ” المتنازع عليها بين تركيا والكورد والعراق وبريطانيا، وأخيراً وبأنتهاء هذه المشكلة لصالح العراق وبريطانيا بناء على مقررات عصبة الأمم المتحدة آنذاك، والتي أشترطت على العراق وبريطانيا لإلحاق هذه المنطقة بالعراق بأن يتمتع الكورد بكامل حقوقهم الإدارية والسياسية والثقافية، ووافقت كلتا الحكومتين آنذاك على تلك الشروط، وأعطت الوعود والمواثيق بذلك .. لكن ما الذي حصل لاحقاً ؟ وهل أستجابت الحكومة العراقية لمطاليب الكورد ؟ رأت الحكومة الملكية العراقية ومن ورائها بريطانيا من أعطاء الكورد بعض الحقوق الإدارية والثقافية في بداية الأمر، لكن وبمرور الزمن كانت تلك الحقوق تتقلص وتُسحب تدريجياً تحت شعار صلاحيات الحكومة المركزية وغيرها من التسميات التي بتنا نسمعها اليوم في وسائل الإعلام العراقية والعربية مجدداً، ما دفع بالكورد بأن يقدموا مذكرة لعصبة الأمم سنة 1932 أي قبيل قبول العراق كدولة عضو ذات سيادة في عصبة الأمم المتحدة، مما جعل الحكومة البريطانية والحكومة الملكية العراقية التأكيد على أعطاء الكورد حقوقهم حتى بعد قبول العراق في تلك الهيئة الدولية، وللأسف لم تتلزم الحكومة العراقية بوعودها ولا حتى بأبسط المواثيق الدولية بإحترام حقوق الإنسان، ما دفع الكورد مرة أخرى للأحتجاج ومنها أندلاع ثورتي بارزان في عامي 1939 و 1943 …. على كل حال قُمعت تلك الثورات بوحشية بمساعدة الطيران الحربي البريطاني، التي هي نفسها ساهت بإخماد ثورة الشيخ محمود الحفيد قبل هذ التاريخ بعدة عقود.
وعلى أثر ذلك طويت صفحة أخرى من تاريخ نضال الشعب الكوردي، ولو إلى حين، وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، تنفس الشعب الكوردي الصعداء لا سيما نداء زعيم الثورة الشهيد عبدالكريم قاسم بعودة الزعيم الكوردي الراحل الملا مصطفى البازاني وجماعته من المنفى في الإتحاد السوفيتي ” طبعاً كان ذلك بتأثير من الحزب الشيوعي العراقي ” لكن سرعان ما أفسد العسكريون والجناح القومي العروبي في العراق العلاقة بين الكورد وزعيم الثورة، وبدأت بوادر ذلك بتسليح الحكومة العراقية لبعض العشائر الكوردية المناوئة لقائد الثورة البرزاني الكبير، لتندلع الثورة الكوردية من جديد ” ثورة أيلول ” عام 1961 وأستمرت ما يقارب ثلاثة عشرة عاماً . أتصلت مجموعات عسكرية وقومية عربية عراقية بالثورة الكوردية بغية التعاون للإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم واعدين الكورد بالحصول على حقوقهم المتمثل بالحكم الذاتي.
وفي عام 1963 حصل الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الجمهوري الأول، وبعد تثبيت الإنقلابيين أركان حكمهم تنصلوا من الوعود التي قطعوها للكورد، لا بل وأمام الإصرارالكوردي على نيل حقوقه شنوا حرباً عشواء ضده شاركت فيه قطعات من الجيش السوري أيضاً.
مات عبدالسلام عارف رئيس الجمهورية أو ُقتل في حادث طائرة غامض، وُنصب أخوه عبد الرحمن عارف رئيساً للجمورية، كما نُصب أيضاً الشخصية المدنية الأكاديمية عبد الرحمن البزاز رئيساً للوزراء وهو من القوميين العرب، وقد لعب الأخير دوراً ايجابياً في تقارب وجهات النظر بين قيادة الثورة والحكومة ” هنا يجب الإشارة للفرق بين القومي والقوموي، والعربي والعروبي، ولأن هذه الشخصية المثقفة ” البزاز” من القوميين العرب الأصلاء ” وأنطلاقاً من تلك الروح تقدم بمشروع الحكم الذاتي ” اللامركزي ” وكادت أن ترى النور لو لا تدخل القوى العسكرية والقوموية العروبية وتجهضه في مهده، وتستمر الثورة لحين وصول البعث للسلطة في 17 | تموز | 1968 ، وبعد سنتين من الحكم تقدم الأنقلابيين الجدد بمشروع الحكم الذاتي لكوردستان، وبعد مفاوضات عسيرة وافقت قيادة الثورة على المشروع وتم توقيع أتفاقية 11 | آذار 1970 في بغداد، وبقيت مسألة كركوك غير محسومة، طالبت الحكومة بمدة زمنية، وهي أربع سنوات لتطبيع الأوضاع وأجراء أحصاء سكاني وعلى ضوءها يتم تقرير مصير كركوك، ولم تمض ألا عدة شهور على توقيع الأتفاقية حيث بادرت الحكومة ورأسها المدبر صدام بحياكة مؤامرة دنيئة، وذلك بأرسال وفد من رجال الدين للقاء الملا مصطفى البرزاني، ودون علم أعضاء الوفد المُرسل كانت سياراتهم وحتى كتاب الله الذي بين أيديهم ملغوماً بالمتفجرات، لإغتيال قائد الثورة، لكن شاءت الأقدار أن تنفجر تلك العبوات الناسفة في غير وقتها المحدد، راح ضحيتها بعض الحراس، وينجو الملا مصطفى من موت محقق، لم تحاول قيادة الثورة من هذه المؤامرة حجة لنسف الأتفاقية، بل مضت قدماً بالتعاون والمشاورة لتحقيق الاتفاقية، بينما كان الجانب الحكومي يسلح الجيش وبناء علاقات دولية جديدة، ويمارس سياسة التعريب على قدم وساق في كركوك وبعض المناطق الكوردستانية الأخرى، وبعد أنتهاء المدة المقررة الأربع سنوات تقدمت الحكومة بمشورع جديد للحكم الذاتي مفرغة أتفاقية 11 | آذار| 1970 من محتواها كاملة، طبعاً لم يوافق الجانب الكوردي على ذلك، وتندلع الثورة الكوردية من جديد، ويلدغ الكورد من ذات الجحر مرة أخرى، جحر المفاوضات والوعود وقطع المواثيق.
لم تستطع الحكومة العراقية حسم المعركة لصالحها كما صُورت لها من قبل العسكريين والعروبيين خلال سنة على أكثر تقدير رغم استعمال كافة الأسلحة المحرمة دولياً لا سيما قنابل النابالم التي حصلت عليها من الهند وتحديداً في فترة رئاسة أنديرا غاندي للحكومة الهندية ( قُتلت لاحقاً على يد أحد أفراد حمايتها ) لذلك لجأت السلطة إلى الأتفاق مع شاه إيران ( مات لاحقاً منفياً شريداً لم تؤيه أية دولة غير مصر العروبة ) لعدم دعم الكورد وخنق الثورة، فجاءت مؤامرة الجزائر عام 1975 برعاية أمريكية كيسنجرية، مصرية وسعودية وفي أحضان هواري بومدين الرئيس الجزائري آنذاك ( مات لاحقاً بمرض السرطان) ، ورغم تلك المؤامرة الدنيئة والتي قدم فيها الجانب العراقي لإيران نصف شط العرب وأراضي عراقية أخرى، ولم تمضِ فترة أقل من سنة ألا وأعاد الكورد تنظيماتهم المسلحة ليعلنوا الثورة من جديد، وتستمر الثورة والنظام العراقي يمارس سياسة الأرض المحروقة بحذافيرها في كوردستان من جرائم ومسالخ الأنفال مروراً بسياسة التطهير العرقي، التعريب، والقصف بالسلاح الكيمياوي والغازات السامة، وإلى جعل كوردستان منطقة محرمة ليس للبشر وحسب، بل حتى الحيوانات كانت تقصف، وتدمر القرى عن بكرة أبيها، وردم عيون الينابيع وحرق الغابات والبساتين ( طبعاً كل هذا موثق ضمن وثائق النظام البائد ) والحقيقة أن جرائم البعث والجناح العروبي في العراق يحتاج لعشرات الكتب والدراسات لتغطية ما قاموا به من مذابح على أرض كوردستان ( شمال العراق الحبيب، وأخواننا الأكراد !!! ) .
وبدون الدخول في التفاصيل، لنراجع أيضاً سياسات حكوماتنا الرشيدة جداً بعد السقوط، من الحكومة المؤقتة إلى الإنتقالية وأخيراً الحكومة المنتخبة، وبدء ٍ بالسيد الدكتور أياد علاوي، الذي أخذ يماطل بتنفيذ المادة 58 من قانون أدارة الدولة والخاصة بتطبيع الاوضاع في كركوك وباقي المناطق الكوردستانية المعربة، وأنتهت فترة حكمه ولم يقم بأي شئ يذكر في هذا الجانب سوى بعض الوعود المعسولة، ليأتي بعده الدكتور إبراهيم الجعفري… وفي مؤامرة مفضوحة ودون علم شركاءه في الوطن ذهب على رأس وفد رفيع إلى تركيا بحجة عقد أتفاقيات إقتصادية وسياسية والتباحث حول تقاسم المياه وغيرها، دون أن يصطحب معه لا وزير الخارجية الكوردي ولا وزير الموارد المائية الكوردي أيضاً، ولا حتى بعلم رئيس الجمهورية الكوردي …. هنا يأتي الجواب على نصف التساؤل المطروح في بداية المقال، الذي يقول . ماذا يريد الكورد بعد أن أحتلو رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية ووووألخ . والجواب هو ما فائدة هؤلاء الكورد في بغداد والحكومة تمارس سلطاتها بتهميشهم، وعلى ما اذكر ، أنتقد الرئيس مام جلال في حينه الدكتور الجعفري على فعلته تلك، وحين وجه سؤال للجعفري حول رده على أنتقاد رئيس الجمهورية، رد الجعفري وبغرور واضح ” ليس لديّ الوقت الكافي للرد عليه ” وفي ما يتعلق بالتهميش حصل الشئ نفسه في أزمة خانقين المفتعلة، فرئيس أركان الجيش شخصية كوردية وبدون علمه بعث السيد رئيس وزراء الحكومة بجيشه لخانقين، وبتعليمات محددة لطرد القوى الأمنية الكوردية التي حافظت على أمن المواطنين طيلة السنوات الخمس المنصرمة، دون حتى إبلاغ رئيس أركان جيشه ولو من باب العتب ورد اللوم. فبماذا ينفعنا مستقبلاً هذا المنصب أو ذاك في الحكومة طالما بقيت فكرة المؤامرة والتهميش وكسب الوقت هي المسيطرة على عقول التيارات السياسية العراقية، والمؤامرة التي حُيكت في بيت أحدهم والتصويت غير القانوني والدستوري في 22 | تموز من العام الجاري للإلتفاف على الاستحقاق الدستوري للمادة 140 ، دليل أضافي آخر على العقلية التآمرية التي تتحلى بها غالبية النخب السياسية العراقية العربية ضد الحقوق الكوردية، يعني حتى التحالفات السياسية لا تنفع مع تلك العقليات، أوليس قسم من المصوتين في ذلك اليوم هم أعضاء في أحزاب وكتل سياسية متحالفة مع قائمة التحالف الكوردستاني. الحقيقة هي أن تجاربنا مع جميع الحكومات التي مرت بدست حكم العراق لم توفر فرصة إلا وتآمرت فيها على الكورد مستغلة الاجواء الاقليمية المشجعة لخنق التطلعات الكوردية.
نعم الكورد يخشون المستقبل، ويخشونه كثيراً ومن حقهم ذلك فـ 38% من مساحة الأقليم لا تزال معلقة وتستعمل كورقة أبتزاز لتنازلات سياسية، ويطلق عليها أجحافاً ” المناطق المتنازع عليها ” ، ولا تزال الحكومة تتخذ من العقود النفطية الكوردستانية كورقة ضغظ رغم أن الكثير من الخبراء ورجال القانون أفتوا بشرعية وقانونية تلك العقود.
لا أعلم حقاً أن كان ينطبق علينا المثل الشائع ” كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك ” لا سيما هناك حملة إعلامية شرسة تشن ضد الشعب الكوردي بطريقة ممنهجة ومبرمجة تمهد لمذابح وجرائم قادمة.
للأسف أن تجربة الكورد مع الحكومات العراقية لا تعطي الفرصة الكافية لبدء صفحة جديدة، وخاصة بعد التجارب المؤلمة في التنصل من الوعود والأتفاقيات خلال السنوات الخمس الماضية، ولا يغرنكم الوجود الكوردي في بغداد، ولطالما هُمشوا …. ومُررت أجندات بالأعتماد على الكثرة العددية ودعم الدول المجاورة .

