أرهف السمع إلى صوت زعيق ديك الحجل في صباح يوم جديد،وأنا ارقد على((الدجة))”1″ وهي عبارة عن سرير معمول من الطين،تعلو الفراش ((كله))”2″ ناموسية تقي النائم من لسعات البعوض كثيف الحضور في قرية((العزاميه)) المطلة على هور ((النبي احمد)) صاحب القبة الخضراء التي تطاول ذؤابات القصب والبردي داخل الهور، الزوار عن طريق الزوارق من القرى ألمجاوره فهو ملاذ المرضى وانين النساء المضطهدات ومحط أحلام العشاق والعاشقات وحسراتهم ينذرون له النذور ويحضرون الحناء والبخور كل حسب قدرته فليرد لقيمين عليه((الكَوام))”3″ شيئا ،بيضة،دجاجه،سمكه،كيس تمن،خروف…الخ.
استيقظت مستنشقا هواء الصباح الندي قاصدا شرفة النهر لأغسل وجهي نافضا علامات النعاس والكسل مستمتعا بزرافات ((أبو زريده))”4″ وهي تشق طريقها عكس مجرى النهر،وقد اخلع (دشداشتي) لأسبح في النهر ملتهما عدد من ((أبو الدبيس)”5″ ،لأني وأبناء قريتي نظن إن من يبتلعها سوف يكون مثلها ماهرا خفيفا في السباحة مهما كان الموج عاتيا
ثم أخرج من النهر لأنضم إلى والدتي ووالدي وأشقائي وشقيقاتي وأبناء أشقائي الصغار وهم متحلقين حول قوري الشاي وقوري الحليب المدسوسين في الجمر المتبقي من جانون خبز الطابق (المحرش)”6″ اللذيذ ونحن نتناوله مع أقداح الشاي والحليب.
– يمه سعيّد بوزك ملغم طين،كوم غسل وتعال أتريك.
هذا ما أمرتني به والدتي لان طين الشط((الدهله الحميّره))”7″ يترسب حول شفاهنا وعيوننا لتصطبغ باللون البني الكالح بعد أن يجف.
بين حين وأخر نسمع صوت أطلاقات كسرية إستاد شمخي المعلم الوحيد من أهل االقريه وهو يصطاد طيور الحجل الكثيرة في الأرض البور المجاورة لأرضنا.
بعد إن التهمت خبز الطابق ((المحرش)) والشاي حليب اللذيذ خرجت كعادتي لأطارد أفراخ العصافير والفخاتي وانصب المصائد للبلابل في بساتين النخيل الممتد خلف دارنا، لفت نظري((بلبل)) وهو يحوم حول عذق ((ألخضراوي))”8″ وهو يغرد جذلا فرحا وهي إشارة إلى بداية نضوج الرطب(نكَد”9″ الرطب)) فالبلبل أو من يذوق الرطب كما يقول المثل الشعبي(( مثل العصفور يضوك الرطب كَبل أهله))”10″.
فقررت إن اعتلي الخضراويه التي تظلل طريق ضيق يمتد على كتف نهير صغير تمتد على جانبيه شجيرات من الرمان والصفصاف وأمهات النخيل المتنوعة وهي تباهي الشمس بأقراطها الذهبية المتهدلة على رقابها الفارعة الطول.
وما إن استقر جسدي على الجريد ليحملني تحت (العثك))”11″ فصدق حدسي حيث عثرت على عدة حبات من الرطب((المنكَد)) الحلو المذاق.،وأنا امضغ حبة ألخضراوي سرح نظري ممتدا على طول النهير اليابس متتبعا طيران بلبل جميل فر من على شجرة التين المجاورة،كدت اسقط من على النخلة لهول مارأيت!!!!
-مالح ابن ذاك الصوب يمسك بين يديه رأس(سكنه) مفرعه وهم يذوبان في قبلة لم اشهد مثلها من قبل فيبدوان كجسد واحد لولا إن بياض رقبة ((سكنه) كأنها حليب طازج وجديلتها الطويلة السوداء التي تشاكس مرتفعات قباب وركيها البارزين مقابل مالح الذي بلون الطين.سكنه..التي تقول عنها والدتي بيرغ فرح لطولها الفارع وجمالها الأخاذ الذي سحر كل شباب وشيب القرية وقصة حبها مع ((مالح)) ألمعروفه في قريتنا والقرى المجاورة،والذي إصر شقيقها ((محمد)) عدم تزويجها إل مالح على الرغم من تكرار مشيباته وتوسلاته العديدة فقد كان شرط ((محمد)) لا يزوجها ألا لمن يزوجه شقيقته ((كَصه بكَصه))”12″ لتكون زوجته الثالثة وهذا شرط عجز عن تنفيذه ((مالح)) لأنه الابن الوحيد لعائلته وليس له شقيقات.
رميتهما من على النخلة بعدة حبات من ألخضراوي الأصفر مشاكسا فجفلا مذعورين وانفض اشتباكهما ليتكأ كل منهما على الجهة المقابلة لجهة مشبوكه من النهر بعد إن تفاجأ بمشاهدتي ارقبهما ضاحكا وأنا معلق في قلب النخلة.
لفت سكنه فوطتها حول رأسها ورقبتها بارتباك ظاهر وشدت خصرها بعباءتها وأسرعت الخطى متعثرة وهي تحمل باقة ((الحشيش)) متوارية بين ضفتي ((الطبر))”13″ صوب دار أخيها كعادتها فجر كل يوم لجلب الحشيش إلى الأبقار.
وبعد إن شيعها مالح بنظراته متألما توجه نحوي بعد إن نزلت من النخلة تملقني ضاحكا ومتوددا وهو يحمل ((هندالة))”14″ صيده من السمك قائلا:-
انه كان يخرج ((كَشايه))”15″ من عين (سكنه) المسكينة حيث استعانت به لأنها ماعادت ترى طريقها من شدة الم هذه (الكَشايه) اللعينة التي دخلت عينها وهي تقطف الحشيش ثم مسح على راسي وقبلني ثم أعطاني (سمكه بنيه تلبط من هندالته قائلا إن والدي يحب السمك البني طالبا مني أن لااذكر له ولغيره مشهد إخراجه للقشة من عين سكنه لأنه لايريد أن تعرف الناس بقدرته على إخراج القش وخصوصا من عيون الفتيات فيشغلونه عن عمله لكثرة حدوث مثل هذا الأمر في القرية .
إن سماحته ولطفه وتودده لي سمح لي أن أساله السؤال التالي:-
((مالح)) هل لك أن تعلمني كيف يستطيع أحدنا من إخراج القش من العيون.
-((سعّيد)) وان كنت لم تزل صغيرا ولكني سوف أفشي لك بسرٍ هذه المهنة نظرا لمعزتك عندي،حيث يمكنك أن تتعلم هذا العمل عندما تشرب من ((ماي العروس))”16″ وهذا سر يجب أن لاتعلمه ولا تفشيه لأقرب الناس إليك لأنه سر المهنة يا(سعيّد) ولا يعرفه غير أنا وأنت في القرية ثم قبلني مؤكدا علي وصيته بكتمان السر العظيم!!! حاملا هندالته على ظهره قاصدا داره في الجانب الآخر من النهر. بعد إن حل رباط زورقه من جرف النهر ليسرح مع مجرى النهر مطلقا صوتا شجيا متهدجا كموج النهر يتكسر بعبراته وحنينه منشدا (آنه أرد ألوك لحمد مالوكَن لغيره جفلني برد الصبح وتلجلج الليره)”18″ ملوحا لي بيده السمراء.
وعملا بنصيحة ((مالح)) انصرفت عن شرب الماء كعادة أهلي من الحب بل كنت أقصد ماء بركة كبيرة متصلة بالنهر داخل البستان تظللها شجرة تين كبيره في ظهاري تموز الساخنة لأغوص في عمق البركة تحت ظلال شجرة التين حتى ابلغ القاع لأرتوي من ((ماي العروس)) البارد المنعش كماء شلال بيخال في برودته ولذلك سمي بماء العروس، وعندها أخذت أشعر كأني اكبر من عمري عشرات السنين واني أتحفظ على كنز ثمين لايستطيع أن يراه غيري على الرغم من انه أمام عينيه،وقد أخذت أعيد الغوص والشراب عدة مرات في اليوم بحيث زهدت الأكل وانتفخ بطني ظنا مني، إني كلما شربت من ماء العروس أكثر كلما برعت في إخراج القشة أكثر كما فعلت في ابتلاع أعداد كبيرة من ((أبو الدبيس)) لأكون ماهرا في السباحة.
أخذت أفتش وأترصد أخبار سكان القرية باحثا عمن أصابت عينه (كَشايه)) وخصوصا من الفتيات لاستخرجها بقوة ماامتلكت من سر لايعرفه غيري ولكثرة ماشربت من ماي العروس.
-عمه سكينه ..إلا صارت بعينج كَشايه مره ثانيه آني أطلعه ألج ، لأني اشرب كل يوم من ماي العروس كان هذا عندما استقبلتها أمام باب دارنا لأهش عنها كلابنا خشية إن تعضها.
مسكتني وقبلتني ضاحكة وهي تقول:-
– أي يبعد عيون عمتك عفي ابن خوي،بس يعمه لاتسولف لحد غيري لاتحسدك النسوان يبعد روحي…وتمتمت _عفي امويلح هاي شلون دبرته-
– -ها عمه اشو تسولفين ويه روحج.
– لا(يسعيّد) أغرالك يعمه صورة ياسين تحفظك من العين، دتعال يعمه عّدني”18″من جلابكم آني جايه أشوف أمك كَالولي ماله خلك.
– معاني المصطلحات والاسماء الواردة في القصة المكتوبة باللهجة العامية ألعراقيه في وسط وجنوب العراق.
1–دكة تعمل من الطين على شكل سرير تقي النائم من الزواحف الضارة.
2- ناموسية تقي النائم من البعوض والحشرات الطائرة.
3-القائمين على أمر الضريح وتلقي النذور وغالبا مايكونون من سلالة الإمام علي (ع) من السادة.
4- احد أنواع الأسماك في العراق،يتميز بصغر حجمه الذي لايزيد أكبره على الكف ويذكر الفلاحون إن هناك زرده في رقبته تخنقه فيموت إذا أراد تجاوز حجمه المحدد.
5- حشره صغيرة سوداء اللون ولها لوامس تطفو على الماء وتسبح بخفة ومهارة وبراعة الحركة.
6-نوع من الخبز السياح ألتمن بأنواعه(العنبر،ألنعيمه الحويزاوي) المطعم بصغار السمك المقطع والمخلوط مع البصل والبهارات) والذي يجري شواءه على قرص من الطين بواسطة إشعال أقراص صغيره (مطال)معمولة من براز الأبقار والجاموس والمواشي وهو مصدر هام من مصادر الطاقة والوقود في الريف العراقي يعمل ويخزن بشكل قباب صغيرة بجوار الدار.بعد إن يكون الطابق محمولا على ثلاثة أثافي طينية صغيره تدعى(منصبه)
7- الماء الجاري المشبع بالغرين وخصوصا أيام الفيضان في الربيع وهو مفضلا ومطلوبا خصوصا لدى زراع الشلب لأنه يزيد الأرض خصوبة.
8- نوع من أنواع التمور العراقيه الذي يتميز بالنضوج المبكر قياسا بباقي الأنواع الأخرى.
9-بمعنى حبة التمربمن يتصرفي بداية نضوجه ليتحول إلى رطب حيث تبدو مؤخرة الحبة رخوة وبلون رمادي في أواسط حزيران وبداية تموز وحسب المنطقة الو سط أو الجنوب حيث لايثمر النخيل في المنطقة الشمالية الباردة.
10- وهو مثل يضرب بمن يتصرف أو يأكل أو يستعمل الشيء قبل مالكيه الحقيقيين.
11-عنقود أو حامل شرائط حبات التمر.
12-احد طرق الزواج في الريف العراقي حيث يتبادل العريسان أخواتهم أو بناتهم ليتزوج كل منهما بأخت أو بنت الآخر هذه الطريقة التي لم تزل قائمة لحد الآن وان بدت تنحسر وفيها ظلم كبير للمرأة.
13النهير الصغير الذي يوصل الماء للأرض ن النهر الرئيسي ويتحكم في جريانه من عدمه صاحب الأرض وحسب الحاجه.
14- حاويه مصنوعة من سعف النخيل وتكون لها سفيفه تعلق برأس الصياد لحمل صيده من الأسماك.
15- القشة.
16-ماء بارد يلامس قعر البركة أو النهر والمظلله بالأشجار ، يغطس ابن الريف ليرتوي منها في أيام الصيف اللاهبه ليروي ضماه ويطفأ لهيب حرارته لذلك سمي بماء العروس نظرا لعذوبته وبرودته.
17- من شعر الشاعر العراقي المعروف –مظفر النواب-.
18- ابعد عني الكلاب أو احرسني منها لحين تجاوزها.
– كاتب من العراق