بعد أن تيقنت بان حب المدينة قد تمكن من قلبي وسكن أوردتي كلها صرت إذا خلوت الى نفسي تنفتح أمامي شاشة بحجم المدينة، تنقل لي بالبث المباشر (وبأثر رجعي ) أحداث المدينة وتناقضاتها، وكون الأحداث بالأسود والأبيض لا يؤثر في درجة الوضوح، فأرى رأي العين كركوك الستينات والسبعينات، وقد تعلمت كيف انقل الصورة من منطقة الى أخرى، وها أنا الان اجلس على دكة احد الدكاكين في محلة صاري كهية، واستمع الى أم كلثوم وهي تصدح بأغنية أنت عمري، يأتي الصوت من مقهى عباس بك مشوبا بطقطقات حبات الدومنة و زارات الطاولي وصوت الاستكانات والأطباق وهي تصطك ببعضها، وتعليقات الجالسين، انه الضجيج اللذيذ، حيث نداءات الباعة ووقع أقدام المارة.
وصوت (دللي قادر) يزمجر وهو يترنح بخطى واسعة فيحتل اكبر مساحة من الأرض بعصاه الطويلة ماشيا صوب بيته القريب من القهوة الذي يسكنه مع أخته قدرية تلك المراة العجوز المتكورة على نفسها، يمشي (دللي قادر) بمهابة واللعاب يسيل من فمه ويتكلم بصوت عال أثناء المشي.
وكان قبل أن يطرق الباب على أخته يدخل الى المقهى فيتناول الطاسة من على الخشبة المثبتة على الاناء الفخاري الكبير ( الحب) بكسر الحاء ويكرع طاسة أو طاستين من ذلك الماء، ولم يكن هو ولا نحن نفكر بالوقاية الصحية فكنا نشترك بالمئات في طاسة واحدة مثبتة بواسطة حبل متين أو سلسلة من الحديد، كي لا يعبث بها احد أو يسرقها.
والتفت فجأة نحو ضجيج آخر لأرى الناس قد تجمهروا حول الملا رؤوف البرزنجي شيخ الطريقة ذو الظفائر المدلاة والوجه السمح، وهم يقبلون يده ويتبركون بمروره بالمنطقة قادما من تكيته في العرصة القديمة قرب المقبرة، وما ان يختفي الملا عن الأعين حتى تحدث جلبة أخرى واذا بــ عركة بين الانضباطية وبين احد أشقياء المحلة وقد قيل لي بأنه تعرض لحادث بالماطور (دراجة بخارية) أقعدته الفراش، وكانت عركاته جديرة بالمشاهدة وكنا نروي تفاصيلها بشئ من الإضافات لأصدقائنا، ولم نكن نحتاج للمبالغة فالرجل كان يمتلك قوة خارقة وتحملا استثنائيا للضربات وكان يواجه بشجاعة عددا من الانضباطية الغلاظ الشداد، ونعرف أيضا انه كان يصرع الشقاوات الآخرين، فصار هو شقي المنطقة بلا منازع، وما رايته يوما ينال من ضعيف أو يظلم أحدا، يحب الصغار ويوقر الكبار.
وبعد أن تنتهي المعركة بهرب البطل من أيدي رجال الدولة أو بوضعه داخل السيارة واقتياده الى المركز، نسمع جلبة أخرى، لقد وصلت سيارة الإعاشة لتجلب الصمون الطازج فيجتمع الرجال والنساء والصبيان لشراء الصمون الاسطواني الحار( المسمى صمون الإعاشة ) فتجعل لنا أمهاتنا منه لفة شهية باللبلبي أو البيض أو أي شي آخر فنتناوله ونحن في طريقنا الى المدرسة إذا كان الدوام مسائيا.
ويستمر الضجيج عازفا على أوتار الذكرى، فأرى موكبا من السيارات تتقدمها سيارة تم تزيينها بالأشرطة الملونة والنفاخات والورود وفيها شاب في منتهى الشياكة وأصدقاءه يغنون ويصفقون وهم يزفونه ليلة عرسه، هلهلة ويرن بو ينه، دستة جول ويرن آلنة
التون كامر بغلامش يارن اينجه بيلينه ، هلهلة ويرن بو ينة
ترى لماذا تشدني هذه الصور ؟ ولماذا أراها يوميا تتجسد أمام ناظري كما لو أنها حقيقة، هل هو اليأس المطبق من العودة أم انه التوحد مع الذكرى والحنين الى الماضي بناسه ومبانيه وأحداثه.
أقول نعم إن روحي صارت في هذا العمر لا تطيق برودة المنفى وروتينه القاتل وتشتاق الى الأطفال وهم يلعبون في المحلة والى النساء وهن يتسامرن في الدربونة والى الرجال وهم خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة.
لقد ملت روحي انبهارات الحضارة وأضواء المدن البهيجة وتلح في العودة الى حلقات الذكر ومقاعد الدراسة والى أغاني الختان والأعراس الى أيام لم يكن رجال الأمن والاستخبارات قد افسدوا نكهة الحياة اليومية بعد بمسدساتهم التي تظهر من خلف الملابس بشكل متعمد.
احتاج الى الضجيج الذي حدث فجأة في المحلة بعد إعلان وفاة دللي قادر أو ملا قادر وصوت رجل ينادي: دللي قادر اولدي، قدرية يالغوز قالدي
أي: لقد مات قادر المجنون وبقيت أخته قدرية وحيدة.
وأنى لقدرية أن تظل في هذه الزحمة وحدها فالتحقت به بعد أيام قليلة من وفاته لتسطر صورة جميلة من صور الوفاء في هذه الدنيا الفانية.
وكأني بالضجيج الآن تفتعله الجدران والأبواب والنوافذ والشوارع والمناطق (الماس وعرفة وشاطرلو وبريادي وساحة الطيران وغيرها ) حزنا على سركون بولص الذي قضى في إحدى العواصم الباردة فجدد الحزن على جان دمو وعلى الراحلين الذين غيبتهم المنافي في مقابرها الباردة ممن أحبوا كركوك حد العشق والهيام.
ومضة أخيرة:
مصابيح الليل،
تبكي نورا خافتا،
تربط شوارع كركوك بأحلام النائين،
وخطواتهم التي تمشي الى الوراء،
تملأ كتب التاريخ بقصص التعاسة،
والطغاة لن يبلغوا التخمة أبدا،
مادام هناك طفل واحد يتطلع نحو النمو،
ومادامت الأشجار تنشر أغصانها في الفضاء،
أ عشق هذا الذي يعتريني أم جنون،
أم شئ بينهما عوان،
وايما كان الأمر يا كركوك،
فدتك أعمارنا الملونة
* منطقة شعبية وسط كركوك