يسر صفحة دراسات كوردية ان تقوم بنشر كتاب الدكتور بدرخان السندي
( المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي) وذلك عبر حلقات متسلسلة.
الحلقة السابعة والاربعون
كان الموقف التركي من امارة بابان يثير مقت وكراهية محمود باشا، مثلما كان الموقف الايراني، فكان امير بابان موضوعاً مستمراً للتآمر عليه ولم يدخر كل من الفرس والاتراك جهداً في شق وحدة هذه الامارة وتأليب اهل الباشا عليه، ومن المحاولات التركية التي تعرض لها محمود باشا للقضاء على شوكته محاولات داود باشا والي بغداد التركي التامر عليه مرة من خلال اخيه ومرة من خلال عمه.
لقد كان للباشا اخ، اسمه حسن بك، وكان هذا اخاً مقرباً لمحمود باشا، لكن داود باشا والي بغداد استطاع ان يخترق هذه الاخوة وان يراسل حسن بك سراً ساعياً وراء اغوائه على موالاة اخيه وشق عصا الطاعة عليه وقد نجح داود باشا في ذلك اخر الامر، فهرب حسن بك الى بغداد اذ استقبل فيها استقبالاً فريداً في بابه وبعد مدة وجيزة اسندت اليه باشوية كويسنجق، الا انه اعفيَ من منصبه ذاك بعد بضعة اسابيع اذ وجد باشا بغداد انه من المستحيل عليه ان يتحدى محمود باشا، والايرانيون يشدون من ازره. واخيراً عندما علم داود باشا ان لا خير يرتجى من حسن بك قبل بأول عرض من محمود باشا فقام داود باشا بتسليم حسن بك إلى اخيه المغتاظ عن حق دون الاكتراث بمصير حسن بك (91).
ان مستر ريج يصف حسن بك بالجبان، إذ يذكر، جلست مع الباشا صباح اليوم ساعة، وقد الح للظفر بوعد مني بزيارة السليمانية كل عام، قائلاً انه سيشيد لي داراً مريحة ان فعلت ذلك وكان من المتوقع ان يصل السليمانية بعد غد اخوه الجبان حسن بك ومعه دفتر دار بغداد السابق رستم افندي (87).
ومما تقدم من انطباع، يمكن ان نستنتج ان محمود باشا قد تعلق كثيراً بالمستر ريج وربما عدّه نافذة مستقبلية رحبة للخلاص من المأزق العثماني الايراني الذي كان يعيشه. فضلاً عما يمكن ان نلمسه من تقارب شخصي، فقد كان الامير على ما يبدو بحاجة (نفسية) إلى صديق قوي لا يطمح في منافسته على عرشه في الوقت ذاته هذا من جهة ومن جهة اخرى فاننا يمكن ان نلمس مدى حزن المستر ريج على اعداء الباشا ومنهم حسن بك اخو الباشا. ولكن المستر ريج لا ينسى في الوقت نفسه ان يذكر مسألتين في إعادة حسن بك اولاهما ظاهرة الانكسار التي كانت تبدو على محياه وهو سجين بحراسة مئة شخص كرجي لازموه ليلاً ونهاراً من بغداد إلى السليمانية وثانيتهما ان اهالي السليمانية افصحوا عن بكرة ابيهم عن ازدرائهم لباشا بغداد لتسليمه حسن بك (90)، لان هذا يتقاطع مع الاعراف.
لقد كان مستر ريج مطلعاً تماماً على مجريات الامور والدسائس العثمانية وهو يذكر احد انموذجات تعامل والي بغداد العثماني مع محمود باشا ففي الوقت الذي كان داود باشا يقسم اغلظ الايمان لممثل محمود باشا بان الاخير بمثابة ابنه يوسف وهو يحبه مثلما يحب الوالد ولده كان في الوقت ذاته منهمكاً في مراسلاته السرية مع حسن بك يستهدف بها خيانة محمود باشا الرجل الذي يعده كولده يوسف والقضاء عليه!
يقول ريج عن هذه القصة انها واحدة من عدة قصص يمكن ان ارويها على اشكال القصص المتشابهة والتي تكاد تنطبق على الرؤساء الاتراك جميعاً (91).
لم يكن حسن بك وحده المتآمر على اخيه والنادم من بعد فقد لعب عبد الله باشا عم امير بابان دوره الخياني ايضاً ازاء ابن اخيه ويذكر ريج ذلك ايضاً إذ بالرغم من قسم الولاء الذي كان قد اقسمه عبد الله باشا لابن اخيه بحضور الشيخ خالد رجل السليمانية التقي الكبير انذاك، فقد خان العم ابن اخيه وكان سبب القسم توقع محاولة امير كرمنشاه استمالة اخوي الباشا عثمان وسليمان أو عم الباشا إلى جانبه وتحريضه على الباشا فاقسموا بالسيف والقرآن وبالطلاق بانه إذا تلقى أي منهم كتاباً من تركيا أو ايران فانه يفتحه في دار الشيخ خالد وبحضور من اتفق على ذلك كلهم، وكان عثمان بك اول من اختبر في الامر، إذ تلقى بعد مدة قليلة كتاباً من الشهزادة يدعوه به إلى كرمنشاه ويعده بتقليده منصب باشوية السليمانية وقد ابلغ عثمان بك اخويه بهذا الكتاب من فوره وتسلم عبد الله باشا (العم) كتاباً اخر بالمعنى ذاته ولكنه اخفاه عن الاخرين خلافاً للاتفاق الذي تم بينهم، ولم يعلم محمود باشا بحقيقة هذا الكتاب الا بعد ان أنبأه ساع سريع ارسله باشا بغداد الذي عرف بامر الكتاب بطريقة ما والذي اوصى محمود باشا بالقاء القبض على عمه (103). ومن الطبيعي لم تكن هذه الوشاية العثمانية حباً بشخص محمود باشا الامير الكردي بقدر ما هي نكاية بالايرانيين من جهة وحفاظاً على الانحياز الباباني للاتراك في تلك الحقبة.
ويبدو ان الصدمة كانت قاسية على الباشا ويذكر ريج، ان الامير بالرغم من ذلك رفض اتخاذ أي اجراءات ضد عمه الحانث بالقسم ولكنه قرر ان يرصد حركات عمه عن كثب، وتأكد من بعد وقطع الشك باليقين من ان عمه عبد الله باشا يعد العدة فعلاً للفرار إلى كرمنشاه.
والحقيقة لم تكن هذه الخيانة الاولى التي يقترفها عبد الله باشا ازاء ابن اخيه محمود باشا، فقبل ذلك بعام سلم باشا بغداد عبد الله باشا إلى ابن اخيه محمود باشا أو بالاحرى غدر به غدراً مثلما غدر باخيه حسن بك، إذ ارسله إلى السليمانية لكن محمود باشا (الشخصية العاطفية) لم يقو على الانتقام من عمه الذي كان قد غدر به وتواطأ مع باشا بغداد، بل عامله معاملة حسنة واقطعه ارضاً فسيحة خصبة في كردستان ليستعين بها على العيش واطفاء الديون المستحقة عليه في بغداد، لكن عبد الله للاسف لم يصبر على احسان ابن اخيه فعاد الى التواطؤ ولكن مع الفرس هذه المرة.
يصف ريج مشاعر الباشا ازاء خيانة عمه فقد كان الباشا يزور مستر ريج مساءً، اذ يقول، كان منقبض النفس كثيراً وقد تكلم عن اعمال عمه بتأثر عميق وعن شعوره عند اكتشاف الخيانة وقد دلت المشاعر التي افصح عنها (وكانت لا ريب مشاعر صحيحة) على درجة من الاحساس والاخلاص وحسن السيرة، لا أتذكر انني لمست مثيلها في الشرق مطلقاً، كما انني لم اجدها في البلاد الراقية كثيراً (104).
لقد كان الباشا في الحقيقة يعاني من صراع نفسي داخلي والسبب في هذا ضعفه النفسي ازاء كثير من الامور ومنها العلاقات العاطفية الاسرية لاسيما المواقف الخيانية لعمه والمه الشديد منه كما يمكن ان يستشف من يقرأ تاريخ بابان ان محمود باشا يتعذب نفسياً لانه زج عمه في السجن على الرغم من قناعته انه يستحق ذلك وقد وصل الامر بمحمود باشا ان اخذ يفكر في اطلاق سراح عمه بعد ان لانت نفسه وغاض غضبه بيد انه كان حذراً من باشا بغداد اذ كانت مثل هذه الامور تتطلب موافقة والي بغداد فباشوية السليمانية كانت تتبع ولاية بغداد ادارياً. لقد كان محمود باشا يرغب في اعمار المنطقة ولكن الحالة القلقة التي كان يعيشها بين القوتين الفارسية والتركية اثرت كثيراً وبالشكل السلبي فقد كان الباشا بحاجة الى شيء من الاستقرار. لقد قال احد الاكراد لمستر ريج، انهم لا يستطيعون تشييد البيوت العامرة او ترميمها وهم غير موقنين من بقائهم او من قدرتهم على التنعم في هذا العمران (63). هذه الحالة اللامستقرة كان قد شخصها عثمان بك ايضاً شقيق محمود باشا اذ قال له، ان بلادي في حالة تعسة فاذا خدمت الاتراك حقدوا عليك وخلعوك متى شاءوا واذا خدمت الايرانيين أضجروك بطلب المال على الدوام.
ان امارة بابان كانت بسبب الظروف السياسية القلقة المحيطة بها تعاني من ضعف قدرتها على التفرغ للزراعة تفرغاً كلياً في الوقت الذي كان يمكن للزراعة ان تطور هذه الامارة تطوراً شاملاً وعميقاً ولقد ذكر بعض رجال هذه الامارة ذلك لمستر ريج مثل محمد اغا الذي ابدى رأيه في مساوئ الافتقار الامر الذي ادى الى عدم تكريس انفسهم الى الزراعة (67).
يبدو محمود باشا في منظور مستر ريج شخصية عاطفية ضعيفة وفي الوقت نفسه تماماً تحت تأثير القيم والمبادئ الانسانية التي على ما يبدو عملة يصعب صرفها في سوق السياسة لاسيما عندما تكون الديمقراطية غائبة تماماً.