في بداية شهر مارس المنصرم قام الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد بزيارة وصفت بالتاريخية الى العراق ليكون بذلك اول رئيس دولة مجاورة يزوره. وهاهو رئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردغان قام بزيارة هي الاخرى مهمة وتاريخية بالنسبة للعراقيين وذلك بحسب الاجندة التي ستبحثها الزيارة. كلا الدولتان ايران وتركيا ليستا عربيتان, وكلاهما وريثتا امبراطوريتين تدوالتا احتلال العراق . ايران وريثة الدولة الصفوية, وتركيا وريثة الدولة العثمانية التي احتلت العراق والعالم العربي اكثر من خمسة قرون.
ومعلوم ان العراق مثلَّ ارض النزاع بين الدولتين المتصارعتين على النفوذ . انتهى العهد العثماني وقامت على انقاض الامبراطورية العثمانية دولة تركيا العلمانية, وولى العهد الصفوي ومن بعهده القاجاري لتقوم على انقاضه جمهورية ايران الاسلامية. واما العراق فهو الاخر شهد تغيريا كبيرا بسقوط الدولة البعثية الديكتاتورية على يد امريكا وقيام دولة المحاصصة السياسية.
العراق يوصف بالادبيات العربية بانه البوابة الشرقية للوطن العربي الممتد من الخليج الى المحيط. ويقر العرب شعوبا وحكومات بأهمية هذا البلد بالنسبة اليهم, ولا توجد دولة عربية في المشرق او المغرب الا وللعراق معها صنيع جميل , فضلا عن مشاركته في حروب العرب ضد اسرائيل ودفاعه المستميت عن فلسطين ولا داعي للإطالة في هذا المجال, وبالرغم من كل ذلك فأن التواجد العربي الرسمي وغيره في عراق ما بعد التاسع من نيسان 2003 معدوم.
لاسفارات عربية, ولا استثمارات عربية, ولازيارات للرؤوساء العرب لعاصمة الخلافة الاسلامية بغداد. بالمقابل نجد حضورا (اعجميا) منقطع النظير , فأيران لم تكتف بفتح سفاراتها في بغداد وثلاث قنصليات في شمال العراق وجنوبه فحسب, بل ملأت السوق العراقية بالسلع التجارية حيث وصل حجم التبادل التجاري بين ايران والعراق الى معدلات مرتفعة لم يشهد لها مثيل من قبل, ناهيك عن السياحة الدينية التي جعلت من تقاطرالحجاج الايرانيين في اصعب الاوقات على العتبات المقدسة مشهدا مألوفا للمواطن العراقي.
اما الاتراك فقد سلكوا نفس الدرب الايراني, فبادروا الى فتح سفارتهم والقنصليات, وزادوا من حجم التبادل التجاري مع العراق ليصل الى ثلاث مليارات دولار ويطمحون لجعله خمسة مليارات, واما الشركات التركية فكانت السباقة للأستثمار ولم تتوقف حتى في احلك الظروف الامنية التي عاشها العراق ,ويكفي ان ترى عدد الشاحنات التركية التي تجتاز الحدود العراقية يوميا وهي محملة بالبضائع لتعرف حجم التواجد الاقتصادي والتجاري التركي في العراق.
كل من الايرانيين والاتراك يعي جيدا اهمية الحضور السياسي والاقتصادي في بلد مثل العراق, ورغم اختلاف موقف البلدين من امريكا الا انهما تواجدا في العراق ليقطفا ثمار التغيير الذي صنعته امريكا , وكلتاهما متفقتان على ضرورة التواجد في العراق بغض النظر من الموقف الامريكي. فبالرغم من ان ايران ترى في امريكا عدوة لها,لكن ذلك لم يمنعها من الحضور وبقوة , ورغم رفض تركيا للسياسة الامريكية في العراق الا انها سارعت هي الاخرى للتواجد فيه.
اما العرب الذين ينتمي اليهم أغلب الشعب العراقي عرقيا وتاريخيا والذين يتباكون على عروبة العراق ليل نهار فقد سجلوا وبامتياز فشلهم في العراق لحد هذه اللحظة. فلم تشهد بغداد حضورا عربيا سياسيا أو اقتصاديا. كل اللاعبين الاساسيين الان في العراق هم من العجم , من امريكيين وبريطانيين, ايرانيين واتراك, بالاضافة الى الثانويين من يابانيين وكوريين وهكذا.
لقد حضر العجم وغاب العرب ولا يوجد مبرر لهذا الغياب مطلقا. وقد يقول قائل ان العرب غير راضين عما حصل ويحصل في العراق, وغير قابلين بالاحتلال الامريكي , لهذا امتنعوا عن الحضور…!
فنقول ان تركيا رفضت السماح للقوات الامريكية في استخدام اراضيها للعبور الى العراق عندما بدأت الحرب على خلاف معظم الدول العربية المجاورة للعراق والتي سمحت بعبور القوات الامريكية من اراضيها او قدمت التسهيلات لذلك, , وكذلك لم تكن تركيا قابلة على عملية ازالة نظام صدام ولم تشارك بقوات التحالف التي قادتها امريكا عند شنها الحرب رغم العلاقة القوية التي تربطها بامريكا باعتبار انهما عضوان في حلف (الناتو), ومع ذلك تعاطت تركيا مع الواقع العراقي الجديد بكل براغماتية ودخلت العراق لتؤمن مصالحها في هذا البلد الحيوي.
والشئ ذاته مع ايران التي ترى في التواجد الامريكي في العراق خطرا كبيرا على امنها, ورغم خلافها مع (الشيطان الاكبر) كما يصف الايرانيون امريكا, فقد سارعت للتواجد في العراق للحفاظ على مصالحها وللتعاطى هي الاخرى وبكل واقعية سياسية مع الوضع الجديد في بغداد رغم المضايقات المستمرة التي تتعرض لها من القوات الامريكية بإستمرار والاتهامات المتواصلة لها بالعبث بإستقرار العراق. ولا اعتقد ان العداء العربي لامريكا يفوق عداء الايرانيين لها ومع ذلك جلس الايرانيون والامريكيون على طاولة واحدة في بغداد للتفاوض من اجل رعاية مصالحهما في هذا البلد الحيوي الذي يمتلك اضخم احتياطي نفطي في العالم يؤهله لإنتاج عشرة ملايين برميل يوميا من الان وحتى نهاية هذا القرن .
ان المقاطعة العربية للعراق أمر ليس في صالح العرب لأنهم سيكونون الخاسر الوحيد في هذه المنازلة, ولقد سبق للعرب ان فعلوا الامر ذاته مع مصر بعد توقيعها لأتفاقية السلام مع اسرائيل في عهد السادات, وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها, فماذا كانت النتيجة؟ لم تتأثر مصر بمقاطعة العرب لها, ولم تلغ اتفاقية السلام, واعادت بعض من اراضيها, وأزدادت المساعدات الامريكية والاوربية لها, وبعد هذا وذاك عاد العرب اليها, وانهوا مقاطعتهم لها وهم نادمون.
وخلاصة القول ان الغياب العربي عن بلد عربي مثل العراق ومقاطعته لايمكن تبريره او قبوله. وكعراقيين نريد حضورا عربيا ايجابيا وقويا, وان لايكون هذا الحضور ارضاءاَ لرغبات أو إملاءات امريكية. بل نريده نابعا عن قناعة راسخة بأن العراق جمجمة العرب والتي لاقيمة للجسد من دونها. نريده حضورا يوازي ان لم يكن يضاهي حضور الاخرين. ولقد آن الاوان ليغير العرب من موقفهم تجاه العراق وينهوا مقاطعتهم له ويشاركوا الاخرين الحضور والتواجد البناء, ورغم انه حضور سيكون متأخراَ , لكن وكما تقول الحكمة ان تأتي متأخرا خير من ان لا تأتي أبدا .