يسر صفحة دراسات كوردية ان تقوم بنشر كتاب الدكتور بدرخان السندي
( المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي) وذلك عبر حلقات متسلسلة.
اما ويكرام فقد التقى اثناء مكوثه في كردستان بعدد من رؤساء القبائل وقد اشرنا الى ذلك في الفصل الخاص بالشخصيات الكردية. ويمكن ان نعثر على انطباعات متباينة عند ويكرام عن رؤساء القبائل الكرد، وربما كان اختلاف الشخصيات هو السبب في اختلاف الانطباعات.
ففي الوقت الذي يرى ويكرام من الشيخ عبد السلام البارزاني شخصاً يستحق كل ثناء وتمجيد نجده ينتقد (الاغوات) أي رؤساء العشائر في منطقة بروارى لانهم يخرجون على القانون كما يصفهم؟ وهل كان الشيخ عبد السلام مطيعاً او منفذاً للقانون؟ ونقصد قانون الدولة العثمانية بالطبع، ابداً فقد كان الشيخ عبد السلام بدوره ثائراً على القانون لا بل اعدم شنقاً حتى الموت بالقانون العثماني، فلماذا هذا التباين في المواقف؟ نعتقد ان معياراً آخر كان يؤثر في رسم انطباعات ويكرام ازاء رؤساء العشائر وهو مدى تعاطف رئيس القبيلة المسلم مع المسيحيين في المنطقة فقد كان الشيخ مؤمناً بالمساواة التامة بين الكردي المسلم والمسيحي (131). واعتقد ان ويكرام بصفته مسيحياً ومبشراً محق في تأثره او تحسسه وفقاً للمعيار الذي ذكرناه وعلى الرغم من ان هذا المعيار لا يعد معياراً محايداً او موضوعياً في الاعتبارات السياسية وفي مقاييس الجغرافية البشرية للمنطقة، زد على ذلك ان ويكرام يذكر ان الشيخ كان يسره ان يعتبر الانكليز اصدقاء له (129).
يحدثنا ويكرام عن العلاقة بين رئيس القبيلة متمتعاً بالسلطتين الدينية والدينوية معاً فان هذه الطاعة تغدو طاعة عمياء وقضية لا تناقش ويعطينا ويكرام مثالاً على مقتل تتو اغا، وهو احد الاغوات ممن خرجوا عن طاعة الشيخ عبد السلام فقد ارسل له رسولاً يحذره من الخروج عن طاعته ولكن تتو اغا اجاب الرسول بصلافة واصرار على عدم رغبته في اطاعة الشيخ فما كان من الرسول الا ان اغمد خنجره في قلب الاغا المتمرد وخرج من غرفته والدم يقطر من الخنجر وهو يردد مع نفسه (كلمة الشيخ يجب ان لا تكسر) (135-6).
ان ويكرام يشخص حالة من حالات الزعامة العشائرية في كردستان يسميها (الاغوات الثانويين) ويقصد بهم الاغوات ممن هم دون منزلة رؤساء القبائل الكبار وان التظلم عند الحكومة منهم، في اعتقاد ويكرام مضيعة للوقت لان هؤلاء استطاعوا ان يفهموا اللعبة ويحققوا مصالح متبادلة بينهم وبين ممثلي الحكومة تكون نتائجها حكماً فاسداً سيئاً لا يتصور على حد تعبير ويكرام (283).
قد تكون وجهة نظر ويكرام صائبة ولكن في المنطقة التي جابها، انه يقارن بين الشيخ عبد السلام البارزاني وبعض اغوات منطقة بادينان في منظوره الى مسألة العدالة والتواطؤ مع الحكومة او الولاءات الكاذبة للحصول على مكاسب فهو يتحدث عن رشيد اغا بروارى الذي ابتاع من السلطة حقوق جباية الضرائب من القرى المسيحية سنة بعد سنة، ويذكر ويكرام ان هذا الحق يمارسه عادة الموظفون المحليون (اما انه مخالف لصراحة القانون فهذا لا يهم ابدا). والحديث ما زال لويكرام – ثم يعقب ان رشيد اغا يدفع بوصفه (متعهداً) مبلغاً مقطوعاً للخزينة ويقوم بتحصيل ما يتيسر له من السكان ضمن حدود المنطقة المخصصة له وهو يدفع خمس ليرات عن كل قرية الى الخزينة ولعله – حسب اعتقاد ويكرام – يدفع ايضاً خمس ليرات اخرى (بخشيشاً)، ليضمن عدم قيام منافس له في الميدان ثم ليؤمن اعتصار حوالي مائتي ليرة من كل قرية مسكينة (283-4) هذا ما اراد ان يثبته ويكرام في التمييز بين الرؤساء او الزعماء الكرد الكبار وما دونهم في المنزلة ولكننا لا نتفق تماماً مع ويكرام في هذا، ذلك اننا نجد من كان في منزلة الرؤساء الكبار ممن امتلك السلطة الدينية والدنيوية في السليمانية مثلاً ولكنه اتفق مع متصرف المدينة وكانت مصالحه الشخصية وجمعه المال مركز اهتمامه حتى بات وجوده في المدينة امراً لم يستطع السلطان عبد الحميد الدفاع عنه ازاء التيار الاصلاحي الذي قام في تركيا آنذاك.
ومن هنا نقول انها ليست مسألة زعيم كبير وآخر صغير بقدر ما هي مسألة (اتجاه) وتباين في اتجاهات الرؤساء الكرد نحو الاهداف التي رسموها وارادوا تحقيقها في الحياة.
ان مؤلف هذا الكتاب يؤمن بمعادلة مفادها ان الهدف المالي النفعي والهدف القومي الوطني اتجاهان متقاطعان لا يمكن التوفيق بينهما في الشخصية القيادية الا اذا كان الهدف المالي موظفاً لصالح الهدف القومي (السياسي) لآخر فلس منه. نحن لا نتحدث عن احزاب سياسية مستقرة في بلاد ليبرالية يمكن لرئيس الحزب ان يكون صاحب شركات عملاقة انما نتحدث عن كثير من القيادات العشائريةالدينية الكردية والتي كانت تداعبها امال قومية ولكنها في نفس الوقت لم تستطع التخلص من المجال (المغناطيسي) النفعي المادي… ويشهد على هذا القرن العشرون باسره.
لقد اوضحنا النزعة الاصلاحية الكامنة في شخصية الشيخ عبد السلام البارزاني ورغبته في ايجاد نهضة كردية حقيقية ولا نعتقد ان شخصية عشائرية دينية في كردستان حظيت باعجاب ويكرام قدر ما حظي به الشيخ عبد السلام ولعل ابرز الاسباب التي لا تبدو للقارىء واضحة لاول وهلة ان ويكرام لم يكتب عنها مباشرة ولكن القارىء يمكن ان يستنتج ذلك من خلال ما كتبه ويكرام عن شخصيات في مصاف الشيخ عبد السلام وكانت مطالبة للحقوق القومية للكرد ولكنها كانت متجهة نحو التجارة وجمع المال مستغلة موقعها القبلي والجغرافي (الحدودي) مما جعل الهم القومي لدى مثل هذه الشخصيات هماً ثانوياً قياساً إلى الهم المالي او التجاري فانزل هذا الهم من شأنهم سياسياً وتاريخياً على الرغم من بصماتهم التي لن يلغها التاريخ ولكن كان يمكن لكثير من زعماء او رؤساء الكرد ان يكونوا في مواقع افضل تاريخياً لو تخلوا في حينه عن سورة الجشع في انفسهم ويمكن ان نعزز ما ذهبنا اليه من تحليل لعدد من الشخصيات العشائرية في كردستان بالاطلاع على مذكرات ويكرام وغيره.
ان ويكرام بعد ان زار بارزان اتجه إلى (نهرى) أي إلى القرية التي انبثقت منها واحدة من ابرز الثورات الكردية على يد المناضل الشيخ عبير الله النهرى (الشمزيني) وهذه المشيخة في تقدير ويكرام لم تكن اقل سطوة من مشيخة بارزان.
يذكر ويكرام بشكل موجز ما كان يصبو اليه الشيخ عبيد الله الشمزيني وهو اقامة دولة كردية مستقلة بين تركيا وايران آنذاك.
ويعلق ويكرام على محاولة الشيخ عبيد الله الشمزيني ان نجاح الشيخ عبيد الله لم يكن من قبيل المستحيلات لو ان الظروف واتته، وويكرام يجعل من الشيخ مبارك آل الصباح وهو امير حقيقي لدولة الكويت الذي تولى الحكم في 1894 مثالاً على امكانية تأسيس دولة كردية بزعامته أي بزعامة الشيخ عبيد الله.
ان ويكرام يضعنا امام انطباعات تؤلم أي قومي كردي فقد رضي (صديق) الابن الثاني للشيخ بالسلطان الفعلي على القبيلة بعد ان نفي والده مع ابنه عبد القادر وبدأ صديق يجمع ثروة عظيمة من عملية تهريب التبوغ على نطاق واسع جداً وكانت قوافله تدخل ايران متحدية موظفي انحصار التبغ ثم مارس تجارة الاسلحة والشراء من روسيا والبيع في ايران في مدينة اورمية.
ويعلق ويكرام على القائممقام التركي مع مفتش انحصار التبغ، ان الشيخ صديق اسكنهما في بيت جميل بناه من ارباح تجارته التي كان واجب وظيفتهما ايقاف تلك التجارة عند حدها الا ان هذين الحيوانين الاليفين كما يذكر ويكرام تم تدجينهما (152 – 153).
لقد ارسل هذا الشيخ إلى ويكرام طالباً رسالة توصية إلى بنك انكليزي قائلاً ان لديه مبالغ من المال يرغب في ايداعها وقد زكى له بنكاً او مصرفاً او اثنين وكان الشيخ قد طلب فائدة تتراوح بين عشرة بالمئة وخمسة عشر ويشترط سحب الودائع عند الطلب وقد اعتقد ويكرام ان الطلب لن يؤدي إلى نتيجة ولكن سرعان ما فوجئ ويكرام ان البنك كان قد وافق، وكما يذكر، وجدت بضعة الاف من الباونات سبيلها إلى شارع لومبارد المالي بلندن!
وينهي ويكرام انطباعه عن رئيس العشيرة هذا قائلاً: حقاً ان امير المهربين هذا كان في سعة من الرزق، زعيم عصابة تهريب كردي ذا رصيد مالي كبير في انكلترا؟ انه ليبدو امراً صعب التصديق (153).
هكذا يبدو الشيخ صديق في منظور احد المستشرقين المبشرين واذا اخذنا بكل ما ذكره ويكرام مأخذ جد وصدق نقول ان هذا الشيخ كان بامكانه ان يتخطى بجهوده النفع الذاتي ولكن على ما يبدو لم يكن على سكة ابيه في همومه وان كان ابنه السيد طه بدا اكثر التصاقاً بالقضية الكردية وطموحاتها.
ترى هل هناك صفحة مخفية من حياة الشيخ صديق في الجانب الذي ذكرناه؟ قد تنبئ البحوث المستقبلية عن ذلك ولكن على حد علمنا لم تكن اهتمامات الشيخ صديق مثل اهتمامات والده بل كانت اهتمامات تجارية، وكما ذكرنا آنفاً، ان الجمع بين الهم التجاري والهم القومي مسألة صعبة واذا ما اجتمعا فقد اجتمعا على زيف ورياء ولنا في ذلك الف مثل لا على الصعيد الكردي حسب بل في حركات تحريرية عديدة.
ومن المسائل التي استرعت انتباه ويكرام ان بعض رؤساء العشائر كانوا يحتفظون بعدد من اليهود ويسمى هؤلاء اليهود بالمدجنين؟ (287).
يعطينا ويكرام مثالاً عن الصراعات على الزعامة التي لم تكن بعيدة عن مناطق وجوده اذ يذكر ان الخصام العائلي الذي نشب في السنوات الاخيرة قلص كثيراً من نفوذ الشيخ طه فقد عاد عمه (الشيخ عبد القادر) من استنابول اذ كان هذا الاخير قد نفي إلى استنابول كما ذكرنا بسبب ثورة ابيه الشيخ عبيد الله الشمزيني عام 1888 وادعى بالمشيخة ورئاسة الاسرة وهي من حقه بموجب التسلسل الوراثي، فنشب قتال بين العم وابن اخيه وهو ما لم يكن ليلحق ضرراً بليغاً باي احد منهما لو بقي اتباعهما يحتربون فيما بينهم، الا ان البلايا كلها انصبت بطبيعة الحال على رؤوس المسيحيين التعسين (هكذا يصفهم ويكرام) الذين كان كل طرف يدعيهم لنفسه وهكذا وجدوا انفسهم بين شقي الرحى.
واعتقل الشيخان ثم تم التوصل إلى اتفاق ورضي الشيخ عبد القادر بمعاش سنوي ضخم من املاك الاسرة على ان يتخذ من استنابول المدينة المألوفة لديه مسكناً ثابتاً مفضلاً اياها على منصب شيخ قبلي في كردستان (156)..