التآخي
يسر صفحة دراسات كوردية ان تقوم بنشر كتاب الدكتور بدرخان السندي ( المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي) وذلك عبر حلقات متسلسلة.
الحلقة الثامنة عشرة
وبلا شك فان الاقتراب او الابتعاد من الشيخ محمود كان معياراً اساسياً للتعرف على اتجاهات الفرد او القبيلة من منظور بريطاني، بالرغم من ان بريطانيا في مرحلة من وجود رجالها لا بل قواتها في كردستان (جاملت) واغرت الشيخ محمود لكنها للاسف كانت لا تظهر ما تضمر وقد تحدثنا عن ذلك في الفصل الخاص بالاوضاع السياسية.
يحدثنا ادموندز عن الهماوند وقد سبق ان تحدث عنهم سون وريج ولا بد من ان يتحدث عنهم كل زائر او رحالة لما اتصفوا به من شجاعة وحب للقتال، فيذكر ان هذه القبيلة تسكن كلاً من ناحيتي مركز جمجمال وبازيان** وهؤلاء وان كانوا من اصغر القبائل الكردية الجنوبية ولكنهم اشهر قبيلة مقاتلة حتى العام 1922 (42).
ويقال انهم قدموا من ايران في مطلع القرن الثامن عشر وقد ازروا امراء بابان في السليمانية وقاتلوا الترك.
استطاع الاتراك نفي نصف القبيلة الى شمال افريقيا (طرابلس) ونفوا النصف الثاني الى (اطنه) في تركيا وكل من الموقعين يبعد زهاء (500) ميل بخط مستقيم عن موقعهم في بازيان (43).
يذكر ادموندز باعجاب عودة المنفيين المحاربين بزوجاتهم واطفالهم من شمال افريقيا الى بازيان أي بعد سبع سنوات من النفي ويصف هذه العودة انها ملحمة من اروع الملاحم واكبرها في تاريخ الكرد القبلي، وحذا منفيو (اطنه) حذو اخوانهم فشقوا طريقهم وحدهم دون ذويهم لكن الحكومة التركية وافقت على اعادة زوجاتهم واطفالهم الى ديارهم تخلصاً من المتاعب (44).
ويذكر ادموندز ان كلاً من كليمان وبرزيزوفسكي يشهد بصيت الهماوند في اعمال الشقاوة، لقد زار الاول كردستان في 1853 والثاني في 1869، عشيرة الهماوند فيصف الاول الهماوند انهم اهم قبيلة كردية تسكن المنطقة وهي اقوى كل القبائل واشهرها في البسالة والجرأة على الغزو والثورة الدائمة.
اما الثاني فيصفهم بانهم ينشرون الفزع والهول في سائر المنطقة الممتدة الى ما وراء كركوك واربيل (46).
ان لمينورسكي (العقدين الاولين من القرن العشرين) انطباعات عن الحياة القبلية في كردستان فقد لاحظ وبالاخص في المناطق التي زارها وهي المناطق الشمالية الغربية من كردستان ايران. ان المجتمع الكردي ينقسم الى مجتمع رحالة وحضر وان عدداً من القبائل الرحالة قد تحولت الى نمط يتوسط حياة البداوة والتحضر فتجدهم يسكنون بيوتاً من الطين شتاءً ولهم مزارعهم وعندما يغادرون الى المرتفعات في اوائل الصيف يتركون بعض رجالهم لحراسة بيوتهم ومزروعاتهم (33).
ومن ملاحظات مينورسكي عن القبائل الكردية ان القبيلة الكردية تحافظ على التقاليد العامة وهي بذلك تكون قريبة الشبه من قبائل بعيدة عنها كعشيرة الجاف، كما قد لاحظ ان هذه القبائل المرتحلة ترحل في النهار وتنام في الليل في محطات معينة حتى تحط رحالها في الجبال (34).
ويذكر مينورسكي شيئاً عن الثنائية التي ذكرها الاخرون من المستشرقين والرحالة فتجد في المجتمع الكردي المحارب والمزارع وسطوة المحاربين واضحة على سواهم من ابناء المجتمع الكردي. اذ يذكر بهذا الصدد ان العشيرة في كردستان تتكون من طبقتين الاولى (المقاتلون) وهم الرؤساء (الاغا) واصحاب الاراضي وخدمهم والثانية الرعية (المزارعون) ويبدون كنصف عبيد ارض (34).
يحلل مينورسكي وضع المجتمع الكردي في المدة التي عايش المنطقة وكتب عنها فيذكر، ان للاكراد شعورهم القوي جداً نحو العائلة والقبيلة وهو اقوى من شعورهم نحو الانسانية او الاخوة المبنية على الدين او الشعور القومي الواسع.
لذا نجد مينورسكي يجيب بنفسه عن سؤال له، وهو على من يعتمد الاكراد الذين يعيشون عملياً بين دولتين ضعيفتين، الدولة الفارسية والدولة التركية؟ ويجيب ان التماسك القبلي هو المسؤول عن بقائهم ومن سمات الحياة القبلية التماسك والتعاون طبعاً، والرجل الواحد وكذلك العائلة الواحدة لا يستطيع ان يناضل في سبيل البقاء الا في نطاق القبيلة، ومن هنا تأتي نزعة عبادة الفرد لقبيلته ونزعته لاخذ الثأر.
ويعلق مينورسكي على كل ما ذكر ان الكرد دافعوا عن قبائلهم برجولة خارقة لا حدود لها (64).
ان المشاعر القبلية وما يصاحبها من النضال من الامور النفسية التي لا حظها بعض الرحالة والمستشرقون في كردستان فعلى سبيل المثال يذكر سون ان الكردي عندما يسأل عن قبيلته التي ينتمي اليها فانه (ينتفخ) على غرار ما يجب ان يفعله كل من ينتمي الى قبيلة عظيمة قوية.
اما ويكرام فقد وصف (في العقد الاول من القرن العشرين) كردستان (ببلاد العشائر) وهو يصف العشائر بالسطو ولكننا نستطيع ان نلتمس شيئاً من المغالاة في حديث ويكرام، فقد زار كردستان رحالة ومبشرون قبله، ونحن لا ننكر حالات من السطو تحدث هنا وهناك ولكن كما يظهر فان السطو كان مركزاً على القوات الحكومية اكثر من ان يكون على اهل منطقة ما الا في حالات السطو الفردي وهذا امر يمكن ان نلحظه حتى في يومنا هذا وحتى في اكثر الاقطار تحضراً.
ومما يدلل على ما ذهبنا اليه ان جيمس كريج الذي كان قد زار كردستان وجاب مجاهل شعابها وجبالها في كردستان الشمالية والجنوبية في العقد السابع من القرن الثامن عشر، يسوق لنا هذه القصة، ولا ينسى ان القبائل الكردية احاطته بالود وحسن الضيافة، وهو شخص بريطاني. يذكر ان المستر ابوت القنصل البريطاني في ارزروم الذي كان مسافراً من بايزيد إلى ارزروم* هجمت عليه مجموعة كردية بالقرب من قرية اسمها ديادن في الطريق المباشر المؤدي إلى تبريز وكان القنصل شخصاً صارماً لا يعرف حتى المزاح فما كان منه الا ان اطلق رصاصته من مسدسه على اول كردي اقترب منه، ولكن لحسن الحظ فان الرصاصة لم تصبه فما كان من الكردي الا ان هجم برمحه على القنصل وانزله عن جواده ونزعت عن الموظف (الدبلوماسي) ملابسه كلها بينما كان حراسه من الارمن والترك يقفون مشاهدين دون تدخل واخذت كل الخيول والامتعة ومن ثم نزعت عن الجماعة كل ملابسهم ايضاً وكان ممثل الامة التي لا تغيب الشمس عن عملها (يقصد بريطانيا العظمى) قد اخذ يستجدي ثوباً وسروالاً لكي يستر بهما عورته (182).
ونعتقد ان هذه الجماعة الكردية تقصدت الهجوم بعد ان عرفت السمة الرسمية لهذا الشخص وحراسه من (الارمن والترك).
ان المستر جيمس كريج يعلق على هذه القصة بشيء من روح النكتة. فقد كان من واجب والي المنطقة القاء القبض ومعاقبة الجناة الذين كانوا بدورهم يسخرون ويستهزئون من ذلك، فمن اين للوالي ان يتعرفهم ويلقي القبض عليهم في هذه المنطقة العصية (182-3).
اننا نعتقد ان الحراس الارمن والترك والصفة الرسمية للقنصل البريطاني هذه العوامل مجتمعة اسالت لعاب الكرد اكثر من كون الموضوع (سلباً وحصولاً على غنائم) والا لماذا يطري جيمس كريج البريطاني على حسن ضيافة القبائل الكردية له في نفس منطقة القصة التي اوردها كريج؟
ان ما يعزز اعتقادنا في هذا المجال قصة جوبر مبعوث نابليون إلى الشاه الايراني (1805-1806) الذي اشاد اشادة كبيرة بحب الكرد لتضييف الغريب وخدمته وقد ذكرنا ذلك في فصل الضيافة من هذا الكتاب ومع هذا فان جوبر وقع في اسر احد رؤساء القبائل الكردية حتى تسنى له الفرار من اسره.
نرى ان رئيس القبيلة قد عرف هوية هذا الرجل الفرنسي وبلا شك لم تكن هذه القبيلة على علاقة طيبة (بالحكومة) فأعطت لنفسها كل الحق في القاء القبض على ماله صلة بالحكومة. سواء كانت الحكومة تركية ام فارسية ام ما يبعث اليهما من ممثلين اجانب. ان جيمس كريج يروي لنا قصة هروب جوبر في مذكراته (192-3).
وتعزيزاً لما تقدم نعود إلى سون الذي ذكر مشاهدته لاحدى حالات السطو التي قامت بها عشيرة الهماوند ولكن على من؟ على قافلة تضم رتلاً عسكرياً وجرى السطو على الرتل العسكري وحتى نسوة الضباط اللواتي رافقن الرتل فتشن من قبل نسوة هماوند وليس من قبل الرجال الهماوند، احتراماً للقيم القتالية.
اما ويكرام الذي جاء ذكره قبلاً لم يميز بين اعمال السطو والثارات التي كانت محتدمة بين بعض القبائل وبين المسلمين والمسيحيين فالمنطقة كان يجول فيها، منطقة متأزمة وقد ذكر ويكرام ذلك من بعد.
ويعلق ويكرام على مسألة بقدر ما هي مهمة فهي، طريفة ايضاً، فقد لاحظ ان الكردي وإن كان من اعتى الشقاة، يفكر ملياً قبل ان يضغط زناد بندقيته نحو قافلة تسير تحت حماية قبعة اوربية. ان ويكرام يذكر ان رجال العشائر وجدوا بالتجربة انه تثار ضجة حتماً عندما يتعرض الاوربي الى أي اذى، اذ يظل سفيره ينخس في جنب الحكومة نخساً حتى تقوم بارسال حملة، أي الحكومة التركية تعد حملة بتأثير من سفير دولة اوربية وقع اعتداء على احد رعاياها في كردستان، فيزحف رتل عظيم من الجيش الى داخل البلاد (كردستان) ليعيش مجاناً على القرى وليعتقل عدداً من الناس الذين لا دخل لهم في المسألة على الاغلب ولذا يكون الجانب الحقيقي آخر المتضررين الا انه يكسب عداء وكرهاً عظيمين لتسببه في مثل هذا العمل للمنطقة؟
ان من اكثر القبائل التي استحوذت على اهتمام ويكرام هي قبيلة الهركية. اذ يذكر ويكرام ان هناك اساطير واخباراً تنسج حول هذه العشيرة التي يصفها بالبدوية الشرسة، انها كانت تدين بالنصرانية عندما اتخذ اساقفة البدو من الخيم كنائس لاقامة القداس الالهي كاتباعها النساطرة الكرد، ويستطرد ويكرام في ذكره للاصل النصراني للهركية وقدمهم في هذه الديانة حملهم رأس القديس (جرجيوس) احد شهداء النصرانية الاسطوريين في الشرق على صدورهم واعتباره حرز عشيرتهم الأقدس ويكون اما عند زعيم العشيرة الاكبر او عند رجل دين (ملا) عظيم الكرامة في العشيرة وويكرام ينهي كلامه هذا بانه قد نقل الاقوال التي سمعها من كهنة النساطرة الطاعنين في السن لا غير (152).
والحقيقة فان تعليقنا على ما ذهب اليه ويكرام واستناده على اقوال كهنة طاعنين في السن لا يغير من حقيقة تاريخية نحن الكرد نعرفها دون حاجة الى كهنة، فماذا كانت ديانة الكرد قبل الاسلام؟ لا الهركية فقط، بل كل الشعب الكردي قبل الاسلام؟ لقد كانوا اما على الديانة الزرادشتية او على الديانة المسيحية حتى الفتح الاسلامي فدخل الاكراد في الاسلام تدريجياً وليس كما يطيب لبعض المصادر ان تذكر او بعض انصاف المثقفين الدينيين وليس الراسخون في العلم، ان الكرد دخلوا الاسلام دفعة واحدة ودون جدل او دون مقاومة.
ان التاريخ يحدثنا من خلال ما كتبه كبار المؤرخين الاسلاميين عن دخول الكرد في الديانة الاسلامية على دفعات وازمنة مختلفة وارتداد بعضهم عن الاسلام مثلما ارتدت بعض المجموعات العربية عن الاسلام ثم عادت فدخلت، فلماذا العجب ولماذا نعتقد ان الكرد دخلوا دخلة واحدة وكأنهم في ليلة وضحاها ناموا غير مسلمين ونهضوا صباحاً مسلمين ان المسألة ليست كذلك فهناك من دخل الاسلام سريعاً وهناك من دخل الاسلام بطيئاً وهناك من ارتد عن الاسلام وبقي مرتداً وهناك من ارتد عن الاسلام ثم عاد اليه وهكذا، وهذا امر يصعب متابعته ولكنه غير مستحيل لو كانت الاقلام حرة في نسج تاريخها، ان هذه الامور مذكورة في امهات الكتب التاريخية الاسلامية كالطبري والمسعودي والبلاذري وابن خلدون وغيرهم. لذا ليس عجيباً ان نرى قبيلة ما دخلت الاسلام متأخرة او احتفظت بشيء من تراثها الديني السابق فنحن الكرد المسلمين على الرغم من اسلامنا لم نتخل عن كل اشكال حياتنا التي كنا نمارسها مع من لم يدخل الاسلام من الكرد كاليزيدية فما عدا التعاليم الدينية نحن وهم أي اليزيدية شعب واحد لغة وتراثاً وعادات وتقاليد وامنيات سياسية، لا بل وبطولات ملحمية في التاريخ القومي النضالي الكردي، والكردية قومية يمكن ان تضم بين دفتيها المسلم والمسيحي واليزيدي والمؤمن جداً والعلماني جداً شأنها في ذلك شأن القوميات الاخرى.