يسر صفحة دراسات كوردية في جريدة التأخي ان تقوم بنشر كتاب الدكتور بدرخان السندي ( المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي) وذلك عبر حلقات متسلسلة.يصف ادموندز هؤلاء الكرد وهم يسوقون امامهم الآفاً من الاغنام والماعز وحميرهم وبغالهم مثقلة بخيمهم وقدورهم واكياس قمحهم واثاث بيوتهم ونسائهم، واناس منهم بلغوا ارذل العمر كرروا هذه الرحلة اكثر من مائة وخمسين مرة بمعدل مرتين في العام الواحد.
نساء في مقتبل العمر ضاحكات مليئات بحيوية الشباب بينهن من تحمل بندقية.
اطفال رضع يخرجون رؤوسهم من الجوالق فوق سروج البغال يشاطرهم مجلسهم المريح الحملان المولودة في الطريق… كلهم في حركة دائبة يقطعون الشعاب ويعبرون المضايق الجبلية والمسالك الوعرة في رتل ما له نهاية (16).
وينهي ادموندز هذه اللوحة الرائعة وهو يذكر ان معظم القبائل الكردية راحت تستقر في القرى وتمارس الزراعة (17).
وهنا لا بد من الاشارة الى ظاهرة او حالة يمكن ان نسميها انتقالية فالتحول هو ليس بالتحول السريع المفاجىء كما يتصوره القارىء لدى قراءته لادموندز. اذ من القبائل التي مزجت بين الارتحال والزراعة فهي تمارس الزراعة في موسم الشتاء وما ان ينتهي موسم الحصاد حتى ترحل العشيرة باغنامها الى المناطق الجبلية التي تكثر فيها المراعي بعد ان خزنت ما يكفي اغنامها وسوامها من تبن وعلف لفصل الشتاء. ومثل هذه العشيرة المتوسطة لرحلتي البداوة والاستقرار الريفي تجدها قد تخلت عن الخيم (بيوت الشعر) واثرت السقائف التي تشيدها من الاعمدة واغصان الشجر في المناطق المرتفعة اما في الشتاء فتسكن في بيوت من طين ومع هذا فان الخط البياني للحياة القبلية يشير الى هبوط ملحوظ وتناقص مستمر في الحياة القبلية وتفضل الاستقرار الزراعي الريفي، الى الحد الذي يمكن ان نقول ان نمط الحياة القبلية في كردستان قد انتهى على مدى الربع الاخير من القرن العشرين.
يحدثنا ادموندز ان مدينة حلبجة وهي من املاك زعماء الجاف الكبار وتسعة اعشار اراضي القضاء او يزيد هي اراضٍ ممنوحة بالطابو لمختلف اعضاء الاسرة الحاكمة، وهو يعتقد ان ثلاثة ارباع سكانها من قبائل الجاف (129-130).
ان ادموندز يصف الجاف انهم من الاكراد الخلص الاقحاح ويمثلون اعظم قبيلة في جنوب كردستان وكثيراً ما يشار اليهم بكلمة كورد فحسب لتدل على معنى مقتصر عليهم خاص بهم يميزهم عن غيرهم من القبائل والريفيين الذين لا ينتسبون الى قبيلة وان لهم ان يفخروا بعراقة اصلهم كما درجت عليه القبائل الكردية العامة (130).
نعتقد ان ما ذهب اليه ادموندز هنا ليس بحديث سطحي بل له عمقه الدراسي فقد امتلك ادموندز حساً استقصائياً ونزعة علمية مما جعله من بعد ان يصبح استاذاً متخصصاً بالعلوم الشرقية لا بل الكردية بالذات، وما قاله ادموندز بحق عشيرة الجاف كاف للرد على بعض المحاولات الساذجة المكتوبة او المحكية التي ارادت او حاولت ان تجرد الجاف من كرديتهم والجاف انفسهم غير قابلين الا بكرديتهم. ان هذه المحاولات لم تقتصر على الجاف وحدهم بل امتدت الى غيرهم من القبائل وهي محاولات مؤسفة حقاً، لان القومية شعور قبل كل شيء ثم هي لغة وجغرافية وهذه الابعاد الثلاثة متحققة في هذه القبائل هذا من جهة ومن جهة اخرى لا نعتقد ان الامة العربية ستستقيم امورها وتحقق اهدافها الستراتيجية اذا ما ضمت الى ملايينها هذه القبيلة الكردية او تلك، ونحن على ثقة تامة ان القومي العربي الموضوعي في اخلاصه لاماني امته، لم ولن يشوه او يغير الحقائق التاريخية او مساراتها.
لقد حاول ادموندز ان يجري تتبعاً سلالياً للاسرة الحاكمة لقبيلة الجاف مستعيناً بملاحظاته الشخصية ومذكراته التي كان يدونها وبعض المصادر التي يصفها بانها (لا تتيسر دائماً).
ان وجهة نظره أي ادموندز ان كثيراً من الاسر الحاكمة في القبائل الكردية درجت على ادعاء انتسابها الى سلالة نبوية (134)، والحقيقة يمكن ان نجد هذه الظاهرة (الانتسابية) لا في كردستان حسب، بل في كل بلاد الشرق تشرفاً بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتعزيزاً للنفوذ القبلي الذي هو نفوذ دنيوي ليصبح اقوى وامضى عندما يتعزز بنفوذ روحي.
ان انطباعات ادموندز عن الجاف انهم نموذج من القبيلة الكردية ذات الطابع القديم لها اسرة ارستقراطية حاكمة من جهة، ولها من جهة اخرى عدد من البطون من الطبقة الفلاحية وكل بطن مجزأ الى عشائر وكل عشيرة فلاحية لها رئيس يدعى (كويخا) وبعض هذه العشائر استوطنت من زمن بعيد واصبحوا مزارعين اما بعضها الآخر فيغلب عليها طابع البداوة، ويذكر ادموندز ان الاستقرار زاد شيئاً فشيئاً ولكن العوامل ظلت ولم تتغير على حد قوله ويأتي ادموندز بمثال على ذلك: رجل يخسر قطعان ماشيته بسبب آفة طبيعية او حرب عشائرية او لاجراء حكومي معين فيضطر الى التحول الى الارض ليقيم اوده بالزراعة ولكن ما ان يقبل عليه الحظ – وان اقتضاه الكدح عدة سنين – حتى يقرر العودة الى حياة البادية (134).
ويقترح ادموندز لا بل يؤمن ان اكبر عامل للاستقرار في الارض هو تدخل الادارة في العادات التقليدية القديمة.
ينتقل ادموندز في موقع آخر من مذكراته الى موقع قبلي آخر، وهو بشدر، يقول اذا كان قد وصف الجاف كونهم (اهم) قبيلة في جنوب كردستان فانه لم يشأ ان يقول عنها انها (اقوى) قبيلة، فهو يرى ان (الاقوى) اكثر انطباقاً على بشدر (198)، والحقيقة فان هذا هو رأي ادموندز لاننا لا نعرف ما هي المعايير التي يمكن ان تعتمد في استنتاج (الاقوى) من القبائل أ هي العدة ام العتاد ام هي شدة استبسال الفرد القبلي.
المهم ان ادموندز يضعنا امام قبيلة كردية اخرى حظيت باهتمامه وتعامل معها ايضاً.
ان بشدر اسم جغرافي وليس اسم قبيلة، اما اسم القبيلة فهو (نور الديني) ولقب اسرتها الحاكمة المتوارثة (ميراودلي) واغوات الميراودلي يبسطون سلطانهم على القبيلة بشكل مطلق لا ينازعهم فيه منازع وكانوا كثيري النسل، والسنوات السابقة على العام 1918 كانت عهد توسع سريع في تركيز وكلائهم وفي منطقة واسعة من القرى التي لم يملكوا فيها شبراً من حقوق الملكية، لذا يرى ادموندز ان هذه القبيلة تستحق الدراسة كنموذج لقبيلة كبيرة في مرحلة معينة من التطور السياسي والاجتماعي (198).
والحقيقة فان قصة لطيفة ترتبط في الحديث عن منشأ الميراودلي هذه القصة رواها بابكر اغا زعيم القبيلة الى ادموندز فهم أي الميراودلى يفيدون انهم من ذرية البابانين وانحدروا من جدهم الاعلى (فقى احمد دار شمانه).
لقد عاش في قرية (مه ركه) اخوان هما (كاكه مير وكاكه شيخ) وقد قتل كلاهما ولما كانت ارملة كاكه مير حبلى فقد هربت الى (خدران) الواقعة في ناحية (جناران) وهناك ولدت طفلها احمد ثم انتقلا الى دارشمانه التي تبعد سبعة اميال شرقي قلعة دزه ونشأ فقي احمد رجلاً ذا بأس شديد وعلم ومعرفة وفي معارك المسلمين ضد الكفار تمكن في وقعة واحدة من دحر (كيغان) الاميرة المحاربة الشجاعة بنت امبراطور الافرنج التي لم ينتصر عليها فارس مسلم من قبل فأسرها وعاد بها الى موطنه عودة الظافر المنتصر، الا ان اسداً هاجمه في الطريق وتمكنت كيغان من الفرار. وبعد ان شفي فقي احمد من جراحه خرج يطلب اسيرته من جديد وكانت كيغان قد اغرمت واعجبت بذلك الرجل الاوحد الذي استطاع قهرها في مبارزة فرافقته مختارة الى بيت في دارشمانه وولدت له ثلاثة ابناء هم (بابا سليمان) عميد الاسرة البابانية و (خان به داخ) عميد اسرة ميراودلي والثالث كان جد اسرة موكري الحاكمة، ويقال احياناً ان كاكه مير هو سليل صلاح الدين الايوبي وان الاسرة الايوبية نزحت اولاً من سوريا الى جزيرة ابن عمر قبل ان تستقر في مه ركه لقد استقر ميراودلي في قرية نور الدين القريبة من قلعة دزه (199).
الحقيقة ان هذه القصة اللطيفة والتي لا نشك ان لها جذراً من الحقيقة وان اسبغ عليه طابعاً درامياً جميلاً تضعنا هي وشواهد اخرى ومن مصادر اخرى امام حقائق ربما وفقنا الله في الكتابة عنها مستقبلاً عن المنابت الحقيقية لاسرة بابان التي اسست امارة بابان وكذلك اسرة الميراودلي التي قادت واحدة من كبريات القبائل الكردية المحاربة وكانت مثلما كان الجاف عموداً اساسياً في كيان الامارة البابانية والدفاع عنها. اذ كان حسبما ذكره (كليمان)* اثناء تجواله في كردستان عام 1856 ان كبير الميرادولي بابكر اغا الابن الاكبر لـ حمه اغا الملقب بـ (كه وره = الكبير) كان بامكانه آنذاك تجريد اكثر من الفي مسلح.
ويتحدث ادموندز عن مشكلة الولاءات في هذه القبيلة وانحاء المنطقة بين مؤيد صديق لبريطانيا ومؤيد متعاون مع الدولة العثمانية ورجالها الذين اخذوا سراً يتصلون بالمناوئين الى وجود الحكام السياسيين البريطانيين في كردستان (208).
التآخي