اما باسيل نيكيتين* (1915-1918) فقد تبنى رأي ميلنكن (العقد السادس من القرن التاسع عشر) في تفسير نشوء القبيلة، اذ يرى ان القبيلة عائلة اتسع نطاقها ويستشهد بقبيلة (الهركي) فقد كان جدها رجلاً يدعى (ابو بكر) اشتهر بشجاعته وكان بينه وبين احد الامراء واسمه زين الدين عداوة وبعد ان دارت معركة بينه وبين رجال الامير قتل وشتت عشرين شخصاً من اتباع الامير الذين كانوا قد نصبوا له كميناً.
اخذ اسلحتهم وامتعتهم وحملها على بغلين وسار نحو خيمة الامير فلجأ هذا الامير الى الحيلة بعد ان اشاد بشجاعته وعرض عليه ان يتعايشا واطمأن هذا الى قول الامير وما ان نام في الليل حتى اطبق عليه حراس الامير واخذوه ليعدموه وقبل اعدامه خطف خنجراً وبسرعة فائقة من احد جلاديه وطعنه طعنة كانت من القوة بحيث اخترقت الجلاد ونفذت الى جذع شجرة وعندما حاول ان يستل الخنجر خرج المقبض وحده وبقي الخنجر مغروزاً في الجلاد والشجرة ولكن قبل اعدامه طلب ان يؤدي وصيته الاخيرة لاولاده وهي:
اولاً:لا تثبتوا نصلاً في مقبض دون ان تسمروه.
ثانياً:ليتزوج كل منكم اربع نساء لتنمو ذريتكم وتتمكنوا من الاخذ بثأري.
ثالثاً:لا تصغوا ابداً الى الاقوال المعسولة التي تصدر عن افراد اسرة الامير زين الدين.
وكان لهذا الرجل البطل اربعة اولاد، مندو وسيدو وسرحان ومشير وقد اصبح الثلاثة الاول على رأس الفروع الثلاثة في قبيلة الهركى (120-121).
ان هذه القصة التي اوردها باسيل نيكيتين عن ميلنكن مثال عن تكون القبيلة الكردية عن طريق تكاثر العائلة الواحدة، هذه القبيلة التي تعد اليوم من كبريات القبائل الكردية.
وقد شخص ميلنكن عوامل ديمومة وتوسع القبيلة او عوامل تفسخها وانحلالها، فهو يرى ان القبيلة بحاجة الى زعيم شجاع بارع لكي تنمو ويجتمع شملها اما انحلالها فمرهون بفقدان الزعيم او الوباء او الجوع.
والحقيقة فان باسيل نيكيتين فضلاً عن عرضه لرأي ميلنكن فانه يتحدث عن تكوين القبيلة الكردية ويبدو ان ملاحظات باسيل نيكيتين في هذا المجال كانت منصبة على اكراد تركيا اذ يذكر ان القبيلة الواحدة من قبائل كردستان تركيا تتألف من عائلة رئيسة هي عائلة الزعيم ثم تليها مجموعة من العائلات التي تمت بصلة القرابة اليها، على درجات متفاوتة ولكل عائلة خيمة فاذا اريد احصاء عدد عوائل القبيلة الواحدة فيمكن ذلك من خلال احصاء عدد الخيم وبالرغم من هذا الجزم فان باسيل نيكيتين يضعنا امام احتمال تزايد او تقلص اعداد العوائل او اعداد الافراد في القبيلة الواحدة تبعاً للظروف التي تمر بها القبيلة اذ يذكرنا بوجوب الانتباه الى ان قبائل كردستان تتشكل من عنصرين متمايزين احدهما دائم والثاني متأرجح، اما العنصر الدائم فهو تلك النواة من العائلات التي تمت بالقرابة الى زعيم القبيلة واما العنصر المتأرجح فلا يخرج عن كونه مجموعة من المغامرين والمشردين الذين ينضمون تارة الى هذه القبيلة وتارة الى تلك وبذلك يكون من المستحيل ان تحكم على العدد الحقيقي لقوام قبيلة ما (117).
ان ما ذهب اليه باسيل نيكيتين مذهب صائب تماماً، فبالرغم من انحسار وضعف النظام القبلي في المجتمع الكردي اليوم قياساً بما كان عليه قبل مئة عام او اكثر نجد العديد من الاشخاص ممن ينسبون انفسهم الى هذه القبيلة او تلك، ان هذا الانتساب يمكن ان نلحظه من خلال الالتحاق الحقيقي لشخص ما او عدة اشخاص بالقبيلة او العشيرة الفلانية ويعايشونها فعلياً ويمكن ان نلحظ في حياتنا المدنية أي داخل المدينة وما من شيء اسهل من ذلك فقد يفاجئك احدهم وقد لقب نفسه بعشيرة ما بمجرد اضافة اسم هذه العشيرة او تلك الى اسمه، وعادة تكون العشيرة منتقاة لاسباب تمثل مصلحة شخصية للمنتسب.
ان هذه الظاهرة لا تقتصر على الكرد حسب بل وجدناها قائمة لدى العرب ايضاً والاساس كما ذكرنا ابتغاء مصلحة خاصة.
يشير باسيل نيكيتين الى دراسة قام بها هلموت كريستوف وقد صنف القبائل الكردية في اربعة انموذجات*، والحقيقة لم يشعر مؤلف هذا الكتاب بصفته احد ابناء الشعب الكردي وقبلي المنبت بدقة ما ذهب اليه كريستوف في نمذجته للمجتمع القبلي في كردستان (55)، ففي وصفه لهذه النماذج يشعر القارىء بشيء من المغالاة فضلاً عن اهمال هذا الباحث العامل السياسي المسؤول عن كل ضروب القتال والعنف الصادر من القبائل العائشة في المناطق الحدودية. ان كريستوف لم يسأل نفسه لماذا الحدود؟ والحدود بين من ومن؟ لماذا الحدود تخترق الارض الكردية فتحيل ابناء العمومة (اجانب) واحدهم بازاء الآخر ومن يستفز من؟ ومن المعتدي الغاضب ومن المعتدى عليه في عقر داره؟ لا يريد الكردي ان يكون معتدياً بل يريد ان يكون مدافعاً. ويخطىء كريستوف – من وجهة نظرنا – عندما يذكر ان معظم الاكراد الذين تتشكل منهم المدن الكردية يعود اصلهم إلى هذه الفئة أي الفئة التي تعيش على الحدود اذ لا يوجد ما يثبت هذا الرأي ثم انه يعتقد (او يخطىء ثانية) عندما يرى في سكان المدن ابتعاداً عن الخصائص الكردية والصراع مع العدو فقد إلى حد كبير اهميته وحب التسلط والشجاعة قد هبطا إلى ادنى مستوى ليحل محلها الجمود واللامبالاة وكما ان زوال نظام القبيلة الصارم قد ابرز كل ما في النفوس من ميل إلى الطمع فان السلطة السياسية قد قتلت في هذه النفوس حب الحرية، هكذا ينهي كريستوف تنظيره الذي نراه مجانباً للحقيقة ما عدا ان ابناء المدن عادة اقل ضراوة او خشونة من ابناء القبائل وهذا ليس في كردستان بل في كل العالم، وقد ذكر ذلك.
ان الصراع مع العدو لم يفتقد في المدن بل انجبت المدن الكردية، جمعيات واحزاباً وحركات سياسية وتنظيمات نسقت مع ابناء العشائر وكانت المحصلة، حركات قومية مسلحة ولم تدخر المدن الكردية جهداً في سبيل الحرية، لكن الكرد من تجاربهم عرفوا ان من الخطأ جعل المدينة ساحة معركة وحتى اذا بقيت المدينة ترفع علم الخصم يبقى دورها كبيراً للحركة المسلحة من الناحية اللوجستية وان الحركات الكردية تنجح عسكرياً عندما تكون خارج المدن لا في داخلها.
يرسم لنا باسيل نيكيتين صورة قلمية لحياة القبائل الكردية الرحل، من اجمل الصور اذ ما ان ينتهي الشتاء حتى تلاحق القبيلة مواطن العشب لاغنامها وهي ترتفع رويداً رويداً الى الاعالي والمرتفعات ويبدو ان هذا الارتفاع يحدده ذوبان الثلج الذي يبدأ مبكراً في المناطق الواطئة ليخلف مكانه مرعى ثم لا يلبث ان يجف فتترك القبيلة المنطقة الى منطقة اعلى خلف الثلج الذائب فيها تواً والى مرعى جديد وفي الخريف تكون القبيلة في طريق العودة، اذ يضطرهم المطر والثلج المتساقط الى طلب السهول حيث يكون الكلأ قد عاد ينمو وكذلك يمكن الحصول على العلف من القرى.
النساء يتحدثن في طريق العودة عن مقادير الزبدة والجبن التي اعددنها والرعاة يتشوقون لقبض اجورهم ورجال القبيلة يتحدثون عن شراء القمح والشعير ذلك لانهم لا يمارسون الزراعة، ونسوة اخريات يتحدثن متباهيات بالحاجات التي اشترينها من الباعة المتجولين ويتهامس الشبان والشابات بالاسرار. فلان اختار فلانة خطيبة له، وتلك الفتاة رضيت بذاك الفتى.
وتتسامر القبيلة في الليالي المقمرة يتذكرون الاماكن التي يرتادونها والينابيع الصافية التي استقوا منها المياه العذبة محاطين بالزهور والاعشاب الجبلية (39-40).
ولا ينسى باسيل نيكيتين ان يذكرنا بالقلق الذي ينتاب المزارعين اثناء مرور القبيلة المهاجرة بالقرب من قراهم، اذ يلزم الفلاحون بيوتهم بعد ان يحكموا اغلاق ابوابها وينصرف رجال مسلحون الى التمركز في نقاط ستراتيجية عالية تحيط بالمنازل لحمايتها وبين آن وآخر تدوي طلقات الرصاص هنا وهناك (33) وهذا ما اشرنا اليه من خلال (ديكسون) آنفاً ضمن هذا الفصل، ويصف نيكيتين الاثاث والاحمال التي تنقلها القبيلة معها وهي ادوات وافرشة تتسم بالبساطة وهناك من القبائل التي لا تكتفي بتحميل البغال بل تحمل الثيران ايضاً.
ويعرض باسيل نيكيتين في دراسته للكرد ان القبائل الكردية محبة للغناء. انه يعتمد على (بلو) في هذا الرأي، فقد وجد الاخير والذي تعمق في دراسة كردستان في مناطقها الشمالية الشرقية ان اشد القبائل الكردية بؤساً غنية في اغانيها والحانها (132-133).
يرى ادموندز (الربع الاول من القرن العشرين) ان هناك من الاسباب العملية التي تجعل الفرد على قناعة تامة بان المجتمع الكردي خارج المدن هو مجتمع قبلي اصلاً وفصلاً.
ويذكر ادموندز في معرض التدليل على فكرته ان القبيلة مقسمة الى بطون والبطون الى افخاذ واحياناً تدعي قبيلة كاملة انحدارها من خط رجل واحد هو جدها الاعلى والاوحد واحياناً يقصر الادعاء على بطن او فخذ وينزل احياناً لينحصر في الاسرة التي تحكم القبيلة.
وكذلك يشير ادموندز الى ان القبيلة تغلب عليها صفة الوحدة السياسية او الجغرافية وابسط مظاهر النظام القبلي في كردستان من وجهة نظر ادموندز يتجلى عند الكرد الرحل النازحين دائماً الساكنين طول السنة في خيم من نسيج شعر الماعز يرحلون بقطعانهم وفقاً للفصول متنقلين بين السهول والمناطق الجبلية.
ولا يخفي ادموندز اعجابه بالمنظر المهيب الرائع لمسيرة القبيلة سواء في ذهابها الى الاعالي ام ايابها الى السهول. ان وصف ادموندز يقترب من وصف باسيل نيكيتين الذي مر ذكره في هذا الصدد.
التآخي