لقد تحدث بورتر الذي زار كردستان في الحقبة 1817-1820 وهو بذلك سبق المستر ريج في زيارته للمنطقة (1820) وقد جاب المنطقة الجبلية والتقى عشائر قبلية شرسة ويذكر عنهم انهم أي القبليون يعيشون في مناطق جبلية شاهقة وبالرغم من المناطق العصية نجد تشابههم في العادات والتقاليد واسلوب الحياة مما يوحي باخوة متأصلة بين هذه القبائل.
ان هذه المرتفعات الشاهقة تعمق من عزلة القبيلة وتجد ان بعضهم يمارسون نوعاً من الزراعات المحدودة جداً وبالقدر الذي يظن فيه الفرد انها ستشبع كفايته الخاصة ولا يزرع حتى (انجاً) واحداً زيادة على حاجة عائلته. ولكن البعض الاخر وهم الاكثرية يمارسون الحرث والزراعة ويقضون ما تبقى من الوقت حياة عدم الاكتراث والصيد ويجوبون الجبال، وليس من النادر ان تجدهم يمارسون السلب سواء في الحرب ام في الطريق (468).
يميز ريج (1820) بين القرويين ورجال القبائل اذ يذكر مؤكداً ان كل ما يتوقعه قد ثبت من خير المصادر، وذلك ان القرويين في كردستان يؤلفون جماعة تختلف الاختلاف الكلي عن رجال العشائر وهم نادراً ما يفلحون الارض او انهم لا يفلحونها البتة ومن الجهة الاخرى فانهم لم يكونوا جنوداً ويسمي الاكراد العشائريون انفسهم بالـ (سباه) او الاكراد المحاربين تمييزاً لانفسهم من الاكراد القرويين، اما القرويون فيؤكد ريج ان لا اسم مميزاً آخر لهم في تلك الاصقاع من كردستان غير (رعية). وريج يتحدث عن منطقة السليمانية ابان الحكم الباباني.
ان ريج يستشهد بكلام احد ابناء العشائر الذي اخبره ذات مرة ان العشائر ينظرون الى القرويين على انهم خلقوا لخدمتهم.
ويعلق ريج على حالة هؤلاء الكرد القرويين بانهم حالة تعسة تشابه حالة الرقيق الاسود في الهند الغربية الى حد كبير ويذكر بعبارة مؤلمة ان الانكى من ذلك، انه لم يجد في الامكان حمل هؤلاء الاسياد الاكراد على الخجل من قسوتهم على اتباعهم المساكين (62).
ان ما ذهب اليه ريج في اعتقادنا كان واضحاً آنذاك (1820)، أي وجود نزعة استعلائية للكردي القبلي على الكردي القروي، ولكن يبدو لنا ان الحال قد تغير وذلك بسبب استيطان الكثير من القبائل واستقرارها في قرى وتحول العديد من الكرد القبليين المعتمدين على رعي الاغنام والمواشي والارتحال المستمر الى مزارعين مع ممارسة تربية الحيوان.
لقد اندمج سكان القرى الاولين مع الرحل الذين اثروا حياة الاستقرار ولهذا نجد اليوم ان ما من قرية كردية تقريباً الا وهي منتسبة او تتسمى باسم عشيرة كردية.
ومن العشائر التي استأثرت بانتباه ريج عشيرة الجاف، فيذكر ان عشائر الجاف كان يرأسها كيخسروبك آنذاك وتسكن اعالي الجبال وهم من وجهة نظر ريج اشد العشائر بداوة وتختلف لهجتهم اختلافاً كبيراً عن لهجة الاكراد البابانيين أي اكراد السليمانية وابناء هذه العشيرة رجال وسيمو الطلعة شجعان وان مظهرهم بارز يمكن تمييزه بسهولة، وهم كما يذكر ريج آنذاك يؤلفون جماعة خيالة قوامها الفا فارس تقريباً يتبعون البك عندما يدعوهم (77).
وهنا لا بد من الاشارة وفي سياق ما ذهب اليه ريج حول عشائر الجاف، فقد كانت احد اهم الاعمدة العسكرية لامارة بابان، وقد اعتمدت الامارة في الحفاظ على كيانها من خلال هذه القوة المسلحة المقاتلة الى جانب عشائر بشدر والهماوند ولولا هذه العشائر المسلحة المقاتلة لما استطاعت امارة بابان الحفاظ على وجودها ولكن مع الاسف فقد كانت المؤامرات المحيطة بها من جهة فضلاً عن تلك التي كانت تحاك من الداخل امضى على ازالة وتلاشي هذه الامارة.
يقسم ديكسون المجتمع الكردي في العقد الاول من القرن العشرين في محاضرة له القاها عام 1910 إلى ثلاث فئات وهم الرحل وانصاف الرحل والمستقرون، والرحل، يعيشون طوال السنة في الخيام ويرتحلون مع قطعانهم الكبيرة ويقضون الشتاء في سهول الموصل وموسوبوتاميا* اما في الصيف فان ذهابهم إلى المراعي الصيفية (الاعالي) يعد من التقاليد المدونة وان موسم الهجرة يعد من الايام المقلقة لسكان التلول وكثيراً ما لا تخلو الهجرة من اعمال دامية.
ويقصد ديكسون هنا، اصطدام الكرد الرحل بالمزارعين والقرى وكثيراً ما تعبث قطعانهم في الحقول المزروعة التي تنتظر النضج والحصاد. وان بعض هذه العشائر المرتحلة كالهركية والجاف والتين يرد اسمها في كثير من المصادر فضلاً عن عشائر اخرى كانوا من القوة والكثرة بحيث لا يكترثون لاصوات الاحتجاج من المزارعين. وكانت بعض القرى تخشى هذه القبائل (جيش جرار مسلح) فتلجأ إلى دورها وتحكم على نفسها الابواب، ومن الطريف ما يذكره ديكسون هنا، ما كان يقال عن قبائل الجاف عندما كانوا يسمعون اعتراضات المزارعين بسبب اكتساح قطعان القبيلة ما في طريقها من حقول والطلب من الجاف ان يحولوا بين قطعانهم والمزارع والحقول فكانوا يجيبونهم بعبارة (انتم ابعدوا مزارعكم وحقولكم عن طريق قطعاننا).
اما الفئة الثانية فهي فئة انصاف الرحل، وهم يمارسون شيئاً من الزراعة ولكنهم يملكون قطعاناً كبيرة من الماشية ويعيشون في الخيام صيفاً فقط اما في الشتاء فيعيشون في القرى اذ ينحدرون من الاعالي إلى الوديان.
واما الفئة الثالثة، فهي فئة المزارعين الذين يعيشون صيفاً وشتاء في قراهم مستقرين ويربون اغنامهم التي ترعى في المناطق المجاورة وعلى التلول المتاخمة اما في الشتاء فهي أي الاغنام تعيش في دور المزارعين (أي في حظائر تحميها من شدة البرد وتقيها من الحيوانات المفترسة.(
ويرى ديكسون ان هذه الفئات الثلاث تختلف في خصائصها وعاداتها لكنها تشترك في ثلاثة من العوامل وهي الدين واللغة وحب السلاح (361-2).
اما سون فقد كتب في العشائر الكردية ضمن مذكراته مركزاً على الجاف والهماوند، وقد اشرنا الى ما ذكره سون عن التماسك الشديد بين ابناء عشيرة الجاف وولائهم الكبير الى رؤسائهم ويصفهم بولائهم او اعترافهم خلال (200) سنة الى السلطان العثماني سيداً او خليفة وهم بذلك سنة أي على مذهب سلطانهم، وقد احتفظت هذه العشيرة باكثر من شبه استقلال (277).
ويذكر سون في الفترة التي عاشها في كردستان ان عشائر الجاف كانت تحت الاشراف المباشر لمحمود باشا وهو يصحبها شخصياً كل ربيع من قزلرباط حتى بنجوين وساقز* اما اخوه الاكبر عثمان باشا، فعين على ما يبدو من قبل السلطان قائممقاماً على شهرزور .
ومن الجدير بالذكر ان علاقات مصاهرة تمت بين باشوات الجاف القدامى والسلالة الاردلانية وهذه الاسرة كان لها دورها الكبير في خلق كيان كردي وصاهرت الاسرة الحاكمة في فارس وبلورت ادباً وفناً كرديين في مدينة سنه (278).
ولا يمكن تجاهل نبرة الاعجاب في انطباعات سون عن التآزر في عشيرة الجاف وقدرتها على التعايش وبعلاقات متبادلة حسنة.
ويصف سون عشائر الهماوند بالعشيرة الباسلة وهو كما يذكر طار اسمهم بين مواطنيهم وفاقت غزواتهم اوحش الغزوات الجسور ويوصفون بالشجاعة امام المخاطر.
وقد لاحظهم سون في بعض المواقف التي تتطلب خلقاً قتالياً شريفاً فيذكر انهم جد صرحاء وجد شرفاء فقد رفضوا في احد المواقف أي طعام قدم لهم من المسؤول (الافندي) لانهم كانوا يتوقعون بان امراً سيصلهم للانقضاض عليه ولذا لم يتناولوا طعامه ففي ذلك (خيانة الزاد والملح) وهي مسألة ضميرية تحمل قيمة عليا بيد ان سون لا يكتم غضبه وحنقه على الهماوند على الرغم من اعترافه ان الهماوند تعاملوا مع النسوة تعامل (الجنتلمان) عندما هاجموا في الطريق القوات التركية وقد ذكرنا ذلك في موقع آخر من هذا الكتاب. ويصف كيف ان مقاتلي هذه العشيرة تغلبت على الجنود الاتراك بشكل مضحك.
يذكر سون ان هذه العشيرة الكردية كانت قد نزحت من ايران وسكنوا عند قصر شيربن وحاول الفرس استمالتهم وتهدئتهم فمنحوهم وظيفة حماية الحدود لقاء اجور ووافق على ذلك زعيمهم (جوان ميرخان) ولكنه لم يستكن بل زاد من غزواته حتى اضطرت الحكومة الفارسية القاء القبض عليه واعدامه وخلفه ابنه (حمه بك) وطالبت بهم الحكومة التركية ففرح لذلك الفرس خلاصاً منهم ولكن الترك لم يتحملوا اعمالهم فهي عشيرة دأبها القتال واضطرت الدولة العثمانية الى نفي فرع من هذه العشيرة الى شمال افريقية (ولاية طرابلس) ولكنهم عادوا بعد ذلك، وكما يذكر سون انهم كانوا يفخرون بانهم نهبوا العرب وسلبوهم شأنهم في ذلك شأن الاتراك وهم على طريق العودة راجعون لا بل (فارون من النفي) (229). لقد كان الهماوند من الجرأة انهم يتجولون في كركوك بكل حرية بالرغم من ملاحقة القانون لهم.
ويعلل كارلتون كوون (1955) الاستقلالية النسبية التي تتمتع بها القبائل الرحل، فهم يعيشون في اراضٍ اما جبلية او صحراوية او سهول خالية، وهذه مناطق يصعب فيها الامساك بهم، فضلاً عن انهم يربون الخيول وبامكانهم تجنب القوات التأديبية بسرعة ويذكر كوون مثالاً على ذلك تشتت القوات الرومانية الغازية في الصحراء خلال محاولتهم غزو اليمن في حين كان اجداد الكرد يدحرجون الصخور من اعالي الجبال على قوات زينفون فأذاقوهم شر العذاب ولم يستطع ان ينجو جيش زينفون من هذه المناطق الجبلية العصيبة والكرد الاشداء الا بمرارة وبشكل اسطوري.
ويعزو كوون بأس وشكيمة هذه القبائل الى طبيعة الحياة او اسلوب الحياة التي تعيشها القبائل الرحل فهي حياة حركة ونشاط وتمارين عضوية وطاعة وتلاحم مع القيادة أي مع رئيس القبيلة وتوقيت الاعمال القتالية ان اقتضت كما ان الجانب الغذائي يلعب دوره حيث اللحوم الجيدة ومشتقات الحليب تجعل منهم اقوياء غير هيابين حتى من الحيوانات الكاسرة مما يجعلهم بالتأكيد يتفوقون على رتل او لواء من العسكر المؤلف من عدد من المسلحين اسلحة ضعيفة وهم غالباً مجموعة فلاحين مدربين تدريباً سريعاً (25).
التآخي