ان مآثر الثقة التي لاحظها الاجانب في كردستان لدى الزعماء الكرد والشعب لكثيرة وهنا يطيب لنا ان نذكر هذه القصة الحقيقة التي تترجم سمة الثقة عند الشيخ محمود الحفيد رحمه الله مع خصمه، والتي وردت في مذكرات هاملتون.
فعندما انسحب الانكليز من السليمانية قرروا ان يبقى كلارك الضابط السياسي في السليمانية كونه مشاوراً للشيخ محمود ولكن الشيخ محمود بدأ يتعامل مع كلارك كرهينة واستشاط كلارك غضباً في احدى المناقشات مع الشيخ محمود وقال له، اذن فانت تعد مستشارك رهينة واذا ما خيل لك ان القوة الجوية البريطانية ستحجم عن قصف السليمانية لكونك تحتفظ بي اسيراً فانك واهم. وعندما اصر هذا الاسير او الرهينة على الرحيل من السليمانية وافق الشيخ محمود وسأله هل يعود وما موعد عودته فاجابه كلارك… ربما اشهر قليلة متقدماً افواج الليفي والجيش العراقي فاحتوى الشيخ محمود هذا التهديد العلني واجابه، اما هكذا واما عندما تأتي سفيراً بعد ان اتوج ملكاً وفي كلتا الحالتين ستحل ضيفاً عزيزاً في داري الحقيرة وسيكون بيتك ومقتنياتك في حرز حريز طول غيابك فاقفل باب دارك واجلب لي المفتاح واعدك بانك ستجد كل شيء في موضعه كما تركته ومع انك ستكون على رأس الحملة التي ستجرد علي فثق ان رجالي سيخفضون بنادقهم ويتجاوزون عن حياة صديقي الكريم (159).
وفعلاً قصفت السليمانية وتقدمت قوات الليفي واحتلت السليمانية ويعترف كلارك الضابط السياسي، ان الشيخ محمود حافظ على وعده فلم يمس شيئاً من ممتلكاته على الرغم من المنظر البشع الذي كانت عليه السليمانية جراء الحرب يقول، لا تتصور كم دهشت عندما وجدت بيتي الذي سلم من القصف لم يعتبه احد وعندما سلمني الشيخ محمود المفتاح قال لي:
آمل انك ستجد كل شيء كما تركته لم تفقد منه حاجة وكان الامر كذلك فهذه هي اخلاق الشيخ محمود161)).
وقد لاحظ الدكتور روس (1833) عند زيارته لمدينة راوندوز في ايام الامير كور باشا كما جاء في كتاب فريزر ان الابواب لا تغلق في الليل مطلقاً مما يدل على الامان وثقة المواطن بالآخرين(21).
ا شك ان الثقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالصدق والاخلاص واحياناً لا يمكن التمييز بين هذه الاصناف من السمات في سلوك الفرد ويبدو ان هاملتون بسبب تعامله اليومي مع الكرد في مشروع شق طريق اربيل راوندوز قد تجمعت لديه انطباعات واقعية يمكن ان يعول عليها كثيراً بسبب طول الفترة النسبية التي قضاها بينهم اولاً ولان علاقته بهم كانت علاقة عمل مرهق واجور ثانياً لذا اسفرت عن انطباعات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها ليست مجاملة لهؤلاء القوم، فهاملتون معجب بصدق الكرد، عندما يدعي البعض من العمال بعدم تسلمهم لاجورهم ويكتشف صدق ادعائهم وكذلك يبدي اعجابه بطريقة تقسيم كل جماعة من العمال المبلغ المتسلم فقد كان هاملتون يضطر إلى دفع المبلغ لكل الجماعة بسبب عدم وجود كسور من الاوراق المالية فيقول تقوم كل جماعة بتقسيم المبلغ فيما بينهم بكل امانة ولم يجدهم يختلفون قط. وينتهي هاملتون في هذا المجال قائلاً لقد ثبت لي بالبرهان اخلاص هؤلاء وهو يشيد كثيراً بيقظة الحارس الكردي (118).
ويذكر خالفين ان الكاتب الارمني ابو فيان الذي عاش طويلاً بين الكرد، والواسع الاطلاع على نهج حياتهم قد اكد جازماً انه اذا حلف الكردي بكلمة الشرف ان يحفظ اموال الغير او اذا وعد ان يحفظ السر الذي اودع اليه فهو يفضل التضحية بحياته على ان يوافق على نقض الحلف (25).
وعلى الرغم مما ذكر عن الثقة لا بد ان نشير إلى ملاحظة سون ان الناس في مدينة السليمانية عموماً يميلون إلى توجيه الاسئلة للتعرف على هوية الزائر وقد اورد مثالاً على ذلك (42) ولا نعتقد في هذا الميل ما يثير العجب فهو من الامور التي يمكن ان نلحظها في كل المدن لا سيما اذا اخذنا عامل (الزمان) بنظر الاعتبار اي الزمن الذي عاش فيه سون في السليمانية (اوائل القرن العشرين) فهو يصف الكردي بالرجولة والصراحة (142).
التأمل
يميل الكردي إلى التأمل هكذا نجد انطباعات كثرة من الرحالة والمستشرقين وقد ذكر مينورسكي ان للاكراد قابلية خارقة في النفوذ في اعماق كل شيء انهم ينظرون إلى كل وجه باهتمام زائد وشك وفي كل مرة كان يزور فيها الاكراد تحصل عنده انطباعات كأن عشرات الاعين تلتقط صورته (68).
ويعلل مينورسكي (في العقد الثاني من القرن العشرين) هذه الصفة عند الكرد ان الخطر الدائم خلق عند الاكراد عدم الثقة والشجاعة المتناهية والرقابة العالية المتطورة وهذه الاخيرة لا تنفك عن سمة التأمل بذاته قبل اتخاذ القرار.
ان دقة التأمل وعمقه يساعد على حفر الموقف في الذاكرة ومن هنا يأتي مثال مينورسكي الذي يسرده في هذا المجال اذ يقول، عندما صادف ان ذهبت إلى مكان كنت فيه قبل ثلاث سنوات للمرة الاولى سألوني اين هي فرسك القديمة؟ ثم وصفوا بعض صفاتها واشياء اخرى كنت قد نسيتها منذ زمان (68).
الذكـاء
يصف سون في كتابه وفي اكثر من موضع ما لمسه من ذكاء وفطنة في الشعب الكردي فهو يذكر ان، الكرد شعب ذو فطنة (61) كما يذكر في موقع آخر انهم، ذو جمال رجولي وفطنة ومن نمط موفق (186) ويبلغ اعجاب سون اشده عندما يصفهم باذكى الشعوب طراً (62) والحقيقة فان هذه الشهادة شهادة حري بالكرد الاعتزاز بها لانها كما تبدو لنا ليست بمجاملة فسون في غنى عنها وهو لم يذكرها للكرد بل دونها في مذكراته والتي طبعت من بعده ومن يقرأ مذكرات سون يجد في هذه المذكرات المواقف التي ادهشت سون وهي تصرفات او اسئلة او عبارات ذكية لاحظها وسمعها سون في تعايشه مع الكرد.
والكردي كما يذكر باسيل نيكيتين يعد التعقل والذكاء احدى سمات الفخر فهو ليس كما يعتقد البعض، بل هو قروي ومتعقل وذكي ويسوق نيكيتين قصصاً جميلة توضح ذكاء الكردي وفطنته مثل قصة (عيسى) وسواها من القصص (70 – 73).
اما توما بوا فيصف في عشرينيات القرن العشرين الكردي بانه مرح وحاضر البديهة وعاطفي جداً (70).
ان بايندر يعد الذكاء صفة من ثلاث صفات للشعب الكردي فالاكراد في نظره يتصفون بالجمال والقوة والذكاء لكن بايندر كان يتمنى لو ان اسباب المدنية بلغت كردستان وصقلت الكرد لانها حسب تقديره واعجابه بذكائهم سيكونون افضل من جيرانهم الترك والفرس وبايندر كان قد زار كردستان في القرن التاسع عشر (1887) (110)*.
التآخي