الرئيسية » مقالات » رقصة كوردية في حفلة تركية !! …

رقصة كوردية في حفلة تركية !! …

 عندما تتطابق عقارب الساعة عند الثانية عشر ليلا في نهاية يوم31 ديسمبر من كل عام تكون البشرية في تلك اللحظة بالذات قد ودعت عاما إنتهت أيامه. بالتأكيد كان مليئا بالأحداث المفرحة بالنسبة الى الكثيرين، والمؤلمة والحزينة بالنسبة الى آخرين، أو ربما كانت أيامه ال 365 كافية لتضع الكثيرين أمام كل الإختبارات وتجعل من حياتهم لوحة متعددة الألون إبتداء من الأحمر ومرورا بكل الألون وصولا الى الأسود القاتم، بكل ما تحمله تلك الألوان من معاني ودلالات، فيكونوا بذلك قد إختبروا كل أنواع المشاعر والأحاسيس والإنفعالات. وفي نفس اللحظة تنطلق الأجراس معلنة بدأ اليوم الأول من السنة الجديدة، فتبدأ الأفراح وتضاء السماء بالألعاب النارية الجميلة ويتعانق الأهل والأصدقاء والأحبة متمنين لبعضهم البعض أن تكون السنة الجديدة سنة خير وفرح وسعادة. هنا في ألمانيا كما في الكثير من الدول الأوربية أو ربما جميعها يبدأ الناس في التحضير لهذه الليلة المميزة بعد إنتهاء أعياد الميلاد المجيدة {عيد ميلاد السيد المسيح} مباشرة والتي تكون عادة يومي 25 و 26 من نفس الشهر أي قبل إحتفالات رأس السنة بخمسة أيام. الكل يحتفل بهذه المناسبة السعيدة سواء في البيت على مستوى العائلة والأهل والأصدقاء، أو في المناطق العامة كالحجز في قاعات الفنادق أو النوادي والمطاعم. أنا شخصيا ومنذ ست سنوات على إقامتي في ألمانيا إعتدت أن أحتفل بليلة رأس السنة الجديدة مع بعض أصدقائي والبعض من أقاربي هنا في ألمانيا أو أحيانا في هولندا، لكن هذه السنة كان للإحتفال شكل مميز ووقع كبير على نفسي، وكان مبعثا لفرح لم أعهد مثله من قبل، لأنها كانت سهرة كوردية مميزة في حفلة تركية، رقصت فيها كما لم أرقص من قبل. فبالرغم من أني ولأسباب كثيرة سأذكرها في مقال آخر لا أحب مخالطة الأتراك الذين يتواجدون بكثرة هنا في ألمانيا، إلا أن ذلك لايمنع من أن يكون لي بعض الأصدقاء الترك الذين يقل عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة، والذين أرى فيهم صفات إنسانية وتقبل لمبادئ الديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان. منهم عائلة تركية طيبة تعيش في المانيا منذ أكثر من ثلاثين، سنة أكن لهذه العائلة كل الإحترام والتقدير والمحبة، تلقيت دعوة منهم لمشاركتهم العشاء والذهاب معهم الى حفل غنائي ساهر يقيمه فنانون أتراك في إحدى القاعات الخاصة بهم، حاولت الإعتذار كثيرا لكن ونتيجة لإصرار أصدقائي ورغبتهم الملحة والودية لم يكن أمامي أي خيار آخر سوى إحترام رغبتهم وقبول الدعوة …

كان الحضور كلهم أتراك وكان هناك ثلاثة فنانين على المسرح، كل واحد يعزف على آلة موسيقية مختلفة، ويتناوبون الغناء بشكل فردي أو أحيانا جماعي، وكلها باللغة التركية التي لا أفهم منها كلمة واحدة. كانت سهرة مملة بالنسبة لي، لكن كان علي البقاء ولو لساعة واحدة بعد الثانية عشر لأهنئ أصدقائي بالسنة الجديدة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم أتوقعه في هذا المكان، عندما إرتفع صوت جميل مدوي يؤدي بلغة كوردية سليمة أغنية{با كيي خوش باكيي لي لي لو باكيي، باكيي خوشكا شيرا} والى نهاية الأغنية، إلتفت الى المسرح فكان الرجل الشاب الذي يجلس في الوسط هو الذي يغني، لاأستطيع أن أصف شعوري في تلك اللحظة لكني أستطيع القول بأن موجة من الفرح العارم إجتاحت قلبي بل بدأت أرقص في داخلي ولوحت للفنان الشاب بأصبع الإبهام الذي يعني حسنا تفعل، ثم رفعت يدي في الهواء وأنا أرقص جالسا في مكاني مستذكرا كل إمرأة وفتاة كوردية خوشكا شيرا، وقفت وقفة عز وكرامة الى جانب إبنها وأخيها وزوجها الذي قاتل الطغاة من أجل خلاص وحرية وكرامة الكورد وكوردستان، تذكرت كل إمرأة وفتاة كوردية خوشكا شيرا التي فقدت إبنها وأخيها وزوجها الذي واجه صواريخ الأعداء وطائراتهم وسمومهم بصدره ليحمي شعبه الكوردي ويصنع غده المشرق، فقضى شهيدا ممجدا سيبقى خالدا في سجل التأريخ الكوردي وفي ذاكرة شعبه. تذكرت أمنا خنساء الكورد {دايكا حليمة} المرأة الكوردية الخالدة التي راح أبنائها الأربعة شهداء على مذبح حرية الشعب الكوردي، تذكرت عندما قبل الرئيس مسعود بارزاني يدها وقال لها أنا إبنك وكل الكورد أبنائك. كانت دقائق قليلة لكني إستذكرت من خلالها أمورا وأحداثا كثيرة، وعندما إنتهى الفنان من أغنيته صفقت له طويلا وبشكل لفت إنتباه الآخرين. بعد الثانية عشر كان هناك وقت للإستراحة والتهنئة، فجاء ذلك الفنان الكوردي الشاب مباشرة الى الطاولة التي نجلس حولها وجلس معنا فقال لي أنت كوردي {تو كرمانجي} فقلت له نعم أنا كوردي من دهوك في كوردستان العراق المحررة، ففرح كثيرا وقال لي إنتظر سأغني لك ولكوردستان المزيد من الأغاني الكوردية، فقبلته وقبلني قبلة كوردية من القلب وقررت البقاء.
وفعلا عندما إبتدأ الحفل من جديد بعد الإستراحة أوفى الرجل بوعده بل زاد، فغنى الكثير من الأغاني الكوردية خاصة المعبرة والثورية منها، ذكر فيها بالإسم الصريح كوردستان ودهوك وهولير وآمد وكركوك، لكن أروع ما جادت به حنجرته الذهبية كانت أغنية الفنان الكبير شفان به روه ر { واهاتن بيشمركي مه } عندها تذكرت البيشمركة وهم يؤدون الدبكات الكوردية الجميلة على سفوح جبال كوردستان وعلى أنغام المدافع والطلقات، لم أتماك نفسي فنهضت من مكاني وكأني بيشمركة أشارك أولئك الأبطال دبكاتهم وأفراحهم، فرقصت حتى الثمالة ولكن ليس رقصة الديسكو كما يرقص الناس هنا، بل رقصة الرجال كما يرقصها الكورد.
لقد حضرت الكثير من الحفلات الكوردية التي أقيمت في مناسباتنا الوطنية والقومية هنا في ألمانيا، وإلتقطت صورا تذكارية مع الكثير من الفنانين الكورد، لكن جميع تلك الحفلات كانت إعتيادية وكان كل ما يميزها هو فقط طابع الفرح العام، فرح اللقاء والتواجد بأعداد كبيرة كمغتربين كورد، والإحتفال معا بهذه المناسبة أو تلك وعلى مدار السنة، مما يمنحنا الإحساس بالمحبة والتواصل مع الوطن الحبيب كوردستان الذي يعشعش في قلوبنا أينما نكون. لكن الأمر مختلف تماما عندما تكون المناسبة عامة والحضور تركي والفنانون أتراك ومنظموا الإحتفال أيضا أتراك، خاصة في مثل هذه الأيام العصيبة حيث يتعرض وطننا الغالي كوردستان الى إعتداءات سافرة من قبل الحكومة التركية، من خلال توغل قواتها العسكرية الى داخل أراضي أقليم كوردستان بين الحين والآخر، وقيام طائراتها الحربية بقصف القرى الكوردستانية الحدودية الآمنة في عملية خرق واضحة وصريحة لكل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، مما أدت الى إستشهاد بعض المواطنين الكورد الأبرياء، ونزوح الآلاف الى مناطق آمنة بالإضافة الى هدم الكثير من المنازل والمدارس. لذلك شعرت وأنا في تلك الحفلة التركية وما حدث خلالها بإحساس غريب ومثير لم أعرفه من قبل، إمتزجت في قلبي مشاعر الفرح بالواقع الذي أنا فيه، مع الحزن لما يحدث في كوردستان من إعتداءات على أيدي الطغاة الأتراك، فتدفقت في أعماقي سيول من المشاعر الوطنية والقومية الجياشة تجاوزت حدود سيطرتي عليها فأججت مشاعري وهيجتها، ووضعتني في حالة من الكبرياء لم يكن أمامي أية وسيلة لإظهارها سوى الرقص الكوردي على أنغام واهاتن بيشمركي مه.
ربما كان البعض من الحضور لايعرف اللغة التي كان يغني بها ذلك الفنان الشاب، ولايفهم معنى الكلمات، لكن بالتأكيد كان هناك من يعلم بأنه يغني بالكوردية ويتغنى بمدن وتأريخ وبيشمركة كوردستان، ومع ذلك فلم يقاطعه أو يوقفه عن الغناء أحد، بل كان الرقص وكانت الدبكات تشتد عند كل أغنية كوردية، لأن الفنان كان يؤديها بإنفعال وحماسة.
عندما غادرت الحفلة تمنيت لو أن الحكومة التركية تتفهم الحقوق القومية للشعب الكوردي القاطن ضمن أراضيها وتتعامل معه وفق أسس ومبادئ الديمقراطية، وأن تلجأ الى لغة المنطق والحوار وأسلوب التعاون المشترك مع حكومة أقليم كوردستان للتوصل الى إيجاد حلول بناءة ومثمرة للمشاكل والخلافات القائمة، بطريقة حضارية تحافظ على مصالح الطرفين، مما سينتج عنه بلا شك إستقرار الأوضاع الأمنية وإنتشار السلام، وبدء صفحة جديدة من علاقات حسن الجوار المبنية على الإحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
لكن يبقى السؤال المطروح هو هل تتفهم الحكومة التركية هذه اللغة وهل ستعمل بهذه المبادئ ومتى؟

شفق