أ.د.ابراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الاقليمية /جامعة الموصل
لا اعرف السبب الذي منع الكثير من الكتاب والباحثين من الكتابة عن المؤرخ والآثاري البارز المرحوم الأستاذ الدكتور فيصل الوائلي مع انه كان من الذين أسهموا إسهاما فاعلا ليس في مجال التدريس الجامعي وإنما في وضع أسس بنيان المدرسة الاثارية العراقية المعاصرة .
لقد عرفته منذ أن كان يدرسنا مادة التاريخ القديم عندما كنتُ طالبا في قسم التاريخ بكلية التربية / جامعة بغداد مطلع الستينات من القرن الماضي .. وكان آنئذ مديرا للآثار العام ، وقد تعودنا على أن نستمع لمحاضراته بعد انتهاء دوامه الرسمي ، أي بعد الظهر .. وكان رحمه الله ، من الأساتذة البارزين الذين يلقون محاضراتهم ونحن بدورنا نسجل كل كلمة يقولونها .. ولازلت حتى كتابة هذه الأسطر احتفظ بدفترين كبيرين من ذوات آل (100) ورقة ، يتناول الأول محاضراته في تاريخ العراق القديم في حين يضم الثاني محاضراته في تاريخ مصر القديمة ، وتاريخ العبرانيين القديم وتاريخ الرومان وتاريخ فارس .. ويقينا إنني اعتز شديد الاعتزاز بهذه المحاضرات لما تمثله من قيمة علمية لا أجدها في أي مصدر آخر .
كتب صديقنا الأستاذ حميد المطبعي في موسوعته أعلام العراق في القرن العشرين عن الدكتور فيصل الوائلي بضعة اسطر ومما قاله أن الدكتور فيصل الوائلي باحث اثاري ، دكتوراه في الآثار من الولايات المتحدة الأمريكية ولد في النجف الاشرف سنة 1922 وقد ظهرت لديه ميول أدبية وشعرية منذ أن كان تلميذا في المدرسة الثانوية . اسهم في النضال السياسي القومي وهو في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى .. كما اشترك وخطط لمؤتمرات ثقافية واثارية عديدة وخاصة في منتصف الستينات من القرن الماضي ..
رأس تحرير مجلة سومر الاثارية الرائدة وكتب لها افتتاحياتها للمدة من 1963 وحتى 1965 . طبع من كتبه (من أدب العراق القديم) طبعتين في بغداد الأولى سنة 1964 والثانية سنة 1967 . كما أن له كتاب ( آثار العراق ومشاريع الري) طبعه في القاهرة سنة 1965 وله أيضا ( الكاشيون في العراق) ولم يظهر عليه تاريخ النشر .. ذكره الأستاذ المعجمي كور كيس عواد في ( معجم المؤرخين العراقيين) الذي نشره بعدة أجزاء سنة 1969 . وقد قام الوائلي بترجمة ملحمة كالكامش من النص البابلي وقارن الترجمة بثلاث ترجمات في اللغة الإنكليزية وقد ترك هذا النص مخطوطا .. وكانت ترجمة فريدة ورائدة وأصيلة .كما ترجم كتاب( السومريون : تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم) ، تأليف عالم السومريات المعروف صموئيل نوح كر يمر ، وقد طبعته دار غريب للطباعة في القاهرة سنة 1973 .
ومن دراساته المنشورة :
1 . تاريخ العراق القديم في النصوص الآشورية 853 ـ630 ق . م : الذكرى والتاريخ ، ( الكويت ،1978)
2 . منطقة الدلتا في بلاد ما بين النهرين : إعادة النظر في ( دراسة ليس وفالكون) تأليف كيرتس أي لارسين ، وقد نشرته مجلة الآداب والتربية ، الكويت ، العدد (9) ، حزيران 1979 .
في مجلة الأقلام ، والتي صدر عددها الأول في أيلول سنة 1964 من قبل وزارة الثقافة والإرشاد (الثقافة حاليا) ولاتزال تصدر حتى يومنا هذا ، شارك الدكتور فيصل الوائلي خلال العقد الأول من عمرها والممتد من 1964 حتى 1975 في هيئة تحريرها وادارتها مع نخبة من الأساتذة والباحثين أمثال الأستاذ الدكتور احمد مطلوب والأستاذ الدكتور جميل سعيد والأستاذ سعدي يوسف والأستاذ الباحث عامر رشيد السامرائي والأستاذ الموسوعي عبد الحميد العلوجي والدكتور عبد الرحمن خالد القيسي والفنان مدحت الجادر والأستاذ عبد الكريم فرحان والشاعر عبد الوهاب البياتي والقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي والعلامة الدكتور مصطفى جواد وآخرين .. ومما كتبه فيها على سبيل المثال مقالتين مهمتين عن الأدب العراقي القديم ، العدد 1 ، 1964 والعدد 2 ، 1964 وفيهما قدم نماذج من هذا الأدب وقام بتحليلها بعمق ومعرفة تنم عن قدرة عالية جدا في فهم خبايا التاريخ الثقافي العراقي القديم .
كان للدكتور فيصل الوائلي آراء أصيلة في التاريخ القديم وخاصة تاريخ العراق وتاريخ مصر وكثيرا ما كان يقارن بين أحداث هذين التاريخين وتأثيرات تلك الأحداث وانعكاساتها على شخصية الفرد العراقي والفرد المصري .. ومن تلك الآراء التي سمعناها منه مباشرة خلال محاضراته علينا عندما كنا طلابا . إن العلاقة بين العراقي والسلطة كانت تقوم على ( الخوف) بينما العلاقة بين المصري والسلطة كانت تقوم على (الاحترام) .. ولهذا سبب يرجع إلى البيئة والمناخ ، فمناخ العراق عنيف ودجلة والفرات يفيضان في أوقات لا يحتاجها الفلاح وهما يضران الزرع والضرع بينما النيل يفيض بهدوء وفي أوقات يحتاجها الفلاح ومن هنا نشأت عادة تكريم النيل بفتاة جميلة تلقى فيه أيام الفراعنة وبعيد شم النسيم الذي يحتفل به المصريون اليوم .
كان يقول إن التاريخ المصري ارتبط وتأثر إلى حد كبير بطبيعة مصر الجغرافية فمصر تقع في الزاوية الشمالية من القارة الأفريقية وتتصل بالبحر المتوسط شمالا وتمتد على طول البحر الأحمر شرقا ولها قسم صغير يقع في آسيا وهو شبه جزيرة سيناء وكانت متصلة بأرض مصر قبل حفر قناة السويس سنة 1869 . وهذا الموقع مهم من الناحية الاستراتيجية فمصر تسيطر على طرق المواصلات التي تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط ، وقد دفع الموقع الكثير من الغزاة إلى محاولة الاستيلاء على مصر .. وكان الدكتور الوائلي يقول أن العامل الجغرافي المهم لمصر مكن الناس هناك من الحياة والناس هم الذين يصنعون التاريخ وهكذا نجد ارتباط مصر بهذه الظاهرة الجغرافية .. كما أن هذا الموقع في الوقت نفسه وحدود مصر المغلقة أعطت للمصريين منذ العصور القديمة شعورا بالثقة والاطمئنان والاعتزاز بالنفس فإذا نظر المصري غربا فانه لايجد إلا الصحراء أما إذا نظر إلى الشمال والشرق ، فسوف لايجد إلا البحر ، وهذا ما جعل المصريين يعتقدون منذ القدم إن بلدهم مركز الكون .. وإذا ما قارنا ذلك بالعراق فسوف نرى إن حدود العراق مفتوحة وهو دائما عرضة للغزو .. ومن هنا فالعراقي لا يخشى السلطة فحسب بل يخشى الطبيعة ووجد ذلك سبيله إلى قصص أدب العراقيين المتأثر بروح الحزن ، فهو دائما يتلقى الصدمات ويواجه التحديات الخارجية .
بعد أن انتهى الدكتور من تدريسنا تاريخ مصر القديم انتقل ليدرسنا تاريخ سوريا وقال ان سوريا هي الوحدة الجغرافية التي عرفت ببلاد الشام وتاريخ هذه المنطقة معقد ومتشابك وللجغرافية كذلك اثر واضح ، ويقصد بالجغرافية الموقع والمناخ والحدود والتقسيمات الطبيعية ومما قاله إن سوريا تشهد عندما تظهر في المنطقة دولة قوية أو دول قوية صراعا بين هذه القوى فسوريا ((ميدان لالتقاء تلك القوى المختلفة)) ولهذا نتائج مهمة على تاريخها فعلى أرضها مثلا التقت حضارة العراق مع حضارة مصر فكانت سوريا البوتقة التي انصهرت فيها تلك الحضارات ، لهذا فإننا لم نجد في سوريا حضارة سورية أصيلة بالمعنى الضيق ، بل إن حضارتها متأثرة بهذا المزيج ، وقد أصبحت حضارتها تعكس طابع الحضارات المختلفة ، لكن السوريين استطاعوا بسبب ذكائهم وقدراتهم وحذقهم التجاري في أن يصبغوا تلك الحضارات بصبغتهم .. كما أن موقع سوريا القريب من ثلاث قارات مكنها من أن تكون جسرا وحلقة وصل بين القارات أوربا وأفريقيا واسيا .
وقف عند الاموريين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين والعبرانيين والفلسطينيين واثر الفينيقيين في ما اسماه ( تحضير) العالم الغربي .. وهكذا بدا الدكتور الوائلي ، من وجهة نظري ألان ، مؤرخا من الطراز الأول مع انه لم يكن متخصصا بالتاريخ بل بالآثار ..
كان منهج الدكتور الوائلي التاريخي لا يختلف كثيرا عن منهج زملائه المؤرخين العراقيين المعاصرين أمثال عبد العزيز الدوري وصالح احمد العلي وطه باقر وزكي صالح وجعفر خصباك وغيرهم .. فهو يعتمد التهميش والتنصيص والعودة إلى الأصول .. يحلل ويعلل ويفسر ويصل إلى نتائج مهمة دون أن يكون متأثرا برؤية مسبقة أو نظرية جاهزة .. فهو يغوص في الوقائع ليستخلص القواعد التاريخية .
لقد تعرض الدكتور الوائلي للاعتقال مرات عديدة في تاريخه وخاصة في العهد الملكي (1921 ـ1958) ، وتدل الأدبيات التاريخية العراقية المعاصرة انه كان يشارك زملائه من الأساتذة في تقديم مذكرات الاحتجاج والانتقاد للسلطة آنذاك .. وقد سمعت من أستاذي الدكتور فاضل حسين مرات عديدة إشادته بمواقف الدكتور فيصل الوائلي ويمكننا في هذا الصدد أن نشير ، على سبيل المثال لا الحصر إلى عرائض الاحتجاج التي تقدم بها الدكتور فيصل الوائلي و54 من زملائه أساتذة الجامعة في العاشر من تشرين الثاني 1956 احتجاجا على موقف الحكومة العراقية من حوادث السويس في مصر .. وقد فصل مع ثمانية من زملائه من وظائفهم وهم الدكتور جابر عمر والأستاذ عبد الرحمن البزاز والدكتور حسن الدجيلي والدكتور محمد علي البصام والدكتور عباس الصراف والدكتور عبد القادر احمد اليوسف والدكتور عبد الجليل الطاهر والدكتور مصطفى كامل ياسين كما أحيلوا إلى المجلس العرفي وحكم على الآخرين بالنفي والنقل وكان من نتائج موقف نتائج موقف الأساتذة ذلك ، أن تعاظم الوعي الوطني وتشكلت جبهة الاتحاد الوطني سنة 1957 ومهد ذلك كله لسقوط النظام الملكي يوم 14 تموز 1958 .
رحم الله الدكتور فيصل الوائلي وجزاه عنا كل خير فلقد خدم شعبه ووطنه .
المصدر :موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين التي يعدها الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف وتنشرها مجلة علوم انسانية الالكترونية /هولنده ويرأس تحريرها الدكتور حميد الهاشمي www.ulum.nl