الرئيسية » التاريخ » الدور السياسي للنواب الكورد في عهد الملك فيصل الاول (1921-1933)الحلقة (19)

الدور السياسي للنواب الكورد في عهد الملك فيصل الاول (1921-1933)الحلقة (19)

واثناء مناقشة المجلس للائحة “قانون تفتيش الامور المالية لسنة 1928″، في جلسته المنعقدة بتاريخ الثالث والعشرين من تموز من العام نفسه اكد جمال بابان ضرورة الاعتماد على اراء اللجان المختصة التي يشكلها المجلس نفسه لدراسة أية لائحة جديدة تعرض عليه من اجل تشريعها. فيما اكد زميله معروف جياوك اثناء مناقشته لراي ابداه “معلم المالية في مدرسة الحقوق” نائب ديالى حكمت سليمان، اكد امرا في غاية الاهمية، يتعلق “بقاعدة تقسيم الاعمال” بوصفها “قاعدة مهمة في علم المال.
ابدى نواب الكورد الثلاثة المذكورين، ومعهم نائبا الموصل حازم شمدين اغا وهبة الله المفتي احيانا، العديد من الآراء والملاحظات الاخرى التي كانت تستهدف اقامة دولة قانون على اسس صحيحة في العراق ويتراءى للباحث ان الافكار التي طرحها جمال بابان امام مجلس النواب في دورته الانتخابية الثانية هي التي جلبت الانظار اليه بما في ذلك انظار الملك فيصل الاول بوصفه رجل قانون متميزا، مما مهد الطريق امامه بتولي حقيبة وزارة العدلية لاحقا.
ان تاسيس دولة القانون في العراق كان يتطلب اقامة مؤسسات يكون بوسعها الاضطلاع بمهمة تفيد القوانين على جميع الصعد، بما في ذلك ايجاد وتطوير جيش كفوء، كان يعتمد الاستقرار السياسي في البلاد على دوره إلى حد كبير. وفي هذا المجال بز نائب السليمانية محمد امين زكي في تلك المرحلة الحساسة جميع زملائه النواب بغض النظر عن انتمائهم القومي، وموقفهم الوظيفي، الامر الذي نأتي على جانب من تفصيلاته لاحقا. بحكم اهميته اثير موضوع تطوير الجيش منذ الجلسات الاولى للمجلس في دورته الانتخابية الثانية، ففي الجلسة الخامسة للاجتماع غير الاعتيادي المنعقدة بتاريخ الرابع من حزيران 1928 ناقش النواب التجنيد والتطوع في الجيش على نطاق واسع، ومنذ ذلك الحين بدا محمد امين زكي يدلي بدلوه بهذا الموضوع، مستندا في ذلك على دراسته ومهمته السابقة بوصفه ضابط ركن في الجيش العثماني، احتك بالمؤسسة العسكرية الالمانية بصورة مباشرة في ذلك الحين.
ودخل جمال بابان بدوره في نقاش مباشر مع شخص نوري السعيد وزير الدفاع في وزارة عبد المحسن السعدون الثالثة حول الموضوع نفسه. اما معروف جياوك فانه اشترك ايضا، وباسلوبه الخاص، في مناقشة موضوع الجيش وتطويره مرارا، فانه اراد ان يكون “للعراق من رواندوز إلى الفاو جيش وطني” يكون “في قلبه حسبات وطنية” حتى يتمكن العراقيون “من اخذ الاستقلال” كما ورد في مداخلة مطولة له في جلسة يوم السادس من ايلول 1928، وقد قاطعه زملاؤه بالتصفيق اكثر من مرة، ولا يخفى ان عبارة “اخذ الاستقلال في مداخلته تلك تنطوي على مغزى سياسي كبير يتوافق مع طروحات اكثر القوى الديمقراطية التي كانت تؤمن بان الاستقلال امر لا يمنح من قبل سلطات الانتداب البريطاني، بل يؤخذ بفضل نضال العراقيين انفسهم.
وهنا ينبغي ان نشير إلى ان النواب الكورد لم يتمكنوا، لاكثر من سبب معروف، ان يعبروا عن تحفظ الشعب الكوردي على تحويل الجيش إلى اداة لقمع طموحاتهم القومية المشروعة، باستثناء حالات نادرة اشار معروف جياوك فيها إلى ذلك ضمنا في بعض مداخلاته البرلمانية، يتحول الامر فيما بعد إلى صرخة تجسدت في ثنايا كتابه الذي يحمل عنوان “مأساة بارزان المظلومة”.
كان تحقيق جميع هذه الطموحات يعتمد إلى حد كبير على توفر قدر من الديمقراطية وحرية التعبير على الرأي، الموضوع الذي حظي باهتمام عدد قليل من ابرز نواب المجلس في دورته الانتخابية الثانية، فلقد اثار نواب المعارضة في جلسات مختلفة من جلساتها “العديد من القضايا والاستفسارات والمقترحات التي كانت تخص الحريات العامة بصورة، او باخرى” في محاولة فهم “الكشف عن خروقات السلطة التنفيذية في ميدانها”. وابدى معروف جياوك في هذا المجال ما يمكن وصفه بافضل ارائه التي وردت في مداخلاته البرلمانية طوال جلسات المجلس في دورته الجديدة. وللأستشهاد نقتبس هنا بعض الفقرات من مداخلتين له في جلستين من جلسات الاجتماع غير الاعتيادي للمجلس الذي هو الاجتماع الاول لدورته الثانية. ففي الجلسة السابعة والثلاثين من الاجتماع المذكور، المنعقدة بتاريخ الثالث من ايلول 1928 قال جياوك الكوردي بهذا الخصوص ما نصه.
“لا يخفى على المجلس العالي ان المطبوعات يجب ان تكون حرة… ليس في العراق “وحده” بل في اكثر الاماكن المطبوعات غير حرة مع الاسف، وان قالوا وهتفوا لحريتها قلت ان المطبوعات يلزم ان تكون حرة… ويجب ان تكون لها بعض التسهيلات لانتشارها”
ودعا بالمناسبة إلى الغاء رسوم النقل البريدي المفروضة على نقل الصحف داخل العراق.
وفي الجلسة التاسعة والاربعين للاجتماع غير الاعتيادي للمجلس، المنعقدة بتاريخ الخامس والعشرين من ايلول العام نفسه عالج جياوك الكوردي الموضوع نفسه بعمق اكبر، فقد قال بصدده ما نصه.
“النظريات الحقوقية تدفعنا إلى ان نقول يجب ان تكون المطبوعات في حرية تامة لانها لسان الامة، وهي الواسطة بين الامة والحكومة، ومن جهة تنبه الامة على اعمال الحكومة ومن جهة اخرى تنبه الحكومة على امور ومسائل يقتضي اجراؤها إلى الامة والى البلاد. هذه نظرية لا يمكن ردها ابدا لان علماء الحقوق اجمع قرروا هذا. هناك مسائل اخرى يمكن لبعض الدول ان تتمسك بها، مثلا في زمن الحرب، او في حالة عصيان، او غائلة عظيمة الحاصل، او خروج او حركة، يمكن للحكومة ان تتوسل بمسائل قانونية لاجل رفع الثورات، وتطمين الامن، وتسكين الاهلين، ولكن بلادنا، والحمدلله، في امن تام واطمئنان وسلام..”
ويسجل لمعروف جياوك ايضا موقفه من “دائرة التحقيقات الجنائية” التي تحولت إلى عبء ثقيل على كاهل الحركة الوطنية العراقية منذ ذلك الحين. وجه جياوك في اكثر من مداخلة برلمانية له اثناء انعقاد الاجتماع غير الاعتيادي لمجلس النواب الجديد، انتقادات لاذعة إلى المديرية المذكورة التي قال عنها صراحة انها “دائرة تجسس، ودائرة تبصبص” فطالب بالغائها بجرأة فريدة لزمانها ومكانها، وعلى اساس كونها “دائرة تشغيل لمنافع الغير لا لمنافع الحكومة العراقية”، يقتضي تأسيس “دائرة مجردة عن التجسس”، وان تقوم بواجباتها التي هي واجبات كل عراقي ليس إلا”. ومما يذكر ان النائب المعارض محمود رامز اشار صراحة إلى اسم زميله معروف جياوك واكد على مداخلته بصورة خاصة في تعقيب له حول الموضوع.
تنطوي المداخلة الاخيرة لمعروف جياوك، في الوقت نفسه على دعوى صريحة لتعريق دوائر الدولة العراقية، وكما يبدو من مداخلات له انه كان ضد استخدام الاجانب في الدوائر تلك، بما في ذلك الهنود الذين كان البريطانيون يعتمدون عليهم إلى حد كبير في إدارة البلاد على صعد مختلفة.
كانت النقطة الاخيرة، وشبيهاتها تمس علاقات العراق الخارجية في تلك المرحلة بصورة او باخرى، وهي علاقات اتسمت بطابع خاص في مرحلة التكون وفي ظل الانتداب البريطاني، مما حول تحقيق الاستقلال السياسي الناجز للبلاد إلى الهاجس الاول للنواب دون استثناء، الامر الذي كان يتطلب العمل الجاد من اجل تشريع كل ما من شانه ان يساعد على دخول العراق في عصبة الامم. وكان النواب، بمن فيهم النواب الكورد، يرنون في الوقت نفسه إلى اقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار، ومع تلك الدول التي تربطها بالعراق مصالح اقتصادية وسياسية تستوجب المراعاة.
وفي هذا المنطلق تحمس النواب في جميع اجتماعات المجلس في دورته الانتخابية الثانية لموضوع انضمام العراق إلى الاتفاقيات الدولية بوصف ذلك مؤشرا لما يتمتع به من استقلال ومكانة دولية، مما ينطبق على النواب الكورد دون استثناء. فعلى سبيل المثال عندما عرضت “لائحة قانون انضمام دولة العراق إلى بروتوكول في امور التحكيم الموقع عليه في جنيف في 24 ايلول 1923″، وكذلك “لائحة قانون انضمام دولة العراق إلى الاتفاقية والنظام بشأن الاصول الدولية للموانئ البحرية وبروتوكول التوقيع عليها في جنيف في 9 كانون الاول 1923” على المجلس الثاني في اجتماعه غير الاعتيادي صوت جميع النواب الكورد الحاضرون إلى جانب تشريعهما، وهم كل من اسماعيل الرواندوزي ومحمد امين زكي ومعروف جياوك وجمال بابان وداود الحيدري وسيف الله خندان وصبري علي اغا وعبدالله المفتي عبيد الله البريفكاني ومحمد سعيد الحاج حسين وهبة الله المفتي بالنسبة للائحة الاولى التي غاب عن حضور جلسة مناقشتها في الخامس والعشرين من حزيران 1928 من النواب الكورد فقط نائبا الموصل وحازم شمدين اغا ونائب كركوك محمد الجاف من اصل اثنين وعشرين نائبا لم يحضروا جلسة التصويت تلك ينطبق القول نفسه على الموقف من اللائحة الثانية التي جرى التصويت عليها في جلسة يوم التاسع اب 1928 التي غاب عنها هذه المرة ثلاثة من النواب الكورد وهم كل من اسماعيل الرواندوزي ومعروف جياوك وحازم شمدين اغا، مع العلم بلغ عدد النواب الغائبين في الجلسة المذكورة اربعة وعشرين نائبا.
جلبت علاقات العراق بدول الجوار انظار النواب الكورد ايضا، خصوصا وعلاقته بايران، وتركيا التي كانت تمس الكورد على اكثر من صعيد بصورة مباشرة. شهدت علاقات العراق بتركيا تحسنا ملموسا بعد حل “مشكلة الموصل” التي كان للنواب الكورد دورهم المتميز في مناقشة مختلف جوانبها كما لاحظنا ذلك في الفصلين السابقين من الرسالة اما العلاقات العراقية-الايرانية فانها اتخذت منحى اخر تماما نجم عن التوتر الذي ساد العلاقات بين البلدين طوال العقد الثالث من القرن الماضي تقريبا، وكانت ايران تتحمل وزر ذلك التوتر فعلا “لان العراق لم يكن في وضع يسمح له بخلق المشكلات لغيره، بينما كانت ايران هي التي ترفض الاعتراف بالعراق رسميا، وتضغط على المزارعين في منطقة مندلي الحدودية بقطع المياه عنهم، وتتدخل في حالات اخرى في شؤون العراق الداخلية”.
لهذه الاسباب اثير موضوع العلاقات العراقية-الايرانية داخل مجلس النواب اكثر من أي موضوع اخر يخص علاقات العراق مع دول الجوار اثناء اجتماعات المجلس في دورته الانتخابية الثانية. ولقد اثارت مشكلة قطع المياه عن منطقة مندلي قلقا مشروعا لدى الراي العام العراقي، خصوصا وان ايران كانت تتجاوز صراحة على حقوق العراق المشروعة التي نص عليها بروتوكول العام 1913 بتحديد نصف مياه كنكير للجانب العراقي.
قدم عدد من النواب، بضمنهم مجموعة من النواب الكورد، تقريرا مفصلا حول الموضوع الاخير إلى المجلس في اجتماعه غير الاعتيادي بتاريخ التاسع من تموز سنة 1928 قرأه نيابة عنهم نائب ديالى عز الدين النقيب، مما اثار نقاشا حاميا داخل المجلس اشترك فيه النائبان محمد امين زكي ومعروف جياوك تحدث الاول منهما بوصفه احد الموقعين على التقرير، وقدم بعض التوضيحات الدقيقة، وصحح العديد من المعلومات التي وردت في مداخلات النواب الاخرين مستندا على اختياراته السابقة في وزارة الاشغال، واقترح على الحكومة ان “تقوم بتجربة اساسية” في المنطقة بحفر الابار الارتوازية والاستفادة “من الاختصاصيين في حفر الكهاريز الموجودة في الشمال” بتطبيق التجربة نفسها في منطقة مندلي مما يضمن لاهلها الحصول على الماء الكافي كما اكد.
اما معروف جياوك فأكد في مداخلته على ضرورة ان تقترن الاقوال بالافعال لايجاد مخرج واقعي للازمة في ضوء مسألتين احداهما حقوقية والاخرى عملية كما قال واضاف: “اما المسالة الحقوقية فكل واحد منا يعلم ان المياه المشتركة بين الدولتين المتجاورتين، والمنابع المشتركة بين حكومتي البلدين ينظر فيها إلى حقوق الدول، وليس للحكومة المجاورة ان تمنع، او تسد المياه التي تجري إلى الحكومة الثانية، وهذه مسالة خارجية تعود إلى وزير الخارجية ووزير الداخلية”. اما بالنسبة للمسألة العلمية فانه ايد بدوره نقل تجربة الكهاريز إلى المنطقة، اذ يوجد “في اربيل اساتذة متخصصون في حفر الكهاريز، ويمكن للحكومة ان تجلب بعض الاشخاص من هناك وتعمل الكهاريز في مدة وجيزة، وبمبالغ قليلة وتخلص اهالي مندلي من العطش”.
على القرار نفسه اشترك عدد من النواب الكورد في المناقشة التي دارت حول موضوع تجارة الترانسيت عبر الاراضي العراقية الى ايران، والتي تحولت إلى احد اهم اعمدة تجارة ايران الخارجية خصوصا منذ ان ااندمجت المنطقة بالاسواق الرأسمالية العالمية بقوة وكانت تجارة الترانسيت هذه تمس المنطقة الكوردية بصورة مباشرة من خلال طريقي خانقين-كرمشاه واربيل-راوندوز-رايات، او ما يعرف بطريق هاملتن عادة.
وتركزت مداخلات النواب الكورد بصدد موضوع تجارة الترانسيت على امور حيوية، كانوا يستهدفون منها حماية العراقيين وميزانية الدولة بصورة خاصة من مناورات بعض الجهات المعنية، مما يبدو واضحا في ثنايا مداخلة لمعروف جياوك اثناء انعقاد الجلسة الثانية عشرة للمجلس في اجتماعه غير الاعتيادي، بتاريخ السادس عشر من تموز سنة 1928 .
تعد بداية الاجتماع الاعتيادي الاول لمجلس النواب الجديد الاول من تشرين الثاني 1928 نقطة ضوء مهمة في دور النواب الكورد في عهد الملك فيصل الاول، الموضوع الذي يستوجب بعض التوقف عنده. فبعد القاء خطاب العرش في جلسة ذلك اليوم تم انتخاب عبد العزيز القصاب رئيساً للمجلس ومحمد امين زكي نائبا اول للرئيس.
ومما يذكر في هذا الخصوص ان نائب اربيل داود الحيدري كان واحدا من ثلاثة نواب عهد اليه امر الاشراف على تصنيف الاراء اثناء الاقتراح على انتخاب رئيس المجلس، اما الاثنان الاخران فكانا النائبين حمدي الباجه جي ومنشد الحبيب، فيما عهد إلى محمد امين زكي امر فتح صندوق الاقتراع اثناء انتخاب الرئيس “فتبينت خلوه من كل شيء، ثم نودي على النواب بحسب ترتيب حروف الهجاء والقى كل منهم ورقة في الصندوق بحضوره”
. رشح ستة نواب انفسهم لاشغال موقع نائب الرئيس الاول للمجلس اثناء انعقاد اجتماعه الاعتيادي الاول، وقد نال محمد امين زكي بنتيجة الانتخاب واحدا وستين صوتا في ما نال اسماعيل الصفار ثلاثة اصوات، وكل من جمال بابان ومحمد علي قيردار وعبد العباس الفرهود واحمد الداود رأي واحد فقط.
ومما يذكر ايضا ان صحيفة “زيان” كرست مقالة افتتاحية مطولة عن انتخاب عبد العزيز القصاب رئيسا للمجلس في اجتماعه الاعتيادي الاول من دورته الانتخابية الثانية، ومحمد امين زكي نائبا اول له، اثنت فيها كثيرا على الرجلين. ومن الضروري ان نشير كذلك إلى ان عبد العزيز القصاب كان على علاقة طيبة بالعديد من الشخصيات الكوردية المعروفة، وبعد انتهاء عطلة المجلس بعد اجتماعه غير الاعتيادي الاول زار بنفسه عددا من المدن الكوردية، بما فيها كركوك والسليمانية، وقد قضى في الاخيرة وحدها خمسة ايام في تشرين الاول 1928، حيث استقبل بحفاوة بالغة والتقى العديد من المسؤولين ووجوه المدينة، وقام بزيارة المدارس والمستشفى والسجن والبلدية ومطبعتها التي كانت تطبع جريدة “زيان” وغيرها.