لا يختلف اثنان في العالم بان عراق وادي الرافدين، عراق الحضارات والتاريخ الذي يمتد الى اكثر من6000 عام هو ليس عراق القتل والعنف والدم، الصورة السوداوية المعروضة على شاشات التلفاز في العالم وكلنا ثقة بان الدهشة ستنتابكم وتتساءلون بعدها لماذا وصل العراق الى هذه المرحلة اذن؟ فلابد من القاء نظرة تاريخية على بلاد الرافدين وارض السواد وتصفح التاريخ البعيد والقريب لمعرفة الحاضر.
فقبل اكثر من ثلاثة الاف وخمسمائة سنة سن الملك العادل حمورابي اول قانون للمساواة والعدالة بين البشر واحقاق الحق وانصاف الناس في الحياة الاجتماعية العامة، ففي بلاد وادي الرافدين تم اختراع العجلات وفق مقاييس هندسية، فاستخدمت العجلات لاحقاً في النقل والزراعة والعراقيون وضعوا اسس فن العمارة واساليب الري واسسوا الكتابة منذ العهود السومرية والاكدية ونشروا الفنون والحضارة و الوعي الانساني في العهود البابلية والاشورية, واقدم خارطة رسمت للعالم كان في العراق اذ رسمت قبل اربعة الاف عام ووضعت على لوح من الأجر لتصوير مناطق فتوحات الملك الاكدي سرجون(2300) قبل الميلاد, وكان العالم كله في نظر الملوك الاكديون عبارة عن بلاد بابل وبلاد اشور وبلاد الجبال(الشمال) والاهوار في الجنوب, واللوح الاصلي محفوظ في خزانة المتحف البريطاني حاليا.
وبعد مجيء الإسلام قبل اكثر من الف واربعمائة عام تاسست مدارس العلم والثقافة والمعرفة والطب والفلك والجغرافية والهندسة المعمارية في مدن عديدة من العراق، في بغداد والبصرة والكوفة واشرقت الحضارة الى الشرق والغرب، ففي العراق أضرحة مهمة للمسلمين يزورها ملايين المسلمين في العالم سنوياً وتقع في كل من مناطق النجف وكربلاء في الوسط وسامراء شمال بغداد، ومنذ ذلك التاريخ تعايش العراقيون معاً بسلام ووئام في وادي الرافدين ونتيجة لهذا التطور والعمران تعرضت بلادي الى غزوات اجنبية متكررة من قبل الفرس والمغول والتتر والعثمانيين وقبلهم إلى زحف إسكندر المقدوني محاولين تدمير هذه الحضارة، فالدولة الايرانية الصفوية التي استخدمت وحرفت المذهب الشيعي وذلك في بداية القرن الخامس عشر الميلادي لاغراض سياسية وتوسعية حاولت التوسع خارج حدود بلاد فارس وحاولت منذ ذلك التاريخ استغلال كل الفرص للهيمنة على العراق بحجة الدفاع زيفاً عن المسلمين الشيعة وإدارت الأضرحة المقدسة عند الشيعة في بغداد وجنوب ووسط العراق وقامت بقتل الالاف من المسلمين السنة وهدمت ضريح الامام الاعظم ابا حنيفة ومرقد الشيخ الجليل عبد القادر الكيلاني في بغداد ومساجد اخرى لاهل السنة في فترات مختلفة تحت حجج واهية ، من جهة اخرى اقدمت الامبراطورية العثمانية التي اعتبرت نفسها حامية المسلمين السنة في العالم الاسلامي قد احتلت العراق لاكثر من اربعة قرون وقتلت ولمرات عديدة مئات الالاف من العراقيين المسلمين الشيعة بحجة الدفاع عن المسلمين السنة وقاموا لمرات عديدة بهدم أضرحة أئمة الشيعة في بغداد وكربلاء والنجف الاشرف وسامراء ومنذ تلك الحقبة الزمنية المظلمة من تاريخ العراق بدأت القوى الخارجية تغذي الصراعات العراقية الداخلية.
من هذا كله نستنتج بان اكثر الدول التي اضرت بالعراق منذ خمسة قرون مضت هي الدولتين الامبراطوريتين ـ الجارتين ايران الفارسية وتركيا العثمانية اللتين لعبتا، وعلى مر التاريخ، الدور الاساسي في تاجيج الصراعات الطائفية دون أي اعتبار للعراقيين وبالتالي وجد العراقيون انفسهم في دوامة من الصراعات الطائفية رغماً عنهم والتي كانت بعيدة كل البعد عن تفكيرهم وموروثهم التاريخي واسلوب وانماط حياتهم.
واستمر هذا الحال لحين دخول البريطانيين إلى العراق في عام 1917 اثناء قيام الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية وتمزق النسيج الامبراطوري الهرم بشكل متسارع وبالتالي خرج العراق من نفوذ الامبراطورية العثمانية وبدءت اللبنات الاولى لتاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921(ان العراق يعتبر اول دولة مستقلة في غرب اسيا) ومن مؤسسي عصبة الامم.
نود هنا ان نوضح لكم التشكيلة الفسيفسائية التي يتكون منها العراق الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 27 مليون نسمة وبمساحة تزيد عن 445 الف كم مربع ويتكون من قوميتين رئيسيتين:
اولاً: العرب وهم حوالي 75% من سكان العراق ويسكنون وسط وغرب وجنوب وشمال غرب العراق منقسمين ما بين شيعة الذين يشكلون 75% منهم والسنة حوالي 25%.
ثانياً: الكرد وهم ثان اكبر قومية في العراق اذ يشكلون حوالي 22% من سكان العراق الاصليين ويسكنون المحافظات الشمالية من العراق منذ القدم وينتمي 90% منهم الى المذهب السني والبقية هم من الكرد الشيعة و الشبك و الكاكائية ( العلوية )، بالاضافة الى وجود الكرد الايزدية و عدد من الكرد المسيحيين واليهود الذين سكنوا المنطقة منذ قرون عديدة.
والكرد لهم تاريخ طويل يمتد الى الالاف السنين وقد كانوا دوماً شعباً مسالماً الا ان منطقتهم كردستان كانت دوماً مسرحاً للقتال الدامي بين جيشي الامبراطوريتين العثمانية والفارسية ولاكثر من اربع قرون فحل الخراب في قرى وجبال كردستان مرات عديدة وعلى مر التاريخ وسحقت امارات كردية عديدة نتيجة تناقص في مصالح وستراتيجيات الهيمنة للامبراطوريتين المتصارعتين.
ثالثاً: قوميات وطوائف اخرى وهي:
1ـ التركمان :وعددهم يقارب نصف مليون نسمة منقسمين ما بين المذهبين الاسلاميين الشيعي والسني ويسكنون مركز كركوك وبغداد وتلعفر في الموصل و دوز جنوب كركوك والتون كوبري جنوب اربيل وخانقين شرق بغداد ومما تجدر الاشارة اليه الى ان التركمان في العراق هم عبارة عن قبائل زحفت الى العراق من اسيا الوسطى في بداية القرن الحادي عشر الميلادي وسكنت بلاد الرافدين بامان وسلام واصبحت مكوناً رئيسياً من مكونات العراق وحافظوا على التراث الاسلامي وساهموا في بناء حضارة العراق .
2ـ الاشوريين و الكلدان والارمن وهم السكان الاصليون في البلاد الذين اعتنقوا بالديانة المسيحية ويشكلون 6% من سكان العراق حالياً ونتيجة العنف الطائفي تشرد اكثر من نصفهم في خارج العراق والبقية متوزعين بين كردستان والموصل وبغداد.
3ـ الايزيديون : والايزيدية ديانة سماوية قديمة تسامحية سلمية غير تبشيرية أي لا يسعون الى كسب الاخرين الى دينهم، اتباعها يسكنون شمال العراق ( كردستان والموصل) وسوريا وكردستان تركيا وارمينيا واذربيجان وروسيا وكازخستان والمانيا حديثاً، ويقدر عدد الايزيدين في العالم بحسب ارقام UNHCR حوالي 800 الف نسمة يعيش 550 الف منهم في العراق ويتمركزون في قضاء سنجار في الموصل حيث يوجد معبد ( لالش) الذي يعد من اقدس الاماكن لدى الايزديين وقضاء شيخان في محافظة دهوك (50) كم شمال الموصل وناحيتي بعشيقة والقوش وزمار وقرى المنطقة وقد تعرضوا الى القتل والابادة على يد المسلمين المتشددين عبر التاريخ.
هذا الفسيفساء و هذا النسيج الاجتماعي ـ التاريخي المتماسك غير قابل للتمزق والتبعثر وما يجري في العراق حالياً من حروب طائفية ونزعات تكفيرية وقتل عشوائي هو من صنع الاخرين وتفكير الاخرين بالتعاون مع عراقيين لا يؤمنون بوحدة الوطن ولا يستسيغون التعايش والتنوع المذهبي والقومي… وللتقرب من موضوع بحثنا نورد الاساسيات التالية:
1ـ ضحايا الحروب والنزاعات التي تحدث في اماكن كثيرة من العالم لا تقتصر فقط على الخسائر المادية والبشرية من القتلى والجرحى التي تسببها هذه الحروب وانما هناك وجه اخر لهذه الحروب والصراعات تتمثل في المعاناة والصراع مع الحياة في اماكن ومواطن جديدة يقوم بها الاشخاص الذين يطلق عليهم تسمية ( اللاجئين) او النازحين الهاربين من مناطق التوتر والنزاعات والحروب، مشكلة واحدة وحلول متعددة تختلف باختلاف الطرف الذي يطرح هذه الحلول التي توضع اساساً وفق مصالح وظروف لا تاخذ بنظر الاعتبار الا مصلحة الطرف الذي يطرحها بعيداً عن مصلحة صاحب المشكلة الحقيقي( اللاجيء ). اللاجئون والمهاجرون والنازحون العراقيون يمثلون صورة حية وناطقة لكل الصور التي تمثلها هذه المشكلة التي لم تعد مشكلة تخص دولة او شعباً ما بقدر ما اصبحت مشكلة دولية تهم المجتمع الدولي باسره.
2ـ وحتى اليوم لا ينظر العراقيون الى ما يحدث في بلادهم على انه حرب اهلية او على انها حرب بين الجار وجاره، بل يعتبرون ان الوضع ناجم عن اعمال وتصرفات مجرمين من انصار القاعدة وبقايا مخابرات وازلام صدام حسين والمجرمين المحترفين الذين امتهنوا قتل العراقيين الشيعة والسنة والكرد والمسيحيين والآيزيديين لثلاث عقود خلت وذلك، لان صدام وازلامه لم يميزوا بين طائفة واخرى، فالمتطرفين الطائفيين و التكفيرين الموالين لابن لادن من كلا الجانين الشيعة والسنة، يهددون حياة المدنيين الامنة بالمقابل تحاول اعداد متزايدة من الناس البسطاء حماية اصدقائهم وجيرانهم من تهديدات هؤلاء المجرمين. فمنظمة القاعدة تهدد العالم المتمدن بأسره، فهي ضربت مدريد ولندن ونيويورك وأفغانستان والسعودية والأردن وقتلت الأبرياء بحجة الدفاع عن الإسلام ومحاربة أمريكا وإسرائيل زيفاً.
3ـ ان لدول الجوار الدور الاساسي فيما يجري في العراق عن طريق تدخلاتها المستمرة في شؤونه الداخلية وتمويلها للمجموعات الارهابية المسلحة والتكفيرية الموالية لابن لادن والطائفية التي تدعي زيفاً دفاعها عن الشيعة التي استباحت الدم العراقي وقامت بقتل العراقيين الابرياء تحت حجج واهية، بالاضافة الى قيام بقايا ازلام صدام حسين بتمويل هذه الجماعات بالمال والسلاح من مليارات الدولارات التي سرقوها اثناء هربهم الى الخارج لتخريب البنى التحتية وايقاف عجلة الحياة ونشر الرعب بعد ان فقدوا امتيازاتهم التي كانوا يتمتعون بها في ظل النظام السابق ، املين من وراء ذلك اشعال حرب اهلية في العراق.
تسعى بعض المؤسسات الرسمية في دول الجوار من وراء تمويلها تلك الجماعات الارهابية الى وقف التطورات الاجتماعية الديمقراطية ووقف عجلة التطور في العراق الذي يشهد ولاول مرة في التاريخ ديمقراطية حقيقية لا ديمقراطية مزيفة وكذلك خوفاً من تطلع شعوبها الى تلك الديمقراطية الفتية التي يشهدها العراق حالياً محاولين وبكل السبل تدمير العراق الديمقراطي الفيدرالي لانهم يعلمون جيداً ان العراق يمتلك من الموارد البشرية والمادية والمائية والنفطية بشكل خاص ما يؤهله للعب دور اساسي في منطقة الشرق الاوسط ، وهذا ما لا تتمناه العديد من دول الجوار.
4ـ ان نهج القاعدة في العراق هو قتل العراقيين جميعاُ دون استثناء فهم يقتلون الشيعة بحجة كونهم ( روافض) خارجين عن اصول الاسلام الصحيحة ويقتلون الكرد متهميهم بالخيانة وعملاء للامريكان والغرب بالرغم من انهم من المسلمين السنة ويقتلون الالاف من علماء ورؤوساء العشائر العرب السنة وافراد الجيش والشرطة العرب السنة بحجة تعاملهم مع الحكومة المنتخبة والبرلمان والمؤسسات والادارات العراقية .
5ـ لقد وصل الحد في العراق الى قيام بعض التنظيمات التي ترفع راية سنة العراق زيفاً وهي جهات مدعومة من الخارج بقتل العديد من الشيعة وهدم مساجدهم واعلنوا عن مسؤوليتهم في هدم اضرحة الشيعة ومقابل ذلك قيام المنظمات الشيعية المتطرفة بقتل السنة وحرق مساجدهم وقد وصل الوضع ذروته بعد احداث تفجير قبة مراقد احدى ائمة الشيعة في شباط 2006 في مدينة سامراء.
واستمر الوضع بالتدهور حيث تغلغل العنف في جميع انحاء المجتمع العراقي، اذ اضطر العديد من الاشخاص الانتماء الى جماعات متطرفة بسبب عدم توفر أي خيار اخر في ظل حكومة مركزية ضعيفة، اما ان يتعاونوا معها او يعتبروا ضدها واذا اختاروا عدم التعاون فلا حل امامهم سوى الفرار او مواجهة الموت في اغلب الاحيان وحال انضمام احد افراد العائلة الى احدى الجماعات المتطرفة تقع كل العائلة والاقارب في فخ هذه الجماعة.
6ـ اما بالنسبة للمتشددين التكفريين فان جوهر الوضع هي الطائفية حيث ينظرون الى العراق ( الديمقراطي الفيدرالي الجديد) على انه من صنع المصالح الامريكيةـ البريطانيةـ الاسرائلية والايرانية ، وهذا مكان لا يمكن للسنة الانتماء له، بينما اعلن مسؤول هيئة علماء المسلمين في العراق ـ المؤيدة للقاعدة ـ ان ( الخطة الفيدرالية الجنوبية تسمح للتحالف السياسي الشيعي بالسيطرة على النفط في الجنوب وتترك العرب السنة عزل وفقراء) ان مثل هذه التصريحات النارية الباطلة و المناوئة للدستور العراقي وللبرلمان العراقي المنتخب ديمقراطياً تؤدي الى المزيد من الشك وسوء النية التي تحل محل التفكير والحوار البناء نتيجة للعنف الشديد في العراق ويشكل العنف واستمراره مبرراً لتواجد واستمرار هذه الفئات المتشددة ، فهو السبب الذي تعتمد عليه الجماعات المتطرفة التكفيرية لتبرير نشاطاتها المدعومة مالياً ولوجيستياً من بقايا النظام السابق وبعض المؤسسات الدينية التكفيرية في الدول العربية الخليجية والمراكز الإسلامية في المنطقة.
7ـ لعبت عوامل اخرى دور في تعقيد الوضع اكثر في العراق وذلك من خلال ارتكاب القوات الامريكية وشركات الحماية الامنية الأجنبية العديد من الأخطاء الجسيمة وذلك بقصف المواطنين الامنيين وهدم البيوت بحجة البحث عن الإرهابيين دون تحقيق او تدقيق واعتقال الالاف من العراقيين دون تحقيق كما جرى في الفلوجة والرمادي ومدينة الصدر و ديالى وجنوب بغداد والدورة ، مما ادى الى نفور شعبي عام ضد الامريكان رغم تضحياتهم الجسيمة في عملية تحريرهم للشعب العراقي من الدكتاتورية وفقدان أكثر من ثلاثة ألاف جندي امريكي وباقي القوات المتعددة الجنسيات التي تشكلت بموجب قرارات الامم المتحدة.
8ـ إن عدم الالتزام ببنود قرار مجلس الامن رقم 1546 في 8 حزيران 2004 حول عمل القوات المتعددة الجنسيات قد خلق حالة من الفوضى في الموقف الأمني العراقي, فالقرار 1546 لم يطبق على الأرض بشكل صحيح والذي أكد على اعادة كامل السيادة الى العراق الديمقراطي الفيدرالي التعددي والمتحد الذي يتوفر فيه احترام كامل للحقوق السياسية والإنسانية في قرار تمت الموافقة عليه بالإجماع والتي تبنته الولايات المتحدة وبريطانيا ورومانيا في حينه وذكرت بان الحكومة العراقية الجديدة ستتسلم السلطة بعد انتهاء الاحتلال وسلطة التحالف المؤقتة (CPA) في 30 حزيران 2004 وتسمح للقوة المتعددة الجنسيات بتوفير الامن بالمشاركة مع الحكومة الجديدة ويحدد دورا رئيسيا للامم المتحدة في مساعدة العملية السياسية في العراق, وواقع الحال لم يكن منسجما مع القرار الاممي الواضح فالممارسات اليومية للقوات الامريكية وشركات الحماية الاهلية الاجنبية لم تحترم قرار مجلس الامن ولا ارادة الشعب العراقي في السيادة والاستقلال والحرية.. فالقوات الامريكية بدأت بضرب مناطق سكنية امنة دون تحقيق او مشورة الحكومة العراقية مما ادى الى خسائر جسيمة في ارواح المدنيين العراقيين والممتلكات والمحلات والمزارع والبيوت الامنة, بحجة ملاحقة القوى الارهابية.
وتتصرف القوات المتعددة الجنسيات بعنف وبقوة مفرطة دون مبرر أو وجه حق كقوات محتلة دون مراعاة السيادة العراقية واحترام القوانين العراقية واحترام الحكومة الوطنية المنتخبة من برلمان ديمقراطي منتخب، فهذه القوات الاجنبية التي جاءت لفرض القانون ولاحلال السلام وفق القرار الاممي 1546 وذلك بسبب عدم وضوح العلاقات بين الحكومة العراقية والقوات المتعددة الجنسيات وغياب اية مفاوضات بين الحكومتين العراقية والامريكية بشكل مباشر لوضع اسس صحيحة للعلاقات الثنائية، علماً بانه لايحق لمجلس الامن تمديد بقاء القوات الاجنبية ضد رغبة حكومة العراق ومجلس النواب المنتخب الا اذ وجد مجلس الامن ان الوضع في العراق يشكل تهديداً للامن والسلم الدوليين مما يسمح له بالتدخل وفق المادة 42 من ميثاق الامم المتحدة ولكننا لن نصل لهذا الوضع كما يبدو من النتائح الملموسة على الارض لخطة فرض الامن والقانون ضد الارهابيين الاجانب والعراقيين الخارجين عن القانون من لصوص ومرتزقة وبقايا النظام البائد.
ومما يزيد الاوضاع سوء في البلاد هو الاستهتار بارواح المواطنين العراقيين من قبل المجموعات التابعة لشركات الحماية الاجنبية الخاصة التي تقتل العراقيين دون رادع، وما الجريمة الاخيرة التي قامت بها عناصر شركة (بلاك ووتر) باطلاق الرصاص العشوائي على المواطنين المتواجدين في ساحة النسور ببغداد وقتل (11) وجرح (24) مواطناً عراقياً، الا حالة شاخصة من حالات قتل العراقيين دون محاسبة ورقيب.
ان المعلومات المستقاة رسمياً من وزراة الدفاع الامريكية تقول بان عدد افراد الحمايات الخاصة العاملة في العراق قد بلغ(180) الف شخص أي انهم يزيدون بعشرين الف على عدد القوات الامريكية التي بلغ عددها حوالي (160) الف جندي، اذ ان هذه الشركات وعلى رأسها شركة ( بلاك ووتر) تحقق ارباحاً خيالية تحت ظل الاوضاع الامنية السائدة. ولقد اثارت العملية الاخيرة وزير الداخلية العراقي الذي الغى العقود الخاصة بهذه الشركة في جميع انحاء العراق وقد صرح دولة رئيس الوزراء نوري المالكي مستهجناً الطريقة الهمجية التي تعمل بها هذه الشركة والغى عقودها في البلاد ، وفي اللقاء الاخير بين رئيس جمهورية العراق السيد جلال الطالباني والرئيس الامريكي جورج بوش، دعا السيد الطالباني الى سحب الشركة التي تسيء لسمعة ومكانة امريكا في العالم وتؤذي الشعب العراقي وحكومته الوطنية بالصميم.
9ـ تلعب بعض وسائل الأعلام دور كبير في اثارة الفتن الطائفية وروح الانتقام وبشكل خاص بعض الفضائيات العربية التي تعمل على بث الرسائل الصوتية والمرئية لأعضاء تنظيم القاعدة التي تحث على قتل العراقيين الأبرياء وهدم مساجد الشيعة ودور عبادة الطوائف الأخرى وتبرر قتل ابناء الطائفة الكردية الايزدية وهدم اماكن تواجدهم وإستباحت دماء المسيحيين وهدم الكنائس بحجة الجهاد في سبيل الله وتقوم بتحريف الحقائق او تظهرها بطريقة مشوشة، نود ان نشير هنا الى ان هناك اكثر من أربعة ألاف إرهابي لا زالوا فاعلين في العراق قدموا من السعودية ومصر والجزائر والاردن وسوريا وفلسطين وافغانستان وإيران والمغرب وتونس ودول اخرى جاءوا بحجة الجهاد في سبيل الله وطرد الأمريكان من العراق بالرغم من ان الأمريكان متواجدين في العديد من بلدانهم؟ فهل الجهاد في العراق أكثر أجرا من الجهاد في بلدانهم؟ ام ان هناك أهداف طائفية مقيتة خفية يسعون الى أثارتها؟
10ـ ان هناك واحد من كل عشرة عراقيين اما ان يكون شخصاً نازحاً داخلياً أي انتقل من مدينة الى اخرى قسراً او غادر العراق او مهدد وتقدر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR) ان هناك ما يقارب من 2،2 مليون عراقي نازح داخلياً منذ تفجير الاوضاع في البلاد ولحد الان وان 2,2 مليون نازح عراقي فروا الى الدول المجاورة خاصة سوريا والأردن ومصر وإيران وما يقارب من 200 الف منهم في دول بعيدة، ويشكل العراقيون اليوم وفقاً لدراسة قامت بها (UNHCR) اكبر المجموعات التي قدمت طلبات لجوء لدى 32 دولة صناعية، حيث ارتفعت طلبات اللجوء الخاصة بالعراقيين بنسبة 50% في عام 2006 من 12,500 طلب الى 22 الف طلب العام السابق.
وتجدر الإشارة اليه ان متوسط عدد النازحين يزداد الى نحو (100) الف نازح شهرياً وهي كارثة حقيقية رغم المؤشرات التي تدل على تضاءل العنف الطائفي في العراق خاصة بعد تنفيذ خطة فرض القانون.
11ـ ان العمليات الإرهابية التي تقوم بها العناصر المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة او التنظيمات المسلحة التابعة لجماعات موالية للنظام العراقي السابق او تنظيمات اسلامية سنية عراقية متطرفة او تنظيمات طائفية شيعية متطرفة، في المناطق العراقية المختلطة تتضمن اجبار الاشخاص والعائلات على النزوح الى المناطق ذات الاغلبية الدينية التي ينتمون اليها، كما ادت الصراعات المسلحة بين القوات الامريكية وقوات الامن العراقية من جهة وبين المسلحين المتمردين والمسلمين المتشددين من جهة اخرى إلى بروز عمليات نزوح السكان الامنيين وخاصة في مناطق وسط وغرب وشمال العراق( ماعدا اقليم كردستان العراق الامن) ونتيجة لذلك، اصبحت المناطق المختلطة متجانسة سكانياً بشكل اكبر مما ادى الى ظهور التجمعات الطائفية والمدن الغير المختلطة طائفياً وهذه خطورة على وحدة العراق مستقبلاً.
12ـ تجدر الاشارة بأن اكثر من 175 الف مسيحي عراقي من الاشوريين والكلدان والارمن قد هربوا من بغداد والبصرة ومدن اخرى الى كردستان ويسكن معظم هؤلاء المسيحيين عند اقاربهم وذويهم في مدن عين كاوه المسيحية في اربيل ومدينة كويسنجق وزاخو ودهوك والقرى المسيحية في محافظة نينوى ( الموصل) وترك العراق عدد اكبر من المسيحيين الى الدول المجاورة وبشكل خاص الى سوريا والاردن وايران، ففي الاردن نزح اكثر من خمسة وسبعين ألف مسيحي اشوري وكلداني نتيجة العنف الديني ضدهم من قبل جماعات القاعدة.
13ـ تتعرض طوائف دينية اخرى ، بالاضافة الى المسيحيين، الى عمليات ابادة هي الاخرى بالرغم من انها جماعات مسالمة مثل الطائفة الايزدية( التي سبق وان قدمنا شرح عنها في السابق عندما تحدثنا عن مكونات المجتمع العراقي) واخر حملة ابادة جرت بحقهم قبل شهرين في سنجار حيث استهدفت شاحنة كبيرة محملة باكثر من الف كيلو من المواد الشديدة الانفجار وهي منطقة سكانها من الكرد الايزدية، فقتلوا (890) مواطناً امناً بريئاً وجرحوا اكثر من 2000 شخص اذ تجمعوا في مركز المدينة بعد سماعهم خبر توزيع المواد الغذائية فهدمت البلدة بالكامل واعلنت منظمة القاعدة الارهابية مسؤوليتها عن الحادث بحجة ان هؤلاء لا يؤمنون بالاسلام ويجب ابادتهم وايدت صحف وشيوخ تكفيريون في الخليج العملية.
14ـ يتعرض اللاجئون الفلسطينيون في بغداد إلى الإضطهاد بشكل صارخ، فمنذ سقوط النظام في 2003 وأكثر من 500 فلسطيني قتلوا في العراق غدراً، لذا فأن الفلسطينيين يحاولون بشتى السبل الخروج من العراق هربا من العنف المنظم ضدهم.
15ـ ان اللاجئين العراقيون يواجهون ظروف صعبة جداً في البلدان التي يعيشون فيها، فبعض المؤسسات الاردنية تقوم بتقديم كل التسهيلات للعوائل السنية وتحرم العوائل الشيعية منها، كما ان الحكومة السورية فرضت سمات دخول على العراقيين للحد من دخول العراقيين اليها باستثناء الحالات الانسانية ولم يُقبل الأطفال العراقيين في مدارس سورية والأردن ومصر إلا أعداد قليلة وحرموا من العلاج الصحي المجاني وهذه معلومات صدرت عن منظمات تابعة للامم المتحدة العاملة في تلك البلدان.
وقد اشار تقرير اعدته منظمة ( هيومن رايس ووتش) Human Right Watch في تقريرها لهذا العام الى ان الاردن تعامل اللاجئين العراقيين معاملة المهاجرين الغير الشرعيين بدل من معاملتهم كلاجئين ويتعرضون يومياً للاعتقال والغرامة والترحيل ، كما اشارت المنظمة في تقريرها الى انه في الوقت الذي يسعى المجتمع الدولي الى ايجاد حل لهذه المسألة فان دول جوار العراق تعمل على غلق منافذ الخروج امام العراقيين فالكويت مثلاً ترفض طالبي اللجوء العراقيين رفضاً قاطعاً بينما تقوم السعودية ببناء جدار عازل تبلغ كلفة بناءه ( 7 ) مليارات دولار لمنع تدفق العراقيين، بالاضافة الى ما تقوم به كل من سورية والاردن من اجراءات مشددة.
وقد اشارت المنظمة الى ان السلطات في سورية رفضت منح موظفي منظمة (هيومن رايس ووتش) سمات الدخول الى السورية من اجل توثيق اوضاع اللاجئين العراقيين في سورية.
كما اكدت المتحدثة بأسم الخارجية الفرنسية السيدة باسكال اندرياني بان مشكلة اللاجئين العراقيين هي اكبر الازمات التي يشهدها العالم والمجتمع الدولي فيما يخص عمليات التهجير الانسانية منذ عام 1948 ولحد اليوم، ودعت الى التوصل لحل جذري لهذه المشكلة خلال اجتماع دول الجوار العراقي المتوقع انعقاده في تركيا في 2/11/2007.
ونقلت هيئة الاذاعة البريطانية BBC عن مدير وحدة مساندة العراق في مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين( اندرو هاربر) قوله ان نحو (11) محافظة من بين (18) محافظة في العراق ترفض استقبال النازحين بسبب ضعف الموارد التي يتوجب تقديمها للنازحين كما تمنع التعليم والمساعدات الغذائية لمن يتمكن من الدخول اليها.
16ـ نتمنى من خلال مشاركتنا في هذه الندوة ان نسهم في ايجاد الحلول الكفيلة لوضع حد لهذه المأساة التي يعاني منها اللاجئين العراقيين في الخارج ونحن نامل ان يتسع صدر المفوضية العليا للاجئين للملاحظات التي سنطرحها هنا فالقصد هنا ليس الانتقاص من عمل اللجنة وانما مساعدة هؤلاء اللاجئين الذين لا يطلبون سوى العيش بسلام وكرامة لحين استتباب الامن في العراق والعودة الى الوطن ،لذا يبدو من الضروري عقد مؤتمرات دورية للدول التي تستضيف هؤلاء اللاجئين والاتفاق على صيغ موحدة ومشتركة تطبق على كافة طالبي اللجوء في هذه الدول ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ضرورة اصدار قوانين جديدة تلائم التطورات التي تحدث في هذه القضية.
17ـ تشهد رومانيا العضوة الحديثة في الاتحاد الاوربي شانها شان الدول الاخرى قدوم اللاجئين العراقيين اليها ولكن باعداد قليلة جداً نظراً لصعوبة الوصول اليها براً وبحراً وبالرغم من الجهود التي تبذلها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR الا اننا نرى ضرورة قيام رومانيا بمعاملة العراقيين وفقاً لاتفاقية جنيف لعام 1951 بالاضافة الى الاشخاص الذين يقعون ضمن نطاق التعريف الموسع كاشخاص يهربون من صراع مسلح او اضطراب مدني والاخذ بنظر الاعتبار التاخير الحاصل في قبول طلبات اللاجئين العراقيين،و تشديد اجراءات القبول اذ نجد هناك دول اخرى مثل السويد واليونان والنرويج وايرلندا تقوم بتسهيل عملية تقديم الطلبات وقبولها، كذلك ضرورة الاهتمام اكثر بمسالة تعليم اطفال هؤلاء اللاجئين اذ ان هناك عدد من الطلبة العراقيين اللاجئين غير قادرين على دفع نفقات الدراسة في رومانيا وهي مبالغ طائلة، مع ضرورة شمول اللاجئين العراقيين بنظام الرعاية الصحية وتوفير السكن اللائق لهم ، ضرورة اجراء مراجعة للاعانات التي تقدمها المفوضية لهؤلاء اللاجئين خاصة بعد انضمام رومانيا الى الاتحاد الاوربي وارتفاع الاسعار الذي تشهده.
هذا فيما يخص رومانيا الا اننا نرى ضرورة معالجة محنة المهاجرين والمهجرين و النازحين العراقيين جميعاً من قبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين وذلك من خلال:
أ ـ توفير الامن للعوائل النازحة الى الدول المجاورة.
ب ـ ضمان عدم ترحيلهم من تلك الدول التي نزحوا اليها قسراً وفق اتفاقيات جنيف لعام 1951.
ج ـ تقديم المساعدة الانسانية للاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة كمرضى القلب والسكري والعجز الكلوي والسرطان وبشكل خاص الاطفال والمسنين.
د ـ السماح بالاقامة المؤقتة وفقاً لظروف معيشية مقبولة نسبياً.
هـ ـ البحث عن حلول جدية، و ذلك من خلال اعادة توطين النازحين حتى يتاح لهم العودة الطوعية للعراق.
وـ التسجيل المنظم من اجل وضع تخطيط ملائم يلبي إحتياجات المساعدة ويحدد المواطن الذي يحتاج الى الحماية الدولية.
إن ندوتنا هذه ماهي إلا مجرد سعي حثيث لفهم الخصوصية العراقية واسباب العنف الطائفي والتكفيري وذلك لمساعدة اللاجئين العراقيين عموماً في العالم ومنها رومانيا وخطوة نحو توحيد الجهود الدولية لحماية العراقيين المعوزين ومساعدتهم إنسانياً وفقاً للمبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي للاجئين ومساعدة الدول المضيفة على تحمل هذا العبىء الملقاة على عاتقهم.
* عادل مراد : سفير العراق في رومانيا ، تقرير قُدم الى الندوة التي نظمتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR في بخارست بتاريخ 17/10/2007 حول اوضاع اللاجئين العراقيين وهي أراء لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لوزارة الخارجية العراقية او الحكومة العراقية.