ألتقيتُ الرجل صدفة في أحد شوارع مدينة أوربية. أوقفته مُحييا فإستنكرني مُحتجّا سائلا من أنت؟ قلتُ له هل حقّا لا تعرفني يا أبا الطيب؟ أمثلك لا يعرف مثلي؟ أصرَّ الرجل أنه لا يعرفني ولم يسبق له أن إلتقاني. قلت له مُذكِّرا يا أبا الطيب! قبل ربع قرن من الزمان قضّينا معا سبع ليال سويا نتسامر ونفلسف الدنيا وما فيها من عجائب ومضحكات ( سمعته يدمدم هامسا : ولكنه ضحك كالبكا ) وشعر وسياسة وأدب. سألني لكنْ متى كان ذلك وأين؟ قلت له لقد أمضينا معا خمس ليال نتجادل على ضفاف نهر الفرات ما بين مسقط رأسك الكوفة ومسقط رأسي حلّة بابل. ثم أمضينا بعد ذلك ليلتين على شواطيء دجلة وشارع صاحبك أبي نؤاس في بغداد. ثم إفترقنا في نهاية هذا الشارع بعد أن أكلنا الكبدة المشوية على فحم الخشب وشربنا الشاي المُخَّدر جيدا والثقيل. غبتَ عني على حين غرّة حتى بدون كلمة وداع، الأمر الذي إضطرني أن أحذو حذوك وأن أستعير منك المثل فأغيّب نفسي. غبتُ مثلك ولم يعثر أحد حتى اليوم لي في وطني على أثر. إنبسط الرجل قليلا وهو يقول ها قد تذكّرتُ هذه اللقاءات جيدا. وكيف لمثلي أن ينساها. تسامرنا حقا تحت أقمار نهر الفرات وتوسدنا رماله البهية وأكلنا ما لذ وطاب مما أعرف وأجهل من شهي الطعام. ثم قد جرّبتُ ولأول مرة في حياتي ما لم أذقْ قبلا من مُجرّمات الخمور من جن ورم فائق القوة وبيرة دنماركية مُركّزة. ثم إنْ أنسَ فسوف لن أنسى أكلة البيتسا الطليانية.
تفرّس الرجل في وجهي يخامره شيء من الحذر والحيطة وهو يقول : رغم كل هذا أجد صعوبة بالغة في تذكّر وجهك أو شخصك. أعذرني، لا أتذكرك بل وأكاد أجهلك وأجهل مقاصدك. قلتُ له معك حق يا أبا الطيب. حقك أن لا تتذكرني. لقد تغيرَ فيَّ كلُ شيء وسبحان مُغيّر الأحوال. لقد كنتُ غير ما أنا كائن أمامك الآن. لقد حال اللون وتغير الشعر وإشتعل الرأس شيبا وضعفت العيون حتى أني لا أكاد أقرأ شيئا بدون نظارات طبية. ثم قد وهنت وتساقطتْ أغلبية أسناني حتى أني لا أجرؤ على أن أتناول شيئا سائغا صلبا. ثم وتحت تأثير إضطراب ميزان السكّر في الدم منعني الطبيب من أكل ما كنتُ أسيغ من التمور العراقية كالخستاوي والأشرسي والمكتوم والبرحي ثم التونسية المسماة ” دكلة نور ” ، وحلويات أخرى كالبقلاوة وأخواتها. كان الرجل يلاحق حديثي بشغف وكثير من الفضول متفرسا قسمات وجهي التي كانت تتغير بالطبع تبعا لحالاتي النفسية وما كنت أُعانيه بالفعل من ضيق في أعماقي ومن ألم وتباريح الذكريات المُمِضة. فضلا عن شواهد ما آلت إليه الأمور وتداعيات مشاكل العمر وتدهور الصحة المُطّرد.
قلتُ كانَ الرجل يتابع حديثي مُصدِّقا بهزّاتٍ خفيفة من رأسه كلَ حرف نطقتُ به فيما يخص إدعائي معرفتنا ولقيانا على أرض الرافدين وما بين النهرين. وحين فرغتُ من كلامي مُتحسّرا عمّقَ من نظراته المتفرسة في وجهي ثم قال أتذكرُ لقاءاتي الرائعة تلك مع رجل كان في مُقتَبل العمر قويا وسيما معافى. يأكل مثلي بنهم ويتعاطى ما حلل الله وما حرّم من خمور الدنيا ومُسكّراتها وأطايب مشروباتها. أجل، واصل كلامه، كان ذاك الشاب ذكيا جسورا ينتقد الدنيا ومن فيها وما فيهاولا يخشى العواقب. وكان فضلا عن ذلك خالي البال شديد التوازن الجسدي والنفسي وثابت القرار والجنان. ما كان يعرف الهم وما خطرت قط الهموم على باله. إيه ! إيهٍ يا زمن !. سُبحانَ مُغيّر الأحوال. ثم أردف بعد فترة صمت قصيرة قائلا لكني لا أراك كما قد وصفتَ حالك. فليس كل ما تبقّى لديك من شعرٍ أبيضَ اللون ولا أرى على عينيك نظارات طبية. ثم أرى الكثير من الأسنان العامرة في ثغرك الُمغرِّد الباسم ( قالها وغمز جادّا هازلا بعينه اليسرى ). تضاحكتُ وشر البلية ما يُضحِك. أردتُ التعليق لكني أحجمتُ. لم يدعْ الرجل لي من فُرصةٍ للتهرب. كان يحثني على الكلام مُشجعا فأمال رأسه قليلا نحوي بأدب جم وحدب كقسٍّ يُصغي لإعترافات مسيحي خاطيء. لم أجد مندوحة عن الكلام فقلتُ يا أبا الطيب، عزيزي وقُرّة عين الشعر والكوفة وعراق العرب والعجم وما بين النهرين طرّا، هل نسيتَ أننا نحيا في القرن الحادي والعشرين، قرن القرون والمصائب وأرباب القرون الكبار ومُصنّعيها ومُصدريها ومستورديها؟ قرن الأنترنت والعولمة والقطب الأسود والأوحد. القطب الإسرائيكي – الشارونيكي – البوشائيكي وسفن الفضاء وإستنساخ البشر والبقر وزواج الرجل من الرجل والأنثى من أختها الأنثى؟ قال مستغربا ماذا تقصد بكل هذه السفسطة والرطانة التي لا أفهم؟ قلتُ أقصد أنَّ شعور الرأس قد تأخذ أي لون وصبغة يشاءُها أصحابها. وقد يضع الناس على رؤوسهم الشعر المستعار كذاك الذي رصدته أنتَ يوما في فسطاط مصر عام 346 للهجرة وأسميته الشعر المكذوب. هل نسيتَ قولك في قصيدة مدحتَ فيها كافور الأخشيدي :
ومِن هوى الصدقِ في قولي وعادتهِ
رَغِبتُ عن شَعَرٍ في الرأسِ مكذوبِ
هز المتنبي رأسه موافقا ومُستحسنا إستشهادي بهذا البيت.
واصلت الكلام قائلا أما أسناني فالمشتكى يا أبا الطيب لله ! لا تغرّنكم المظاهر. أُذكّرك في هذا المقام ببيت الشعر الذي قلتَ فيه :
إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزة”
فلا تظُننَ أنَّ الليثَ يبتسمُ
لقد أعيتْ أسناني الحكماء وأطباء الأسنان. فهي إمّا مُغطاة بتيجان من الذهب الأبيض أو السيراميك أو أنها محشوّة بشتى أنواع المعادن رخيصها ونبيلها. ومن الحَشَوات ما يصمد دهرا ومنها الذي لا يثبتُ إلاّ بعض يوم. أما الفجوات الصغيرة والكبيرة ما بين الأسنان فشأنها شأن آخر أكثر تعقيدا. يتم ردم هذه الفجوات والفراغات يا أبا الطيب بالجسور، نعم بالجسور. سمعته يتمتم ( إي نعم ! على جسر المسيب سيبوني ! ). توقفتُ عن الكلام لأُريح نفسي قليلا ولكيما أُعطي صاحبي فُرصة للتفكير فيما أقول. ما كانت في زمانهم عيادات لطب وجراحة الأسنان ولا حشوات أسنان ولا تيجان ذهب وسيراميك ولا جسور أسنان.
فوجئت بصاحبي يسألني عن ( ربّاط الكلام ). قال وما دخل أسنانك وطبّك بملاعيب القرن الحادي والعشرين؟ إنَّ الربط جدَّ محكم يا سيدي ومولاي. أجل، محكم جدا. فلقد خدعتك بعض مظاهر ومودات هذا القرن حتى صرتَ تحسب سواد الشعر سوادا ً طبيعيا خرج للتو من بطن أمه. وتحسب بياض الأسنان ولمعانها وعدد ما في الفم منها دليلَ تمامها وكمالها وصلابتها. كلا يا أبا الطيب. كلا ثم كلا، فالمظاهر خداعة. لقد سبق وأن قُلتَ يوما في مجلس سيف الدولة في حلب :
أُعيذها نَظَراتٍ منكَ صادقة”
أنْ تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُه وَرَمُ
المظاهر خدّاعة يا عزيزي، جدَّ خدّاعة. الورم شيء والشحم شيء آخر كما تعلم.
قال قد أتفق معك في أنَّ مظاهر الأشياء خدّاعة، لكنْ ما خطب هؤلاء الرجال الذين يتزوجون من أمثالهم الرجال والنسوة اللائي يتزوجن من نسوة؟ لا أصدّقُ هذا الأمر. لم يحدث مثيله في زماننا قط. لا أصدقه. قلتُ له سأصطحبك يوما إلى المحاكم المختصة بإبرام عقود الزواج كيما ترى بعينيك وتتثبت من صحة ما أقول. يأتون بالزهور ويشربون الشامبانيا ويتبادلون القبل أمام الجميع ثم يوقعون عقود الزواج. بعد المحكمة يتجهون نحو الكنائس لتغمر بركة السماء هذا الزواج. إنها الحرية يا أبا الطيب ! أصرَّ الرجل أن ذلك غير جائز وغير ممكن وإنه مخالف للطبيعة والشرائع والأديان السماوية والأعراف. إنه شذوذ جنسي إستنكره القرآن الكريم وخصه بالذين يأتون اللذة من ذكران الرجال فقط ومن بين قوم لوط فقط. ما كان هذا الشذوذ معروفا بين النساء. إقرأ معي : (( أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون / سورة الشعراء )). ثم (( أئنكم لتأتون الرجال… / سورة العنكبوت )). ثم
(( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إنَّ الله كان توابا رحيما / سورة النساء )). قلت قد عاد إذا ً يا أبا الطيب عهد لوط القديم. لكن الجديد فيه أنه قد عاد بشكل مزدوج. عاد لكلا الجنسين لا للرجال وحدهم. عاد بصيغة زواج قانوني لا على شكل طبيعة شاذة لا يسيغها القانون الطبيعي ولا الذوق العام للبشر الأسوياء. ثم إنَّ عهد لوط لم ينقطعْ طوال مسيرة الجنس البشري في التأريخ. أشعل المتنبي لفافة تبغ من نوع كَنْتْ، لايت Kent, Light, Slim وجذب نَفَسا عميقا، جدَّ عميق ثم قال لكني لا أفهم كيف ستدوم الحياة إنْ تزوجَ الرجل بالرجل والمرأة من المرأة. من منهما سينجب؟ ثم سألني عمّا قصدت بإستنساخ البشر. قلتُ له لا تنسَ يا أبا الطيب والطيوب إننا الآن في أوربا ولسنا في جزيرة العرب العاربة. وإننا نحيا زمن القرن الحادي والعشرين وليس القرن الخامس الميلادي. وما ظاهرة الزواج من الشبيه الجنسي إلا عملية رفض للطبيعة السوية التي ملّها على ما يبدو وجزع منها بعض البشر. وهي إحتجاج على ما أرى على الحياة المعاصرة وعلى فقدان الأمل بالمستقبل نتيجة البطالة والأمراض الفتاكة والحروب. لقد إظلمّتْ نتيجة لذلك الآفاق وإدلهمّتْ الخطوب أمام عيون هذه الشريحة من البشر حتى أنهم زهدوا في الحياة فصمموا أن يسدلوا عليها السُتُر وأن يضعوا نهاية لها بقطع مسلسل الوجود وشعارهم ما قال يوما تلميذك أبو العلاء المعرّي… قاطعني صاحبي بعد أن نفث من رئتيه دخانا كثيفا قائلا (( هذا جناه عليَّ أبي…)). واصلتُ كلامي قائلا إنها عملية وأدٍ عصرية للبنين والبنات يا أبا الطيب. نعم، إنها عملية وأد عصرية مع سبق الإصرار …كما يقول رجال القضاء. وأد لكامل الجنس البشري. لاحظتُ بعض قطيرات من الدمع حائرة بين جفون الشاعر حين قال مُعقّبا (( وإذا المؤودة سُئلت. بأي ذنب قُتلت / من سورة التكوير )). أمّا قصة إستنساخ البشر، إستأنفتُ الكلام، فعلاقتها وثقى بعملية الوأد العصرية وبزواج الأمثال. إنها تمثل رد الطبيعة الحاسم على عمليات وأد الأحياء وعلى من يقوم بها. فهؤلاء يسدون منافذ الحياة ومسالكها وأبوابها الطبيعية. أما القائمون بعمليات الإستنساخ فإنهم يفتحون الأبواب أمام الحياة ويوسعون منافذها ويعددون وينوِّعون مصادرها. الطبيعة تعرف كيف تفرض نفسها على البشر وكيف تواصل مسيرتها من الأزل إلى الأبد. وجدتُ نفسي مضطرا أن أبتسم إذ سمعته يقول مخاطبا نفسه (( والذي حارتْ البريةُ فيهِ/ حَيوانٌ مُستَحدَثٌ من جمادِ )). قلتُ لصاحبي هل أواصل محاضرتي؟ قال كمن فوجيء بالسؤال : تفضلْ تفضلْ. حاضر وستجدني إنْ شاء الله مصغيا ومن الصابرين. قلتُ : ستستمر الحياة بفضل العلم وجهود علماء الهندسة الجينية. سينتج العلماء بشرا غير مألوف من خارج العلاقات الجنسية ودون حاجة إلى زواج. سينتجونه في المختبرات كما نجحوا في إنتاج خراف وعجول. وهم ماضون في مساعيهم لإنتاج البشر بل وحتى التحكم في جنس هذا المنتوج ذكرا أو أنثى. كان الرجل ذاهلا غائبا عني. يُكثر من التدخين. ما كان يصدق ما أقول. حسبني أهزأ أو أروي نكتة. نفث من أعماق صدره غيمة كثيفة من الدخان وهو يقول وهل سيكون البشر المستنسخ في مختبرات هندسة الجينات مُنزّها من هذا الشذوذ الجنسي الطافر للأطوار والعابر للقارات؟ قلتُ هذا وأيم الحق لسؤال وجيه. وعلمه عند ربي ولدى عالم الجينات والمهندس الجيناوي الدكتور محمد الربيعي المقيم في بريطانيا العظمى. قال لا أفهم حقيقة ما يجري في هذا الكون. قلتُ بل وستفهم كل شيء ، قليلا من الصبر. إنك ما زلتَ حديث عهد بهذا العالم وستتعود عليه وتتكيف له وتقبله على علاّته. أفلمْ تقلْ أنت يوما (( لكلِ إمريءٍ من دهره ما تعوّدا )) ؟ إنها الحرية، الحرية يا أبا الطيب. تقبّلها، عوّدْ نفسك عليها، مارسها، ثم تمتع بها وبخيراتها وهي كثيرة في هذه البلدان ! هل تصدق أنَّ هؤلاء الشواذ والشاذّات يقيمون لهم مهرجانات وإحتفالات سنوية وموسمية في أرقى عواصم الدنيا. يرقصون ويغنون ويشربون في الشوارع عَلَنا وتحت سمع وبصر وحماية القانون الذي أجاز لهم مثل هذا الزواج. بل وأكثر من ذلك، أنَّ الشرطة تحميهم وتحرسهم من خلف ومن قّدام وتسهر على تأمين أقصى درجات الأمان لهم خشية أن يؤذيهم متطفل أو حاسد أو إمرأة غيور هجرتها صاحبتها وإختارت أخرى سواها لطول قوامها مثلا أو لشقرة لون شعرها أو لحرارة جسدها الطاغية. أجل، إنها الحرية. أردتُ مناكدة الرجل وزيادة ما فيه من همٍّ فقلت له لم أقرأ في أشعارك ذكرا لكلمة ” الحرية ” ، لم تذكرها ولا مرة واحدة. فهل كنتم تكرهون الحريات وما يُسمى الآن بحقوق الإنسان؟ قال ما كان زماننا زمن مثل هذه الفذلكات والفنطزات المعاصرة. وما كنتُ وحيد زماني أني لم أذكر كلمة الحرية في شعري. لم يذكرها أحدٌ قبلي من شعراء الجاهلية أو الإسلام. ولم أسمعها من أكثر الشعراء جرأة كبشار بن برد وأبي نؤاس اللذين مارسا ما قد مارسا من حريات القول والفعل سواء المقبول منها أو المحرّم. أنت تتكلم عن الحرية ولكن قلْ لي يرحمك الله من يجرؤ منكم اليوم على أن يقول لحاكمه ما قلتُ يوما في بلاط سيف الدولة الحمداني وبحضور جمع غفير من الشعراء واللغويين والنحويين والفلاسفة أثناء المناظرة المشؤومة والشهيرة إذ قلتُ :
سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلسنا
بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ
ولعلمك، أضاف صاحبي، لم يذكرْ هذه الكلمة على حد علمي من الشعراء إلاّ المرحوم أحمد شوقي حين إنتصف لثورة الإستقلال والإنعتاق السورية في قصيدته المعروفة ألتي إستهلها بالبيت (( سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ )) حتى أتى إلى ذكر الحرية فقال :
وللحريّةِ الحمراءِ بابٌ
بكلِّ يدٍ مُضَرَّجةٍ يُدّقُ
…
غاب المتنبي عني وعمّا حوله غيبة طويلة عميقة لكأنما رجع القهقرى أحد عشر قرنا من الزمن. غرق في بئر لا قرار لها حتى قد إستبدّت بي بشأنه بعض الوساوس. وقف على رصيف الشارع فجأة أمامي كطود صخري منحوت في جبل أو كتمثال أسطوري من المرمر أو حجر الغرانيت. ما كان منتبها لما حولنا من بشر وضجيج سيارات وأصوات الباعة المتجولين وأزيز التلفونات المنقولة. خُيّل لي كأن الرجل قد وقع في غيبوبة حقيقية وعميقة. لم أشأ من جهتي أن أُفسد عليه سياحته المجهولة عبر التأريخ الطويل الغامض. كل شيء بدا معتوتما، الجو والسماء وزجاج السيارات ونوافذ المقاهي والحوانيت ووجهي ووجه أبي الطيب. تركته على سجيته يسيح أو يغيب في عوالمه التي لا أراها ولا أدرك كنهها. دعوته يتمتع بالغيبة، أنا الذي قضّيتُ العمر صاحيا يقظا منتبها على زماني وصروفه أحسب لكل أمر ألف حساب ولا أدع العمر ينقضي سُدى دونما رقابة أو رقيب. لا مراء، يأتيني الماضي أحيانا مع بعض أحلام اليقظة. فقد يضعف المرء في بعض الأحايين لأنه وفي أحسن أحواله طين مفخور، صلصال من حمأ مسنون وليس مارجا كإبليس من نار. لكني والحق يُقال سرعان ما أنتبه لحالي وما صنعت بنا الأيام فأغادر مملكة الأحلام الخدّاعة إياها وأضع نفسي مرة أخرى تحت الشمس وبؤرة الضوء في عيني كيما أتحاشى الخدر والنوم الذي يأتي عادة بعد خدر الحواس. أغادر جنان الأحلام طوعا وبملء الإرادة لا مطرودا منها كما كانت حال أبينا المسكين آدم. خدعته زوجه وإلتفّت الأفعى المراوغة الخبيثة حول رقبته وخاصرته النحيلة. ثم سوّلتْ له النفس الأمّارة بالسوء فلان جسده وخارت إرادته فتختخَ وإسترخى وتشهّى فدنا ( من الدناءة وليس من الدنو… فالنفس الدنيئة تُطيح بحظ صاحبها ) فإستطاب مذاق العسل والتفاح الأحمر والذهبي وحلوى الماكنتوش ماركة Quality Street . أخيرا وليس آخرا سال لعابه ، فقدَ وعيه كصاحبنا وفقد توازنه ، ترنّحَ فسقط السقوط الأبدي.
ولما آبَ أبو الطيب إليَّ وعاد إلى نفسه بكامل حواسه سألني لماذا كانت حرية أحمد شوقي بك حمراء؟ وهل هناك حرية خضراء أو سوداء مثلا؟ قلت له لعلاقتها بالدم المهراق والمسفوح ثمنا لها. الحرية تؤخذ ولا تُعطى مجانا. تؤخذ بدم الشهداء المناضلين من أجل حرية وسيادة أوطانهم. هل تقرأ الصحف؟ هل تتابع التلفزيون والفضائيات العربية؟ هل تعرف حقيقة ما يجري على أرض فلسطين وعلى أهل فلسطين ودورها وزروعها وكرومها وزيتونها؟ قال لا تنكأ جروحي. لهول المأساة صرتُ أتهربُ منها ومن نفسي. لا أجرؤ حتى على النظر في المرآة إلى وجهي. أغيب. أهرب. أضحك ضحكات المغبون فيسألني جيراني عن سبب ضحكي فأنتحل الأعذار وأكذب وأداري. ألهو بكل شيء وبأي شيء كيما أنسى. أتناول الكثير من الطعام بلا رغبة أو شعور بجوع. أتناوله حتى بعد منتصف الليل. أشرب الكحول وأقرأ وأكتب وأجوب الشوارع عرضا وطولا وأهيم على غير هدى. أسمع الأغاني القديمة وأكتب الرسائل الطويلة لكل من هب ودب حتى صرتُ أردد ما قال أحد الرجال في الكوفة يوما ( أين ألقاها؟ ). عرق وجه المتنبي، فلقد كان يعاني من أشد حالات الضيق وهو يواصل التدخين بشراهة حتى أن أصابعه كانت ترتجف وهي تدير وتعبث بلفافة التبغ. رفع قبعته الغربية عن رأسه ومسح وجهه وصلعته بمنديل حرير أحمر وهمَّ أن يقول شيئا لكنه أحجم فجأة وقال أشعر بالتعب. ثم إقترح أن نجد لنا مكانا آخر نستريح فيه غدا لنشرب القهوة اليمنية ونأكل شيئا. قلتُ حسنا. نلتقي غدا قُبيل الظهر. !