يبدو ان البعض لايتصور العلاقة بين السياسة والثقافة كمفاهيم ومصطلحات واجراءات ،الاّ انها علاقة ازمة دائما ،ازمة حسابات ومصالح وازمة ايديولوجيات وازمة خنادق متخاصمة !!! والتي تفترض طبعا موقفا وتوصيفا استباقيين وربما تحديد ادوار ،وكأن السياسي مواطن استثنائي خارق للعادة وان المثقف هو المواطن الحالم الذي لاشأن له بالصناعات الثقيلة والافكار الثقيلة !!،ازاء هذا التوصيف ،،تأخذ الادوار والمسؤوليات حدودها ،،اذ ما على المثقفين الاّ ان يكونوا بعيدين عن الدائرة السياسية ولزوجتها ومصائبها وشواردها ، وان يكتفوا بهمومهم واحلامهم،ويتركوا امور الشارع والرعية والوعي الوطني !! وشجون البرامج والميزانيات والموازنات لاصحاب المطابخ السياسية واصحاب الاقتصاد السياسي بمرجعياتهم العسكرية والانقلابية او الحزبية والايديولوجية !!! وان يكتفوا بالجرعات العالية للمخيال الشعبي العامر باوهام الحكواتية الذين يجسدوا ثقافوية السرديات الكبرى لثقافتنا العربية،التي علمتنا وفي اول دروسها ان نطيع بامتياز !! وان نترك الشأن السياسي وكل عوالق الحاكمية لانها اختصاص سلالي لأولي الامر فينا !!!!
لقد وضعت العلاقة بين السياسي والثقافي نفسها امام فضاء من الاشكالات والعقد والاوهام،خاصة في اطار التصورات التقليدية التي فرضت نفسها في سياق تداول الدولة السياسية وفي اطار المجتمع المدني ايضا ،اذ برز الفهم القاصر للسياسي والثقافي النخبوي من خلال ربط السياسي كمنتج للسلطة بمرجعيات ترتبط بنمط السلطة القديم ،فضلا عن توصيف السياسي ذاته في اطار مرجعيات المقاومات السياسية او مجالات السياسة السرية التي امتهنها خصوم الدولة القديمة ،،وكذلك برز الفهم القاصر للمثقف النخبوي من خلاله طبيعة عمله وخصوصيته المهنية والاجتماعية ،،وهي التي انعكست فيما بعد على الواقع بعد نشوء الاحزاب السياسية ونشوء التجمعات والهيئات والنقابات المهنية، وربما كان هذا التصور هو الذي دعا (فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي الى ضرورة عزل المثقفين خارج العمل الحزبي من خلال كتابه المعروف (حزب شيوعي لااشتراكية ديمقراطية) لايمانه بان الحزبي/السياسي هو المهني المناضل المضحي المدافع المخاصم الصانع المواجه للسلطة والقمع الاجتماعي والطبقي والسياسي والباحث عن تقعيدات ارضية لمفاهيم الحرية والعدل الاجتماعي وقيم المجتمع المثالي، وقريبا من ذلك وضعت الاحزاب القومية فهما استباقيا للمثقف وتوصيفه بانه المؤمن بفهم معين للتاريخ والامة والنضال القومي !!!!
وحتى بعد صدور قانون الاحزاب عام 1944 في العراق ظل النظر الى الاحزاب محاطا بهالة من الالتباس ،رغم ان الكثير من المثقفين وجدوا في الفضاءات الحزبية مجالات واسعة لممارسة نزعة انتاج الخطاب والهيمنة والنقد وتداول المعرفة .ولعل اية مراجعة لتاريخ الاحزاب السياسية العراقية نجد الكثير من المثقفين ومن مختلف الاطياف قد انخرطوا في العمل الحزبي/السياسي، وان تاريخ القمع السياسي العراقي كان تاريخ قمع للاحزاب بامتياز ،وان جلّ ضحاياه كانوا من المثقفين العاملين في مجالات الابداع والمعرفة والعلوم الانسانية والطبيعية.
ولاشك ان الواقع السياسي العراقي مابعد عام 1958 قد شهد الكثير من التغايرات الحادة انهار في ظلها مفهوم اطار الدولة الليبرالية (الملك/مجلس النواب/ التعددية الحزبية/منظمات المجتمع المدني) وصعود نجم الدولة العسكرية الشمولية التي مهدت فيما بعد لصنع فضاء الصراعات الدامية بين القوى السياسية ونشوء ظاهرة القمع السياسي والايديولوجي والطائقي والاثني!! كل هذا اسهم في تخلق مساحات قلقة ومريبة لمفهومي السياسي/الحزبي والسياسي/العسكري والسياسي السلطوي مقابل المثقف الحائر القلق الباحث عن توصيف وهوية …..
ازاء هذا التحول العميق انسحب الكثير من المثقفين من الدائرة الرومانسية والنضالية للاغواء السياسي والحزبي خاصة بعد فشل هذه الاحزاب في ادارة التداول السلمي للسلطة،وسقوط العديد منهم ضحايا في غلواء القمع والسجن السياسيين !!!
ان تاريخ الازمة مابين الثقافي والسياسي هو تاريخ مصطنع وبقصدية شديدة !! وكأن وعي السياسة هو وعي مضاد للثقافي !!وان وعي الثقافي ينبغي ان يكون بعيدا عن اعراض السياسة وسخونتها ،وان لايمسّ خصائصها عن بعد او قرب !!حتى اصبحت السياسة والثقافة في خندقين وفي اتجاهين وفي نمطين لاحوار بينهما و لحظات عشق او ودّ بينهما ،السياسي يتعالى على المثقف ويجعله خاضعا لرعويته ،والثقافي يتوهم دائما بوعي مضخم متعال يفترض حيازته على سرّ المعرفة …
ان هذا الوعي الملتبس والغامض لايمكن ان يكون واقعيا !! وفاعلا في حياتنا المعاصرة التي لم تعد خاضعة لمثل هذه المعادلات القلقة ، والتي لم تعد تمنح السياسي المحترف والمثقف المحترف خصوصية خارج اطار وعي العلاقات والبرامج التي تحكم فعل السياسة والثقافة ،،
اذ ان السياسي الحزبي والسياسي الحكومي والسياسي المدني لايمكن ان يكونوا فاعلين دون ذخيرة ثقافية ودون لغة ثقافية ودون قدرة على انتاج الافكار وتداولها وتسويقها ،وهذا شأن ثقافي طبعا واقصد هنا انها صناعة ابلاغية وبلاغية !!!!..كما ان المثقف المدرسي والمثقف التلفزيوني والمثقف الايديولوجي والمثقف المعرفي والمثقف الحكومي ،لايمكن ان يكونوا ايضا ذا أثر دون برنامج سياسي يصطنع لهم مديات للتعاطي مع اليات القراءة والتخطيط والاجراء سياقا فاعلا ومنتجا يشرعن حيوية الفعل الثقافي في اطار السياسات العامة..
ان هذا الموضوع لايحتاج الى خلط عشوائي !!مثلما هو لايحتاج الى فرز غير موضوعي!!لان السياسة ليست حرفة تشبه الحرف المهنية الاخرى ،وليست لعبة سرية تحتاج حيازة مجموعة من الشفرات، كما انها ليست وظيفة في الصحراء !!انها حرفة ثقافية وادارية وفكرية ،مثلما هي لعبة في صناعة العلاقات التي يدخل الثقافي في جوهرها ،فضلا عن كونها وظيفة اجتماعية تحكمها مجموعة معقدة من الاعتبارت والمصالح والتي لايمكن تأديتها والتعاطي معها خارج النسيج الاجتماعي الانساني ..
وازاء ذلك ندرك ايضا ان الثقافة في فضاءاتها المتعددة وشواغلها وحرفيتها هي الجوهر العميق لكل هذه الاشتغالات ، لانها محرك الوعي الانساني وانها الملح الذي لايمكن صنع ماعون العائلة الاجتماعية والسياسية دونه ،فالسياسيون يخروج لنا كل يوم على الفضائيات بثياب المحللين او الناطقين باسم اصحاب الشأن ،وهم يتحدثون بلغة عالية وانيقة هي الاقرب الى لغة المثقفين المهنيين !! اوربما تستعير كل ادواتها ومصطلحاتها من قاموس ما يردده المثقفون المهنيون ،،، ومراسلو الصحف ووكالات الانباء والفضائيات يسوقون لنا كل ليلة خطابات ضاجة ومهولة واحيانا خالية من الطعم واللون والرائحة،وطبعا يأخذ حديثهم رغم سرديته اللغوية /التوصيفية !! مسار الخطاب الثقافي الملىء بالمجازات والاستعارات…
كل هذا يضعنا حقيقة امام اعادة تعريف وانتاج مفهومي الثقافي والسياسي ،وطبيعة عملهما ،او ربما اعادة صياغتهما خارج هذه التوصيفات العائمة ،فهل ان سنغور الشاعر الكبير فقد خصوصيته كشاعر حينما اصبح رئيسا للسنغال ؟ وهل ان دوفليبان تخلى عن مزاجه الشعري حينما اصبح رئيسا لوزراء فرنسا ؟ وهل ان اختيار شارل ديغول لاندريه مالرو وزيرا للثقافة جعله يفقد شرطه الابداعي الذي جعله من اعظم روائيي العالم؟ وان بابلو نيرودا تحوّل الى موظف حكومي في الخارجية التشيلية وفضائها الدبلوماسي ونام بعيدا عن سخونة الشعر وحرائقه واحلامه الموغلة في جسد الطبيعة وسحرها اللاتيني …
ومن هنا لا انحاز الى هذا الفصل الساذج بين السياسي والثقافي خاصة في اوساطنا التي ضاقت فيها المسافات والتقت الحوافر على بعضها !!فضلا عن السياسة في بلادنا جعلتنا في وهم دائم بان السياسة لعبة في القسوة وان اصحابها لايملكون الاّ غلظة !! وسلطة مكاتب! ،وانهم بلا رحمة ،وان هذه السياسة بحكم تراكم المحنة وطبيعة امتيازاتها الكارزمية والدكاكينية والاستعراضية !! اصبحت مجالا لايخرج عن غوايته احد وتحت يافطات متعددة نعرف تاريخها القريب !!!!فضلا عن ان نمط ثقافتنا العائلية والدينية ونمط تعليمنا ،نمط ثقافاتنا الحزبية والسياسية لم تسهم في انتاج السياسي المحترف بمهنيته واكاديميته !!اذ ان اغلب سياسيينا للاسف ومن اكثر من خمسين عاما جاءوا من مرجعيات الانقلابات العسكرية والاصطفافات الايديولوجية !! كما اننا لم نتلمّس بعد هذا السياسي الجهذب الذي يجعل من حضوره الفاعل الموجّه الحي لمسار الاحداث والذي يمكنه ان يجمع مهارة مونتسكيو مع قوة بسمارك …
ان الثقافي والسياسي ليسا في ازمة وليسا في افتراق ، وهما حقا بحاجة الى اعادة تعريف وتوصيف !!لان هذا المفهوم الغائم حولهما جاء الينا مثلما يجيء كل شيء دون تصفية وتنقية !!الافكار والحروب والمفاهيم والازمات ..