سوف نأخذ لفظة العلمانية بكسر العين ، من أنها مشتقة من العلم ، ولن نندار إلى الاشتقاق الآخر ، أي العلمانية بفتح العين ، على أنها مشتقة من العالم ،لأن الاشتقاق الأخير لا يستوي لغة من جهة ، ولا يتساوق مع المعنى المراد عند استخداماتنا الكثيرة للمصطلح من جهة أخرى ، ولا نريد أن ندخل في ترف وسفسطة العرض للمسألة ، فضلا عن عدم توفر منهج دقيق يسعفنا للخروج بنتيجة مرضية للفرز ما بين المعنيين في استخدام المصطلح ، فليس أمامنا سوى شذرات قليلة لمفكرينا الأجلاء لا تفي بالغرض ..
العلمانية تقتضي فيما تعنيه، فصل الدين عن الدولة، بحيث يكون للدين مؤسساته ، أو منتدياته الخاصة به كسائر الأندية المدنية الأخرى .. بيد أن العلمانية لا تقتصر على هذا الجانب ، فهي تأخذ إطارا أوسع ، بل أنها تختزن جملة من الدعوات للتحولات التاريخية على أكثر من صعيد ، سياسة ، ثقافة ، فكر .. إلخ وربما أخذت العلمانية أشكالا من المسارات وفقا للظروف، والحالات التي يفرضها السياق التاريخي في كيفية تناول الحدث، ودعنا هنا نستذكر أن العلمانية تزدهر بمدى أوسع وأعمق في البيئات الديمقراطية ، حتى وجدنا أحدهم يقول: العلمانية لها ترجمة واحدة هي حرية الاعتقاد والتعبير، إذا كان ازدهار العلمانية يتطلب مناخات ديمقراطية ، فأيضا..بأجواء من الديمقراطية يندار الناس نحو العلمانية ، ربما وجدوا عندها أجوبة لأسئلتهم ، عجز عن بيانها الفكر ما قبل علمي، ونستطيع القول أنهما – العلمانية والديمقراطية – في ترابط جدلي تستدعي إحداهما الأخرى ، ومن ناحية أخرى فهناك ترابط لا ينفصم عراه بين العلمانية والدين أيضا، فوجدنا من يقول : في ظل العلمانية يزدهر الدين ، ربما أقول موافقا إياه قليلا ومصححا للعبارة بحيث تصبح ، من أن الدين يأخذ مساحة من الراحة في ظل العلمانية ، طالما يحدد مجاله ووسائل عمله.. إن العلمانية لا تعادي الدين كمؤسسات اعتقادية ودور عبادة، لكن العلمانية وقفت بالضد من التفسيرات الكنسية الحرفية المغلقة، وسعيها الدائب للسيطرة على الحياة الاجتماعية، فانتصار العلمانية في آخر المناكفة جاء بالترافق والتزامن مع حركة تنوير في الفكر والفلسفة ومستحدثات العلوم، وأسست دول في مواجهة الكنيسة، ودعا العلمانيون الغرب إلى جعل السياسة من شأن هذا العالم الذي نعيشه، وهذا جعلهم في مواجهة جبروت الكهنة الذين نادوا بالتسليم بالقوى الغيبية والارتهان بالمطلق ، وما حركة البشر إلا عبث في هذه الدنيا الفانية، فلن يغير ما هو مقدر ومكتوب ، نافين عن التغييرات الجوهرية الحاصلة نتيجة صراع وتفاعل القوى الاجتماعية…..إن العلمانية تعطي الحرية للإنسان فيما يعتقد أو لا يعتقد, له حرية الاختيار في أي دين يختار، أو يبقى خارج أطر الديانات ، دون أن يسعى أي منهما فرض آرائه على الآخر ، وبالمقابل طالما تم فصل الدين عن الدولة ، فعلى الدولة أن لا تدس أنفها في قضية الدين بتعبير كريم مروة ؛ ثم أن الدين في جانيه المقاوم كثيرا ما رفض الواقع المعيش، بل قاومه، وربما لاذ إلى الدين في حالة القهر بحثا عن متنفس يريحه ربما قليلا، و هذا الموقف في هكذا حالات هو أضعف الإيمان. ومن هذا الجانب ينقل لنا الدكتور سربست نبي عن ماركس قوله : ” إن الشقاء الديني تعبر عن الشقاء الواقعي، ومن جهة أخرى احتجاج على الشقاء الواقعي ، الدين هو تنهيدة الكائن المقهور ” أي متنفسه في حالة القهر الاجتماعي..
كانت العلمانية عند رواد النهضة العرب، تعني فيما تعنيه نزع الصفة الدينية عن المؤسسات الحكومية، وذلك بالفصل ما بين السلطتين الدينية والمدنية على قاعدة ” مالله لله وما لقيصر لقيصر ” دون أن ننسى أن مواجهة سياسة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تتلفع بطابع الخلافة الإسلامية ، أخذت هذه المواجهة شعار العلمانية ولو بصورة غير واضحة، أي تظاهرت بهذا الثوب ،لاسيما أن كثيرا من النهضويين العرب الرواد ، كانوا من مسيحيي بلاد الشام، شأنهم شأن العلمانيين العرب غير المسيحيين، كانوا مأخوذين بالتجربة الأوربية ، في فصل الدين عن السياسة ، عندما أسفر- بداية- الصراع بين البرجوازية الصاعدة والإقطاعية التي عدت حامية لتوجهات الكنيسة ، بسبب تداخل وارتباط المصالح بين الإقطاعية والمؤسسة الدينية التي يرعاها الكهنة، وبأفول الإقطاعية انكمشت الكنيسة ، واقتصرت نشاطها في دور العبادة من أديرة وكنائس، وتم فصلها نهائيا عن مؤسسات الدولة، وانتهى بتأسيس دول قومية في مواجهة الكنيسة..
لقد أدرك رواد النهضة العرب ، أن حجة الدين الإسلامي التي يتذرع بها العثمانيون ما هي إلا شعار زائف وخادع ، يهدفون من ورائها ديمومة وتواصل سيطرتهم على مقدرات الشعوب الإسلامية، والحيلولة دون تحررها من نير الاستبداد المتخلف، فالتمسك بالوحدة الإسلامية ، كان لقطع الطريق أساسا أمام أية دعوة للاستقلال والتحرر،لهذا فهم اعتبروا مثل هذه الدعوات، ضربة لوحدة المسلمين ، وتفرقة لكلمتهم أمام الغرب الطامع الكافر، ولا يمكن التساهل أو التسامح في هذا الجانب، وتخيل كيف كانت أفاعيل الدين الإسلامي في قلوب المؤمنين، قبل أكثر من قرن، وكيف كانت طاعة أولي الأمر فريضة واجبة ، وكيف أن مثل هذه الدعوات تجلب لأصحابها الشر المستطير ..
بالرغم من وجود علمانيين داخل حركة النهضة العربية في فترة مواجهة الإمبراطورية العثمانية ، لكن الغالبية كانت تحاول أن توفق بين الدين والسياسة في فترة المواجهة مع السلطنة العثمانية ، لكنها ما لبثت أن تقاعست ثم تراجعت ، فعدوا الإسلام مادة جامعة للقوميين العرب، فجاء من المسلمات أن يكون دين رئيس الجمهوري هو الإسلام ، واستحدثت وزارة الأوقاف،ترعى الشؤون الدينية وفيها الآلاف من المؤمنين المنتمين للوزارة، تحديد الدوام في شهر الصوم، فضلا أن دساتير كثير من الدول ، ترى في الإسلام المصدر التشريع الأول..
لقد دخل بعض العلمانيين العرب في إشكالية معرفية، عندما حالفوا بين الدين والدولة لأغراض سياسية ، تراجعا أمام المد الديني، واليوم جميعنا يدفع الثمن، فتشربوا بثقافة الدين ، ونهلوا من معين تراثه الموغل في الماضي، فكل مفسر يفسر الإسلام وفق الثقافة السائدة في عهده ،والثقافة السائدة في أي عصر بالطبع هي ثقافة الطبقة السائدة سياسيا واقتصاديا، هذا إن دل على شيء فإنما يدل على هشاشة العلمانية عند هؤلاء ؛ أو أن الواقع السياسي الضعيف،أو التيار الإسلامي الشعبوي الصاعد، والمستأثر للمشاعر المؤمنة ، كل هذا ربما جرفهم إلى هذه الوهدة، متناسين أن العلمانية في أحد أوجهها هو الفهم العلمي للأشياء،والتأويل العلمي ، عند اكتناه المسائل المطروحة وتفسيرها ومعالجتها بالتالي، فالعلمانية بالأساس ميدانها المعرفة العلمية وليس للتكتيك السياسي، أو لكسب جولة سياسية .
لا تزال العلمانية تقف على أرضية هشة في العالم العربي ، وهذا الواقع هو المحبذ والمستطاب لدى ذوي الشأن في إدارة دفة الدولة، وحيلة ذكية لإرضاء هذا وذاك،وما الصراع الدائر الذي يأخذ طابع الصراع بين القوميين من جهة والإسلاميين من جهة أخرى، فالقوميون عندما يتمثلون في الدولة كسلطة ، سرعان ما تجدهم يحاولون التوفيق بين العلمانية والدين ، فيجذبون بعض رجالات الدين في خدمتهم ، الذين ينادون بقيم القادة ، ثم يحملون حملة شعواء ضد الإسلام السياسي، إيهاما للآخرين بعلمانيتهم، ألم نقل منذ البداية عن هشاشة العلمانية في عالمنا، وهذه إحدى الثنائيات، التي اعتاد عليها العقل العربي …!