هل ادرك العالم ان ثقافوية العنف اصبحت هل الشكل المهيمن والموجّه لحراك الكثير من العلاقات الدولية؟ وهل تحولت مفاهيم صراع الحضارات التي اقترح مفاهيمها هنتغتون وحوار الحضارات على طريقة الليبراليين الجدد امام مفارقة حادة لانتاج المزيد من القلق الحضاري ؟ هل دخل العالم عصر الجنون بعد ايام ايلول عام 2001 ؟ وهل اكتشفت امريكا ان الحل الامبراطوري هو اكثر الحلول سريالية في هذا العصر السريالي جدا؟ وهل اراد العقل الانكلوسكسوني السياسي والطهراني ان يصدّق القراءة الماسونية القديمة بان المعيش دون عدو أمر غير واقعي!! لذا اقترح البحث عن عدو آخر له مواصفات عنفية ساخطة ومنفعلة بعد ان اطمئن على موت الاعداء الاخرين ؟ هل ان ما حدث في نيويورك وواشنطن يستحق هذا الانقلاب الكوني وهذه الحروب التي اكلت من جروف البشر والثقافات والعلوم والجغرافيا والاطمئنان أكثر مما أكلته طائرات اليوم الايلولي ؟؟
يبدو لي ان هذه الاسئلة وغيرها الاقرب الى الفنطازيا تحتاج الى اكثر من وقفة والى اكثر من قراءة !!! ليس لان العقل الغربي/ الامريكاني اعادنا الى هاجس (الاستعمارات) القديمة او ثقافات التبشير ،واقترح علينا انشاء امبراطورية تشبه امبراطورية القيصر!! بقدر ما ان هذه الاسئلة وضعتنا ازاء الشك الكامل بمصداقية حقيقة البحث عن ارضية مشتركة لما يمكن ان نسميه ب(التواصل الحضاري) والوقف بقلق وريبة امام مفهوم الحضارة الثقافية والسياسية التي اقترحها العقل الغرب امريكي ذاته وبشّرنا معها بعصر لاحروب باردة فيه ولا ساخنة!! لانه خاضع لمهيمن واحد يفترض ان العالم اصبح قرية كونية صغيرة وان الاسواق مفتوحة للجميع ،لا ضرائب ولا فيزات ولا شرطة كمارك او تفتيش على الحدود وعند المطارات ، لان المواطن الكوني سيحظى بحقوق دستورية كونية !!
من هنا فان قراءة ثقافة العداوة وثقافة العنف المسلح وربما ثقافة العنف المؤدلج في مرحلة مابعد احداث ايلول عام 2001 ، هي التي تحتاج الى القراءة المعمقة ،بحثا في سرانيتها وفي ملفاتها الامنية والثقافية عن العوامل التي صنعت هذه الجبهات المفتوحة لحروب من العيار الثقيل وغير التقليدي ،مثلما هو البحث عن المبررات التي دفعت العقل الامريكي الى اعادة قراءة كل تاريخ ثقافوية العنف والتطرف الارهاب في التاريخ خاصة في (الشرق) او الذي انتجته ثقافات الاستشراق وكذلك في اطار العلاقات الدولية والدعوة الى ضرورات العودة الى سايكولوجيا الثأر !! والتي كانت جزءا من مثيولوجيا العقل القبائلي/البدوي التي كان يمارسها انحيازا لشرطه الوجودي والاخلاقي !! اذن ما الذي دفع امريكا لشنّ هذه الحملة التي بدأت لكن لا أحد يعرف كيف تنتهي،، لان العدو المفترض غير واضح الملامح !! وليس هو ذات العدو الذي اقترحه المستشرقون ،،وربما اصبح هذا العدو جزءا من عقد تاريخية ودينية وثقافية او هو مزيج اختلطت فيه الثقافات الشعبية والطقوس والامزجة مع ظواهر الجغرافيا الديموغرافية!!
ان الجدل حول طبيعة الصراعات الحادثة مابعد زلزال برجي مركزي التجارة في نيويورك لاينفك يواصل انتاج المزيد من الصراعات الثانوية لكن الاكثر فاعلية ،خاصة في سياق تحويل اطرها من صراعات سياسية الى صراعات دينية وحضارية ،وبالتالي وضع العالم امام تحالفات وتخندقات جديدة ينتفي فيها الحديث عن تاريخ من الثقافات الليبرالية ونضال قوى اليسار وقوى الديمقراطية ،مقابل وضع الكل في سلة الشرق المثيولوجي السحري المعادي لحداثة الغرب ونموذج ثقافاته وافكاره وسياساته ،، اذن هل هذا كله مبرر للحديث عن عمومية صراعية تضغط باتجاه شن حروب عسكرية واقتصادية بمواجهة انماط من السياسة الحاكمة ،وانماط من الايديولوجيا اسهمت الثقافة الغربية/الامريكية وحروبها التقليدية في تخليق نواتاتها في الشرق القبائلي المترع بانماط الثقافات الحافظة للنوع بقطع النظر عن الطرق المؤدية الى ذلك …..
لاشك ان الجميع يتفق ان ما حدث في ايلول الامريكي لايحمل الاّ بصمة العصاب الارهابي الذي لايفكر ولايحاور ولايؤمن قدر اندماجه مع فرضية الموت الميتافزيقي والذي يؤسس ثقافته وخطابه على اساس نظرية ازالة المكاره (من وجهة نظره) بالقوة مقابل الانشداد الى الذات المهيمنة الطاردة لما سواها ، وهذه الفكرة الافتراضية المنسخونة من عقل ماضوي سري لايمكن ان تجد لها مبررات الاّ في ظل فرض هيمنات ثقافية متناقضة لاتؤمن بالاخر الحضاري لاتتحاور معه وتنعته بالكفر ،وان فكرة الحوار معه والتماهي مع حضارته هو نوع الاثم والايغال في الخطيئة،،،،
ولكن مالذي فعله العقل الامريكي السياسي والثقافي والايديولوجي مع هذا النمط من الثقافات الاستلابية وهو المسؤول كما اسلفنا عن انتاج الكثير من الافكار والسياسات والبرامج التي تروج لعنف الايديولوجيا وعنف الدولة !! اليس هو المسؤول عن انشلء ودعم الاف المدارس والمؤسسات التعليمية والثقافية(دعما سياسيا وماديا ولوجستيا) خلال الحرب ضد السوفيت في افغانستان وربما خلال سنوات الحرب الباردة ودعم كل الاتجاهات المناهضة للشيوعية ؟
اليس هو ايضا المسؤول عن تقوية الكثير من الانظمة القمعية لشعوبها ولقيم الديمقراطية ،مقابل نشاطاتها في دعم كل الاتجاهات المناوءة للاتجاهات الثورية ذات المرجعيات الماركسية؟
ان تناقض السياسات الامريكية وحساب مصالحها البرغماتي هو الذي اسهم في صنع هذه الفضاءات الثقافية والتعليمية الي وضع الاسلام السياسي في سياق ايديولوجي لاشأن له سوى انتاج المزيد من ثقافويات العنف والارهاب..
وازاء هذا نجد ان العودة الى التعاطي مع فلسفة الحرب ،هي عودة الى تبني الثقافة التي انتجت هذه العودة !! اذ ان الحديث الذي بدأه فوكوياما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفشل التجربة الشيوعية السياسية والذي جعله مركزا للحديث حول نهاية التاريخ !! والذي بدى وكأنه الحديث عن انتصار قوة مركزية واحدة بعد انتفاء الحاجة الى الصراع تحت قاعدة (انتاج الرعب النووي والرعب الفكري) …ولكن هذا السعي الى خلق فلسفات تؤمن بوجود هذه المركزية والنهاية غير التراجيدية لم تأت من فراغ طبعا ،بل ان فوكوياما الهيغلي الشاطر قد استعار هذه المقولة من افكار معلمه الاثير في الفلسفة المثالية ! والتي اقترحها بعد ان صنعت دولة بروسيا (المانيا الكبيرة ) مركزها القومي العصابي وانتصرت في حروبها تحت راية السيد بسمارك !!
لكن هذه النظرية الاحادية سرعان ما تخلى عنها فوكوياما ذاته !! واصحاب المطبخ الايديولوجي الامريكي الذين توارثوا صنع الفلسفات (المتمردة) منذ هربرت ماركوز وصولا الى صاموئيل هنتغتون الذي اصطنع نظرية صراع الحضارات ،بعد ان اكتشف مع مريديه ان ثمة حضارات اخرى اكثر خطورة من الشيوعية وتحتاج الى حلبة صراع وثقافة صراع ومنظومة كاملة من ايديولوجيا الصراع ،تبدأ من تحديد فكرة العداوة ولا تنتهي عند تفكيك المركزيات القومية والعقائدية والثقافية لهذه الحضارات ،باعتبار ان ما اكتشفه دريدا الذي هو جزء من مشروعه النقدي للعقل المركزي قد استثمرته الثقافة السياسية باتجاه صحيح في نقد كل المركزيات المضادة ..
ان طبيعة ما حمله التحول الصراعي بعد احداث ايلول ،يعكس وجود ازمة استباقية كان يجري بحثها في اطار المؤسسات السياسية والمخابراتية الامريكية وطبعا بالتنسيق مع بعض المؤسسات الاوربية ،بعد ان تصاعد نجم ما سمي بالاسلام السياسي خلال وبعد حرب افغانستان ،والذي كان مدعوما بشكل لوجستي مكشوف من امريكا ومن الدول الاقليمية على مستوى الدفع العسكري وعلى مستوى الدفع الثقافي والايديولوجي التي شيّد لاجلها الاف المدارس الخاصة في باكستان ..ولاشك فان هذا التحول يعكس اساسا طبيعة العقل البرغماتي الامريكي وازمته في عدم التعاطي مع السياقات الواضحة لحركات التمرد السياسي وحركات التحرر الشعبي ، وهذه الازمة لها مثيلاتها ليس في اسيا فحسب ،، وانما موجودة ايضا في امريكا اللاتينية وافريقيا ، ولعل اية مراجعة بسيطة ودقيقة تساعدنا على بيان ذلك ،اذ ان انهيار الكثير من الانظمة الشعبية وبعضها منتخب ديمقراطيا!! يعكس تدخلات المخابرات الامريكية بدءا من ازمات كوبا المتتالية وانتهاء بانقلابات تشيلي والاكوادور وفنزويلا وبوليفيا والسلفادور ،، وهو كذلك ما حدث في الصومال ذاتها قبل سقوط نظام محمد سياد بري ، اذ عمدت الاجهزة المخابراتية الى دعم كل اسباب انهيار النظام تحت حجج فك اشتباكه مع الاتحاد السوفيتي ، وبعد ان حدث فك الاشتباك هذا !! تخلى عنه الامريكان ليعيش وحدته ازاء صراعاته الداخلية التي اوصلته الى الخراب !!
ان تداعيات ما بعد (عصر ايلول) هي تداعيات شمولية انعكست على مجمل وقائع السياسة العالمية وطبيعة العلاقات بين الدول !! وربما حتى داخل النظام الاجتماعي والثقافي للدول الغربية ذاتها !! اذ ولاول مرة تضع المؤسسة الامريكية والغربية نظامها السكاني القائم على اساس الاندماج و قانون المواطنة تحت طاولة اجرائية لاعادة انتاج الثقافات داخل المجتمع الغربي، فبدأت مثلا ازمة الحجاب في فرنسا وازمات المهاجرين والجنسية وقانون العمل ،وفي الغرب الاوربي بدأت ازمات العنصرية ،والتي بدأت في امريكا بعد احداث ايلول مباشرة وتعرض الكثير من العرب والمسلمين والاسيويين الى مضايقات خطيرة..
ولعل ما يحدث اليوم من ازمات خطيرة وعميقة داخل المجتمعات الغربية وتضييق الخناق على الاثنيات الاسلامية والعربية داخلها ، يعكس جوهر أزمة الصراع الذي افتعلته ( الثقافة الصراعية) التي طرحها الهيغيليون الجدد في الادارة الامريكية ،والذين اقترحوا نظاما اجتماعيا وثقافيا يبدأ من اعادة انتاج الخطاب الثقافي والاعلامي والايديولوجي / العقائدي وصولا الى الخطاب العسكري / فرض نظرية القوة ,, والتي هي تكرار لما انتجه ألعقل النابليوني والعقل البسماركي من محاولات اعادة صياغة نظرية (المركز القوي) وربما اجترحه الرئيس الامريكي السابق جيفرسون والرئيس الامريكي الآ خر هاري ترومان صاحب القنبلة الذرية في هيروشيما وناكازاكي !!
ولعل الاخطر من هذا ان هذه الثقافة قد دخلت في الاجندة السياسية والثقافية وحتى الاكاديمية والاعلامية الغربية !! اذ تعرض المواطنون الغربيون من اول غير غربية الى مضايقات كثيرة وخضوعهم لنظام المراقبة والحساسية الاجتماعية وصولا الى ما كشفت عنه جريددة ( التايمس) اللندنية مؤخرا بأن جماعة ارهابية انكليزية هددت المسلمين الانكليز بمغادرة بريطانيا والاّ تعرضوا ل(الذبح) وكأنها اشهار بالسلوك الذي تمارسه بعض الجماعات المسلحة بذبح ابناء الجاليات الغربية في البلاد العربية والاسلامية..
ومن هنا ندرك ان ما تطرحه الولايات المتحدة الامريكية من صياغات سياسية لاعادة تشكيل الخارطة الصراعية في المنطقة وفي الشرق الاوسط عموما تحت مسميات (الشرق الاوسط الجديد ) و(خارطة الطريق) و(الانتصار على الارهاب) وكذلك تداول مفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية وغيرها يدخل في هذا الاطار الذي يحاول ان يعيدنا الى نظام (المراكز) او نظام العرابين وغيرها ،ولعل ما حدث في افغانستان والعراق وما حدث مؤخرا في لبنان وطبيعة التهييج الغربي لليسطرة على المكان الازموي او محاولة السيطرة على الاثار التي تركها فشل العدوان الاسرائيلي على لبنان وبروز حزب الله كقوة مقاومة تهدد نظام المركزة الامريكية/ الاسرائيلية ،يؤكد هذه الحقيقة واشكالية التعاطي معها من منطلق الازمة والحل !!
لقد افرزت مرحلة مابعد (عصر ايلول) عالما فاقدا للاطمئنان !! عالما يبحث عن رومانسيته القومية والثقافية ،ناهيك عن حلول لازماته المعقدة في الوجود والمعيش ،اذ يعيش العالم الغربي المحمي باحدث التقنيات (هستيريا الارهاب) وطبعا هناك مؤسسات ثقافية واعلامية تصنع لهذا الارهاب (مهيجات) تصطنع من خلاله مواقف تنعكس اصلا على جوهرة الفكرة القديمة في اعادة صناعة (المجتمع النقي) الذي يقوم على اساس طرد (الاغيار) أي الاغراب من المهاجرين من هذا المجتمع رغم ان هذه النزعات الشوفينية والعنصرية تتعارض مع حاجات اساسية في هذه المجتمعات مثل محدودية السكان وضعف الانجاب فيها وكذلك توفير الايدي العاملة الرخيصة فضلا عن زيادة حركة رأس المال التجاري ..مثلما وضعت الاحداث الدول الغربية ذاتها امام عمليات انفاق هائلة للميزانيات الخاصة بمواجهة الارهاب ودعم البرامج المضادة له او دعم البرامج العسكرية ونقل الجيوش الى المناطق الساخنة كما يحدث الان في افغانستان والعراق ولبنان ودارفور وتيمور الشرقية!!! ولاشك ان هذا انعكس ايضا على الواقع السياسي العربي والاسلامي ،وتصاعد الازمات الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الاثنية والعرقية والقومية،والتي تتمثل طبعا جوهر التعاطي الامريكي القائم على اساس تفكيك المراكز الثانونية مقابل انتاج مراكز شمولية مهيمنة ..
ان من اخطر تداعيات مرحلة ما بعد 11 /ايلول وشيوع التبريرات الفكرية لمفهوم ثقافة صراع الحضارات هو تصدع الخطوط الدفاعية للثقافات الليبرالية ودخولها تحت يافطة الطروحات الجديدة التي تسعى امريكا اليها في دمقرطة النظام العالمي الجديد وبالتالي فقدانها للروح الحية والخطاب الاستقلالي البعيد عن كل اشكال الهيمنة ، وكذلك اعطاء تأشيرة التموضع للتيارات الاصولية والسلفية في ان تكون صاحبة شرعية في اقتراح حروب دفاعية تجمع حولها انصارا ومريدين ، فضلا عن تبرير بروز ظاهرة العسكرة الحضارية بكل وجوهها بدءا من ظواهر العنف الدموي وانتهاء بالعنف الثقافي والمعلوماتي بما فيها استخدام وسائل الاتصالات الحديثة خاصة الشبكات المعلوماتية(الانترنت) التي اصبحت واسطة الشبكات الارهابية لنشر فكرها واهدافها وعملياتها !!
ان العالم حقا قد دخلت في مرحلة من الفنطازيا السياسية والعسكرية ،وفقدت العلاقات الدولية الياتها في النمو الطبيعي ووقفت امام تصنيفات جديدة لم تكن متداولة ومألوفة ،، اذ ان الدول التي تضررت من هذه التداعيات او انها دخلت في خانة الثقافات الثانوية التي تهددها المركزية الشمولية بالتفكك او الزوال وجدت نفسها ازاء حالة نكوصية مسلحة ،شرعت من خلالها باتجاه تبني مشاريع التسلح النووي واستخدام الطاقة النووية خاصة عند كوريا الشمالية وايران ،والتي تحاول الولايات المتحدة ايجاد السوانح الدولية لتحجيم أثرهما في تهديد المركز الشمولي المفترض وتقليل مناطق انتاج الازمات في العالم ..
ان العالم ما بعد ايلول يتجه الى الرعب ،وان اسئلته تنحو باتجاه قراءة المجهول ،وليس ثمة ضوء في افق ما تحاول ان تقدمه لنا الحضارة الكوزمو بوليتية التي يقال الان ان تجاوزت فلسفة العولمة وطروحاتها المائعة ..