الإخوة في الله ،في الدين ،أحبتنا في النبي عليه أفضل الصلوات ، الآراء التي تفضل بها الشبح الماثل أمامكم ، او ما ندعوه مجازا بالرجل ، ليست سوى تخاريف..مجرد لغو ، إنها آراء تافهة ، ومخبولة ، لعقول منتهية الصلاحية لا تستحق الرد على كل حال ..ثم إن مناقشتها او الخوض فيها مضيعة للوقت في ليلة مباركة ، نجتمع فيها كأحبة في الله ،جدل يستغرق منا زمنا طويلا… دون جدوى .
صمت الفقيه لحظة ،ثم أردف وهو يشيح بوجهه جهة شاب حليق مصدر الإزعاج : ويبدولي إن بعضنا يعرف الكثير عن التفاهة ، أكثر مما يعرف عن المسائل الهامة في الدنيا والآخرة ….
التفت الشاب الحليق فجأة صوب فقيه الليلة وخطيب حي الرحمة ومفتي ديار القرية بامتياز ، وخمن أن طعام عشائها سيكون ثقيلا وعسير الهضم ، ولأنه كما بدا لنفسه سعيدا ومتوازنا ، وهو العنصر الوحيد ،الغريب على ما يبدو في هذا الجمع الطالباني ، وربما كان المسلم العادي الوحيد من بين هؤلاء ،الذي يصلى الفرائض، ولكن ليس بانتظام، وأحيانأ يؤخر بعضها، أو يجمع عدة فروض بسبب انشغالاته، ولكنه في النهاية، كان ينام مسبحاً ذاكرا شاكرا الله جل وعلا لنعمه,وسط هذا التجمع اللافت للحى .
كان متحررأ فكريأ وبالمعنى المشهود للكلمة ،فهو يشاهد الأفلام التلفزيونية مرة كل أسبوع ،والمسلسلات والأغاني والفيديو كليب بمعية أفراد أسرته ، وحينما يسال عن الخطأ والثواب ، وعن الجريمة والعقاب ،فقد كان على الدوام ممن يؤمنون أن الدين لله تعالى ، والأرض للجميع ،وان الحق جل وعلا ، هو وحده الذى يحاسب عباده على أعمالهم.
قدر الشاب أن أمسية على هذه الشاكلة ،لن تكون سوى جهادية ، و بهذا الحشد المؤتلف من كل الأطياف والأجيال والألبسة ،كان وضعا أشبه بامتحان سياقة في حالة سكر .
أجل، كانوا كلهم هنا ، في الموعد ، دون إذن من احد ،نساء ورجالا شيوخا وعجائز ، خيام متحركة سوداء في عمق الظلام ، وأشباح تتسربل بسحنات سمراء تولفها أغطية فضفاضة تمنح الوقت الكافي للنوم والكسل ، تصل حد الركبة ،وتضيق في اتجاه القدمين ، وتكاد لحى أصحابها أن تلامس حوض السرة ،الليلة جهادية ، بله ، ظلامية بيقين .
لمح ، وهو يطرد اليأس ، جحافل خيام تتقاطر ،تتقدم ، ثم تلقي التحية بلا مبالاة ،بإيقاع متشابه ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وأخرى تأخذ لها مكانا في قلب الغرفة التي تتسع بضيقها ، كلما زادها الظلام نسبة ،أما ذاكرته وعلى مدى ساعات طوال ، فقد ارتشفت كمية زائدة من كلام اصفر ،سلسلة خطب فضائيات ، وكلام كثير من قبيل” أن الأنظمة الوضعية السائدة في بلاد الإسلام نظام كفري مقتبس من قوانين اليهود و النصارى،واضعوها شركاء لله في الحاكمية، و العاملون بتلك الأنظمة أو المقرون لها أو المتحاكمون إليها مشركون”
لكن النقطة التي أفاضت ألكاس ، ورفعت ضغط الشاب إلى درجة الإغماء ، كان حديث الفقيه حول تبخيس البصل في الإسلام ، إلى حد التحريم ، وعلى مدى خمس ساعات من التعبئة والحشو الديني ،خلصت أفكارالاهالي الحاضرون ، ونيات سكان هذا الفضاء المجتمعي النائي إلى الاعتقاد بيقين فيما راج جملة وتفصيلا ،وظهر أن تمسكهم الواضح بان البصل حرام ، وان أكله يلزم الابتعاد عن الخلق ، كما يخرج من الدين والملة سيترجم إلى التنفيذ في اقرب فرصة ، ليس استنادا إلى الحديث الشريف الذي تلاه الفقيه أكثر من مرة ، وحفظته الجموع، ورددته الأصوات المبحوحة والمحشرشة جهوريا وبحماس يشد الروح :” من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم” . رواه مسلم ……؟؟؟؟ فحسب ، وإنما لكونه صدر عن فقيه القرية الفاضل ، وحامي حماها ،مما رفعه لدرجة قدر لا مرد له .
كان الشاب قد نوى عدم المكوث طويلا ، خاصة، وهو كما يبدو في الكثير من السجالات هنا او هناك ، من اشد المؤيدين للعلمانية ،و كمن يناصب العداء للدين ، ويوظف طاقته لهدمه ،وسلب أهم خصائصه المتمثلة في الهيمنة على شؤون الحياة وتدبيرها ، وإقامة أمور الناس فيها على أساس العدالة والتنمية .
لذلك ، قرر ، أن يقول كلمة في الموضوع قبل أن ينصرف ، بسمل، ثم انبرى في كياسة:
-اعتقد ياجماعة ، وفي علاقة بموضوع تحريم البصل ، الذي جاء على لسان فقيه الليلة المباركة ، إن الدين في جوهره ، لا بد أن يكون بعيدا عن مثل هذه التفسيرات غير الرشيدة ….لا بد أن ننظر إليه باعتباره تجربة روحية خاصة جدا ، وشخصية جدا. وددت لو أقول ، إن فقيهكم خلع على الدين ثوبا يقزز منه النفوس ،وسعى جاهدا أن يجعله مظهرا من مظاهر المذلة والهوان التي لا يرضى الله بها لعباده. لقد رأى أن البصل حرام ويخرج من الدين….. وهذا أمر فيه نقاش كبير …..لان الفقيه الفاضل يحكم بهواه ، ويزعم انه يفتي بما انزل الله.
صمت قليلا، بلل شفتيه ،ثم أضاف بتوهج: علينا أيها السادة ، إرجاع جميع القضايا التي ترتبط بشؤوننا المدنية والإنسانية من أكل وشرب ولباس … عموما إلى القانون…ثم إلى الشعب…حسب الظروف واكراهات المكان ..
عدل جلسته ، ثم واصل ، رغم تنامي أصوات تقاطع وتستنكر ، ثبت علمياً سادتي : أن عصير البصل يقتل الميكروبات السبحية، وكذلك ميكروبات السل تبدأ في التهالك فور تعرض المريض لبخار البصل.
البصل يحتوي كما تؤكد الابحاث المخبرية على :
– فيتامين سي للتعفن و النشط .
– الهرمونات الجنسية المقوية للرجال .
– مادة الكلوكنين وهي مثل الأنسولين تضبط السكر في الدم .
– الفسفوروالكالسيوم والحديد بكميات كثيرة .
– كبريت , وحديد , وفيتامينات مقوية للأعصاب .
– مواد مدرة للبول ,و الصفراء , منشطات للقلب .
– خمائر و أنزيمات مقيدة للمعدة .
– و مواد منشطة منبهة للغدد و الهرمونات …..
تدخل الملتحي مقاطعا بعد أن استجمع قواه :
– أخي الكريم هل تستطيع أن تنفي حديث النبي صلوات الله والذي روى….بإسناد صحيح أن النبي…. :” من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم”
– أقاسمك فهمك الخاص لمضمون الحديث النبوي الشريف …..لكن دعني اتمم حديثي أولا..
– ا سمع أخي الكريم, الذي خلق الداء خلق الدواء أيضا ،و كل هذه الإمراض التي أتيت على ذكرها، أدواء لها علاج واحد في السنة النبوية الشريفة …ويبدو انك لست من العالمين بالطب الشعبي …
صمت برهة ثم أضاف في فرح :
.لعلك لم تعرف الحبة السوداء بعد……
– بلى.. سمعت كثيرا عنها ، الحبة السوداء من عينة الدواء المأثور الذي لا ينفع ولا يضر…
وكمن زلزلت الأرض تحت قدميه ، انبرى متسائلا في غضب :
هل الأخ مسلم؟؟ ثم استطرد :
اقصد ..هل تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله….؟؟
أكمل الشاب بقية المأثور في خشوع زائد :
-واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره . ثم أستسمح الحضور،وأضاف شيئا مهما . قال : إن القانون أسمى شريعة تنظم البشرية و بدون قانون لا تستقر امة مهما على شانها ، وبدون أخلاق قويمة تستمد أسسها من الدين في صفائه ، لا يحترم قانون ، وبدون إيمان حقيقي نابع من القلب ، لا تسود أخلاق.
كان الجميع ينصت ، وفي لحظة:
– أنت إنسان فاشل …علماني..أنت كافر… قال الفقيه في ثقة.
– لا تتعجل سيدي..لا اعتقد أن ثمة رجل فاشل ، لكن ثمة رجل بدأ من القاع وبقي فيه .
أدرك الحليق أن الأمر بدأ يخرج على نطاق السيطرة..عدل جلسته رشف من كاس الشاي البارد قليلا ثم قال :
-التكفير يااحبتي في عرف فقيهنا وأمثاله ، إعدام مؤجل إلى حين استعجال حدوثه مع توفير شروطه الدينية ،والتنقيب عن اسناداته ومبرراته التي على المقاس… أي لحين توافر من سيقتنع بحديثه وسينفذ فتواه ، وسيطلق الرصاص على الضحية
قد نتفق جميعا أن هذا النوع من التخمين هو منطق من يمتلك عقلا انتهت صلاحيته . هل تصدقون؟؟ الكثير منا يمتلك عقولا انتهت صلاحيتها ، انها باتت تعتقد أن
الكرة الأرضية بقاراتها ومحيطاتها ، لها وحدها ، لكي تعيش ، وتسود ، وتمرح، أو تتعرى، أوتسدل لحاها ، كما يحلو لها ومتى تشاء ، متناسية أن الله جل جلاله خلق وفرق ، :ولو شاء ربك لجعلها امة واحدة :
هناك أناس آخرين يعيشون معنا على نفس الكوكب ، سيدي ، تصور ، شاءت سياقات وثقافات وحكامات ، أن يتبوءوا مراكز الأفضلية على مستويات متقدمة ، في الاقتصاد والتكنولوجيا ، في الفكر والسياسة والعلوم ، وتشاء نفس الاختيارات أن تبؤئنا كعرب ومسلمسين ،مراكز غير محترمة ، وهم كذلك ، نختلف معهم في الأفكار والدين والثقافة ،وهذا حقنا ، وكما نحس بأننا ندافع عن ديننا وثقافتنا وتراث أجدادنا ،أو بالأحرى كما “نريد نحن أن نعيش أحرارا ولا نقبل تدخل احد في أفكارنا وديانتنا وطريقة حياتنا التي ورثناها عن ثقافة أجدادنا، فأولئك الآخرين أيضا يختلفون عنا ، ويريدون الشيء نفسه” وهو محقون. بهذا المعنى أليس كذلك سيدي وأخي الكريم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ،
علق الملتحي دونما لياقة :
– إذن أنت من الرافضين للدين حتى ولو جاءت به الانتخابات؟؟؟
– ارفض تسييس الدين حتى ولو أتت بها 7 شتنبر…2007…إيه لديك اعتراض؟؟؟ أسبل الفقيه جفنيه بخبث ولم يرد.
في لحظة قرر الحليق المضي قدما في التحدي وقال بمودة:
لكن وجب التأكيد على احترامي المطلق واللامشروط للمعتقدات الدينية لبني البشر كيف ما كان. ليس بسبب لونه او جنسه او لغته وإنما باعتبار ذلك أمرا شخصيا…
وفيما يشبه الشرح والإلمام ، انبرى فقيه الجلسة يسرد الأحاديث والاسنادات صحيحها وغيره ، في ما ظل يعتبره دفاعا عن الملة في وجه أعداء الدين ، و لساعات طوال ، ظل يلعن الشيطان وبني أعمامه وأخواله وبني جلدته ، والمنتسبين إلى قارته . وخلص في النهاية إلى القول كخطيب جمعة:
واستطرد فيما خيم صمت جامد على المكان …
لقد اشتملت مبادئ الإسلام إخوتي في الله على منهج للحياة ملائم للإنسان في كل أطواره وظروفه ، فيه الرحمة بالإنسان ، وفيه هدايته إلى ما فيه الخير والصلاح والقوة والمناعة ضد كل ما يفسد الفطرة ويضر بالجسد والروح ، وفيه ما يحقق له سكينة الضمير وراحة العقل وطمأنينة النفس ، ويضمن له السعادة في الدارين.
أدرك الشاب الحليق ان استقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول ،وأورد حديث عطاء عن ابن عباس: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال: ” أمؤمنون أنتم ” فسكتوا فقال عمر: نعم يا رسول الله قال: ” وما علامة إيمانكم ” قالوا: نشكر على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء فقال صلى الله عليه وسلم: ” مؤمنون ورب الكعبة ”
هذا صحيح… لكن ما العمل إذا تعارض الواجب مع السنة ياسادة ؟
– يقدم الواجب-
صاح شاب في العشرين وهو يمسح لحية ويسبح ،وأضاف بعد أن مشط المكان بحدسه
– هل هناك من يعترض على هذا الكلام ؟
ساد صمت أشبه بمقبرة ، وفي لحظة انبجس صوت جهوري فض،
سمعنا واطعنا…
لمعت عينا “الملتح”و كما لو كان سيحقق اكتشافا مذهلا ، في لحظة ، اقتحم النقاش والزبد يتطاير من فمه ، مثل حصان جامح :
– إذن أنت تكفر برسالة محمد، وبحديثه الطاهر، المروي بإسناد صحيح: ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) رواه مسلم ……؟؟؟؟ اللهم اشهد ها قد بلغت…. ؟؟؟؟؟