على كل من يؤمن بالعراق الجديد بعد سقوط الدكتاتورية ونهاية استبدادها وعلى كل حريص على الشعب العراقي والوطن أن يعمل جاهدا على تقويم وتصويب العملية السياسية بالعراق بوصفها الحل الأمثل المتاح في اللحظة الراهنة، اتساقا مع معطيات الواقع الموضوعي وظروفه الملتبسة المعقدة؛ وفي ظل مدّ ديني طائفي، مرارته أقل مخاطرها أنها قاتلة.. وهو على أية حال مدّ ما زال في بداية طريقه وستكون نتائجه الحتمية إذا ما استمر على هذا التغول والإيغال والمغالاة الموت والعذابات والأحزان والسواد للعراقيين والدمار والخراب والتقسيم للعراق رغما عن إرادتهم [إرادة العراقيين] في التعايش والفرح وتنوع أطيافهم ووحدتها، وبتقديري فإن المثقف هو من ينبغي عليه أنْ يؤشر على مواطن الخطأ ويعطي العلاجات والحلول وهو من يقول هذا خطأ وهذا صواب في ضوء نسبية الظواهر في الحياة والطبيعة، ولا وجود لصواب مطلق أو خطأ مطلق.
وانطلاقا من هذه المقدمة أرى بأن السرقة واستشراء ظواهر الفساد الإداري والمالي الواضح والمفضوح في جميع مرافق الدولة العراقية أصبح مفهوما و [مقبولا!] ما دمنا تحت قيادة طائفية لحكومة تسمى تعسفا [من بعضهم] حكومة وحدة وطنية على الرغم من التهميش والإقصاء للآخرين، وفي مقابل ذلك معارضة مقاومة أو إرهاب طائفي يسمى تعسفا بالمقاومة الشريفة وكأن كل من في العراق عدا المقاومة الشريفة لا شرف له.
أما أن يتعدى ذلك إلى أساليب وطرق أخرى مبطنة مستترة متعكرفة ملتوية جديدة ليست مسبوقة على الأقل في العراق، وبطرق غير مباشرة، وعن طريق استغلال أجهزة الدولة لصالح رجال الدين أو طائفة أو قومية معينة فهذا ما لم يكن يخطر لنا ببال أو يمر لنا بحسبان.
الدخل القومي أو الثروة القومية أو المال العام هو نتاج جهود العراقيين وملكهم جميعا، ولهم الحق في الحصول على عائداته عن طريق تفعيل أجهزة الدولة وتطويرها بتقديم الخدمات العامة مثل الكهرباء والماء والتعليم وبناء المستشفيات والمصحات وتجهيزها بأحدث الأجهزة الطبية وبناء المدارس والجامعات ومؤسسات البحث العلمي وتطوير النقل العام والطرق وبناء المصانع والمعامل وإيجاد فرص العمل ومعالجة البطالة ورعاية الأطفال وإنشاء مرافق اللهو العامة مثل مدن الألعاب والحدائق العامة وحدائق الحيوان والمنتجعات السياحية والمسارح والسينمات والصالات الرياضية والمسابح لإضفاء السعادة والفرح والجمال والصحة (الجسمية والنفسية ) على حياة العراقيين؛ وزيادة الدخل وتحسين الأحوال المعيشية، ورفع الحد الأدنى للأجور وبما يليق ويتناسب مع ثروة العراق الضخمة المتنوعة والدخل القومي المتنامي نتيجة لارتفاع أسعار النفط والتصنيع المرتقب، والعمل على تحويل العراق من دولة ريعية معتمدة على النفط كمصدر شبه وحيد للدخل القومي إلى دولة علمية صناعية متطورة تساهم في صناعة الحضارة العالمية.
والسؤال الآن هو هل يتم توظيف المال العام لصالح المجتمع كما هو المنطق الموضوعي؟ الجواب: كلا؛ لا يحدث هذا البتة، فالمال العام يتبعثر ويستغل هنا وهناك في غير محله، ولا تخضع أوجه الصرف في الدولة العراقية لرأي المتخصصين أو السياسيين الوطنيين ويبدد في أنشطة وفعاليات خاصة بقيادات أو فئات طائفية أو قومية باتت معروفة لا علاقة لها بالشعب العراقي.
وللمثال وليس الحصر نتناول في هذا المقال المناسبات الدينية
ولنأخذ مثلا الزيارات المليونية سيرا على الأقدام ولعديد من الأيام من كل أنحاء العراق إلى المدن المقدسة حيث مراقد الأولياء الصالحين الأطهار الذين كانوا مثلا للتطلع لعمار الأرض المستخلفين عليها.
هذه الزيارات وهي عديدة متعددة مستمرة تقريبا طوال أيام السنة ولا يخلو شهر منها، إذ لا تكاد تنتهي زيارة حتى تبدأ أخرى والتي تستغرق أياما وبعضها قد يستغرق الأسابيع [مع الاستعدادات والتحضيرات وما يلزم لها…] وغالبا ما تكون خاصة محصورة بفئة من طائفة بعينها ولا علاقة لها برؤية الطائفة بأجمعها ولا نقول بالعراقيين كافة!؟ فضلا عن حالة استغلال المناسبات الدينية العامة للمسلمين. ولم تعد هناك مناسبات وطنية جامعة لأنها استبدلت معظمها بمناسبات طائفية تزيد الاحتقان وتعبئ للتفرقة والتخندق والتشنج وتعميق التوتر وتمهد الطريق لمليشيات الطوائف المختلفة [من أبناء الدين الواحد والشعب الواحد] للاقتتال والتصفيات الجسدية.
لنرصد بموضوعية وعلمية فوائد ومضار هذه الزيارات المليونية وتأثيرها على أحوال العراقيين وعلى مستقبل العراق ونحاول أن نشخص المستفيد:
فوائدها:
أولا روحية ونفسية ولجزء بعينه من طائفة وليس لجميع أبناء الطائفة دع عنك الحديث عن العراقيين جميعا، ولا ضير في ذلك والناس أحرار فيما يعتقدون وما يمارسون من طقوس ومراسيم على أن لا يكون في هذه الممارسة ضرر للآخرين أو للعراق.
ثانيا مردودات مادية ومالية لرجال الدين والقيِّميين على هذه المراقد المقدسة ومعنوية لإدامة سيطرة وسطوة المعممين على الجموع.
ثالثا إطالة أمد تدخل الدين بالدولة لصالح رجال الدين والمعممين.
رابعا إشغال الوعي بالمهم عن الأهم والحيلولة دون تطور وعي المدركات الضرورية للحياة.
المضار:
أما المضار فمعظمها تثقل كاهل الشعب العراقي وتكلفه الأموال الطائلة التي يمكن أن تصرف في تحسين أحوال العراقيين لا سيما وهي استحقاقاتهم المالية وحقوقهم الطبيعية على الحكومة العراقية.
ومن أشكال التعطيل وبعثرة الجهود تكمن في:
أولا تشكيل غرفة عمليات خاصة بكل زيارة وهذا يعني إشغال من يعمل لدى الدولة بعمل خاص معين وانشغاله عن وظيفته الأساس ويعني أيضا صرف رواتب من المال العام.
وثانيا إشغال المستشفيات وسيارات الإسعاف وهي عامة لكل العراقيين، وترك من هو بحاجة إليها من العراقيين فريسة للموت، لتأمين متطلبات الزيارة المليونية وطبعا الصرف يكون من المال العام.
وثالثا تخصيص قسم كبير من الجيش والشرطة والعديد من الأجهزة الأمنية لتأمين الطرق لزوار العتبات المقدسة يدفع لهم طبعا من المال العام، بدلا من الضرورات التي تتطلب التركيز اليوم على حماية العراقيين من اعتداءات الارهابيين وقطاع الطرق، وبدلا من العمل على الحد من القتل اليومي ووقف ظاهرة العثور على جثث من دون هوية وهكذا يبقى الهمّ من أجل حماية مسيرات دينية مفتعلة ويمكن العمل بها في ظروف أهدأ لأتباعها وللعراقيين جميعا فحتى الحج أبيح للمؤمن به ألا يؤديه إلا في ظروف مناسبة فما الذي يُلزِم بممارسة طقس في غير تهيئة ولا ظرف ملائم هذا دعونا عن مسائل من نمط الحاجة لإقامة شبكة واسعة كبيرة من نقاط التفتيش وعلى جميع الطرق من المحافظات والمدن العراقية إلى كربلاء والنجف وسامراء وغيرها.
رابعا لنقرأ في تصريحات وزارة الدفاع: طائرات القوة الجوية العراقية تقوم بجولات استطلاعية ضمن خطة تأمين الطرق وحماية زوار العتبات المقدسة، وهذه تكاليف ورواتب تصرف من المال العام طبعا.
خامسا غلق كثير من الطرق وحظر سير المركبات وتقسيم العراق وتقطيع أوصاله بنقاط تفتيش وتعطيل وشل الحياة بمجملها خلال أيام الزيارة ومن ثمَّ أيضا خسائر مادية كبيرة للدولة وللمواطنين.
سادسا تعطيل عجلة العمل والإنتاج والخدمات العامة والدراسة ولأيام كثيرة من السنة ما يزيد من تخلفنا عن ركب الأمم التي تسير حثيثا إلى الأمام وتأثير ذلك على الدخل القومي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التنمية.
سابعا استفزاز واستنفار بقية العراقيين من هذه الحالة والتخوف المشروع من الاستئثار بالسلطة والدولة والثروة من قبل فئة في طائفة معينة وبأدلة ملموسة واقعية ما يدفع بالمعتدلين الى معاداة العملية السياسية والحكومة وتدفع بالمتطرفين إلى مزيد من الإرهاب. وهنا نؤكد أن المغالاة بالشعائر والطقوس الطائفية بطرائق لا تراعي الأوضاع العامة سيعمِّق الإرهاب ويزيد من القتل والتمزق والفرقة ويستنزف المال العام من دون وجه حق.
ثامنا تعريض جزء كبير من شعبنا للخطر كما حصل على جسر الأئمة، أو بانطلاق الإرهاب في رحاب العراق بعد انشغال الأجهزة الأمنية بالزيارات المليونية، أو ما قد يحصل نتيجة الانقسامات في الطائفة الواحدة والتي لا يمكن للأجهزة الأمنية رصدها في الزيارات، لا سيما وان الإرهاب لا يزال يعصف بالعراق وبأغلب مدنه من الشمال إلى الجنوب. ولن ينفع ضحايانا عزل شرطي من عمله ولن يعيدهم إلى الحياة أو يعوضهم عن خسائر في الأرواح وفي الممتلكات…..
تاسعا استغلال وإشغال الفضائية العراقية أكثر ما هي مشغولة بالبرامج الدينية لهذه الطائفة، إذ عليها تغطية هذه الزيارات وشرح ماهيتها وحيثياتها واستحضار زمانها بصراعاته والتي لا دخل للعراقيين بها لأنها ليست مناسبات عراقية عامة أو وطنية.
والفضائية العراقية ستكون موضوع المقال التالي
تراجي ذهب
تدخل الدين بالسياسة له عدة وجوه أجملها بشع