يشكل البكاء أو الحزن حجر الزاوية في حياة العربي ولاسيما ممن يجيدون التعبير عن معاناتهم ومعاناة أقرانهم وأبناء جلدتهم فالشعر العربي بدأ بالبكاء في أول رجل بكى واستبكى شعرا وهو الملك الضليل ( امرؤ القيس ) الذي جاش صدره حزنا على الحبيبة والمنزل حين بدأ معلقته الرائعة بمطلعها الخالد ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللوى بين الدخول فحومل ). إن الثيمة التي تعود عليها العربي في حله وترحاله هو الحزن والبكاء ولذلك نجد أنفسنا ـــ كعرب ـــ ذوو تقاسيم وملامح حزينة لأن مافي داخل الإنسان ينعكس على وجهه وحياته كما يقول العارفون بالفراسة, يحكى أن رجلا دخل إلى مقبرة في الشام فوجد القبور مكتوب عليها هذا قبر فلان بن فلان عاش ثلاثة أيام وهذا قبر فلانة بنت فلان عاشت سبعة أيام وهكذا على بقية القبور عاش يوما واحدا أو شهرا أو إسبوعا فسأل القيم على المقبرة مستفسرا هل هذه المقبرة مقبرة أطفال ؟ فأجابه قائلا : كلا إنها مقبرة للكبار لكن هذه الأيام القليلة المدونة على شواهد قبورهم هي ألأيام السعيدة التي عاشوها في حياتهم !!! . ولذا يرتبط العربي ارتباطا وثيقا بالحزن والبكاء منذ نعومة أظفاره فهو يستمع وهو صغير السن في حظن أمه إلى تلك الترنيمة الحزينة التي تجعله ينام وهو حزين وما إن يشب عن الطوق حتى يكون الحزن ملازما له حتى قال ابن طيفور:( من عاش لم يخل من هم ومن حزن / بين المصائب من دنياه والمحن ) فيتخذ الحزن من وجوه العرب ترسيمات وخطوط وتجاعيد في الوجوه والعيون بل إن الموروث الغنائي واللحني يتخذ الغالبية العظمى منه اللون الحزين الذي يبعث على البكاء والعويل واستذكار الأحبة الذين رحلوا بلا عودة والهموم التي لاحصر لها ولقد دأب الأدباء بنظم أحزانهم شعرا كيما يحاكوا به ذاتهم وذوات أبناء جلدتهم الذين يتشاركون معهم الهم المشترك قال إبراهيم المازني: ( جرعتني الأيام ألحان حزن / فنظمت الدموع للناس شعرا ) ولقد انقسمت الأحزان إلى أقسام منها: الحزن على الحبيبة قال مجنون ليلى: ( أكابد أحزاني وناري وحرقتي / ووصلك يا ليلى أراه بعيد ) والحزن على الشباب قال أبو العتاهية: ( بكيت على الشباب بدمع عيني / فلم يغن البكاء ولا النحيب ) والحزن على الديار المتروكة كبيت أمريء القيس السالف ذكره وحزن على الأوطان كقول إبراهيم قفطان: ( أثار على العراق غبار حزن / يرى وجه النهار به سوادا ) وهكذا دواليك من الأحزان والبكاء فتقاسيم الحزن كثيرة متنوعة طويلة ومتفرعة غريبة ومتفردة دائمة وغير منقرضة وتجد الأحزان كامنة في صدر العربي تتهيج بين فينة وأخرى باقتران شرطي متناغم مع رؤيا وسماع لشيء ما فقد هيجت بعض الحمامات أحزان جعفر الحلي فنراه يقول: ( وهيجن أحزاني وهن كوامن / حمائم في أعلى الغصون صوادح ) أما بعض الشعراء فقد بثوا أحزانهم اللامتناهية إلى الله سبحانه وتعالى قال العماني:( بثثت إليك احزاني وكربي / وحالي عنك ربي لاتغيب ) أما بعض الشعراء فقد نفدت دموعهم من البكاء كالشاعر أشجع السلمي الذي يقول: ( بكائي كثير والدموع قليلة / وأنت قريب والمزار بعيد ). إن الحزن والبكاء حالة متأصلة في حياة الفرد العربي الذي يعيش ويموت بأحزانه اليعقوبية. قديما قالوا: إضحك تضحك لك الدنيا إبك تبكي وحدك فقد قدر للعربي أن يبكي وحده فهل سيأتي اليوم الذي تضحك الدنيا بوجه العربي لكي تفر الأحزان من حياته إلى الأبد ويستبدل عنوان معلقته ويكتبها (قفا نضحك ) ؟ .