ويبدو أن العراق هو قدري الذي يلاحقني في كل مكان أحل به في هذا العالم الذي أصبح صغيرا بفضل سرعة المواصلات والعولمة، فلم يكتف بدمغي “بحبة بغداد” في خدي الأيسر بل أبقى على لهجتي العراقية بكل لغة أتكلم بها والتي يدعوها بعض رقيقي المشاعر في أسرائيل بلهجة “قـَوْقـَوْ”، والتي كان صديقنا موريس شماس المعروف بأبو فريد، الفنان من أصل القرائين المصريين في دار الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية والذي يرى أن الله حبا اللهجة المصرية بموسيقى وبسحر ليس بعدهما سحر، بل تفوق اللغة الفرنسية روعة وغنائية وموسيقى، لذلك كان يبدي امتعاضه من لهجة يهود العراق التي تتشدق بحرفي القاف والعين خاصة، فقد كان يهود العراق الأغلبية في دار الإذاعة ومديرها عراقي أصيل وهو شاؤل بار-حاييم، والناس على دين ملوكهم، ولذلك فلهجتهم هي السائدة حتى بين العرب المسلمين في الاذاعة الاسرائيلية ومنهم أبو جرير (نور الدين الدريني) المشرف على البرامج الدينية. وكان بعض الموظفين يغيظون أبو فريد المصري بقولهم: “يقلك حسقيل قتغيد قحوة لو مقتغيد، متقول بقا!”. فيقول لي وهو يقلب القاف ألفا والجيم “كيم” مصرية: “أبدالك سامي، أنا “آف” (قاف) عرائية واحدة بتجيب أجلي، فإزاي أعمل ويا كل الآفات دي، والله راح أموت، ألحؤني يا ناس!”. كما أن لهجتي العراقية تزعج بعض الأشكناز من ذوي الآذان الرقيقة المرهفة التي تعودت على السنفونيات الأوروبية الرائعة بالإضافة إلى آذان المثقفين المصريين من محرري مجلة “فصول” الذين كتبوا عن الإسرائيلي ذي اللهجة العراقية الذي زارهم في مكتبهم بدار الكتب القومية بالقاهرة، زاعمين كذبا وبهتانا، إنهم طردوه من مكتبهم. وقال صاحبنا الذي روى هذه الحادثة “هذول الأساتذة المصريين ما راح يصير براسهم خير عَلْ مَا يقعدون أعوج ويحكون عدل”. فبالرغم من روعة شعرائهم باللغة العربية الفصحى، فقد تعودت آذانهم على قلب “القاف” إلى “ألف” وعلى عذوبة اللهجة المصرية ولكن هذه العذوبة لا تظهر في الأغنية الشعبية”ما أللي وألتلو وماللي وملتلو” المائعة المقرفة. وفي هذه المرة أيضا لاحقني العراق الذي أصبح بعد الهجرة إلى إسرائيل كابوس أحلامي خوفا من أن يكتشف هويتي العابرون المغمغمون في السوق القديم، في سوق الشورجة، أو رواد مقهى مخزن “الجينكو” قرب فرن الصمون في البتاويين، وذلك لأني كنت أجد نفسي أسير في شوارع بغداد وفي جيبي جواز سفر إسرائيلي. ففي عام 1948 يوم إعلان استقلال إسرائيل كنت أسير مع شاؤل ابن خالي داهود ساسون وريمون أخي، أمام فرن الصمون ونحن نسخر من الطريقة الشعبية في التعبير عن مدى حبهم للآخرين بمد ذراعهم الى الجانبين بقولهم “آني هلكد أحبك!” شاهدني أبو جراوية في الثلاثين من العمر وأنا امزح معهما وذلك في يوم إعلان استقلال دولة إسرائيل أو “دولة عزرائيل” كما أعلن عنها مذيع محطة الإذاعة البريطانية. وقف أمامي أبو الجراوية معترضا طريقنا ونظر إلي بغضب وأهوى على خدي بصفعة مباغتة ظالمة أذهلتني وآلمتني. كنت أعرف كل لابسي الجروايات في البتاويين، أما هذا فهو غريب عن العكد. أدهشني اعتداؤه، لأني كنت أرى نفسي معززا مكرما في البتاويين، فقد عرف الجميع بأني نلت المدالية الأولى في الملاكمة بوزن الديك ويجب الحذر من معاكستي. صحت بأبي الجراوية: “يا كلب يا ابن الكلب! ليش تضرني وبيش تندعيني؟ آني مكدك وتضربني، والله هسا اروح أكله الأبوي يخابر العقيد منير ويجي يكسرلك راسك وينعلك والديك يا ابن الكلب!”. قال له أبو سالم صاحب المقهى ومن معارف والدي: “ولك كواد اشسويت؟ مشفت غير ابن ابراهيم تضربه. متعرف هذا جسر ويبهدلك، أكسر إيديك رجليك إذا مديت إيدك عليه!”. جلس أبو الجراوية على تخت في المقهى وقد امتقع وجهه وهو يرتجف غضبا ويقول: أيهود! كواويد! صار عدهم دولة وعلم! ويضحك عليّ!”. وآلمه كيف يهينه فتى يهودي ابن الخامس عشرة من العمر وهو من الذين اعتادوا أن يقولوا لليهودي الذي يصفعونه: “إبني! لما يضربك المسلم خذ له تمنـّي (تحية) وروح على مهجومك”. عدوتُ إلى دارنا لآتي “بفزعة” من الأصدقاء اليهود والعرب من العكد، فلما عدت إلى المقهى وبيدي توثية وربعي ورائي يقولون “أشو وينه الكواد! الابن الكحبة، راح انأدبه ونعلمه يعرف أوادمه!”. لم أجد أبو الجراوية، قال أبو سالم صاحب المقهى: “سامي إحنا متأسفين، شرد بعد ما سبينا وطردناه، هذا غريب من العكد. بس انكضا نوب اللآخ، ننعلك والديه!”. كانت بوادر مثل هذه الاعتداءات قد بدأت عام 1947 مع الاضطرابات في فلسطين. كنت صديقا لجاسم حارس مخبز الصمون قرب المقهى والذي يقارب سنه سني، وعندما علم بأني اجتزت امتحان الشهادة المتوسطة بتفوق، صار إذا مررت به يقف احتراما لي ويضع يده اليمنى على صدره وينحني قليلا كما يفعل الكبار عند مرور شخصية محترمة. وعند مروري ذات مساء قرب تخته الذي يجلس عليه للحراسة وهو جالس مع صديق له، قام من التخت ووقف احتراما كما اعتاد أن يفعل. سأله صديقه: – منو هذا اللي وكفتله!- هذا سامي، صار عنده شهادة مال المتوسطة! – زين سامي هذا مسلم لو يهودي؟- أيهودي،- ولك أممداك، توكف ليهودي الكافر؟- مو عنده شهادة، هذا متعلم ومثقف!- خلـّي، وذا؟! ميصير مسلم يوكف احتراما لليهودي ولا للكفار!- وليش ليهودي كافر؟- كلمن مو مسلم هو كافر!- ها، صـُدُكْ؟- والله، روح اسأل أبوك! ومنذ ذلك المساء لم يعد جاسم يقف احتراما لشهادتي وصار إذا رآني مقبلا لزيارة بيتي خالي حاييم وخالي ساسون في شارعه، يدخل الي المخبز أو يتظاهر بأنه لا يراني. وهكذا فقدت الشعور بأهميتي كحامل شهادة ومن أبطال الملاكمة في المدرسة. ومن ذلك الحين أصبح أصدقاؤنا يعتدون علينا بالكلام والمسبات، حتى أن دعيير مساعد عبد الجبار صاحب دكان لإيجار البايسكلات هدد أخي ريمون بالسكين. طار عقل ريمون غضبا، هذا صديقنا اللي كان “ياكل الراجليات” من عبد الجبار عندما يغيب عن الدكان ويطالبه بإعادة ما حصل عليه من الدخل، فإذا أعطاه مبلغا زهيدا يقوم عبد الجبار بضربه على فكه، فتتطاير النقود التي أخبأها في فمه وقد اعوج فكه، فيقوم عبد الجبار بضربه على الجهة اليسرى من الفك لتعديله ورده إلى مكانه، وكنا نشفق عليه من هذه الاهانات التي كان يوجهها اليه أمامنا وللضرب المبرح الذي كان يضربه. وجاء ريمون وقد أخذ الغضب يتطاير كالشرر من عينه. صاح بي عندما رآني:- سامي تال، هسا تجي، دعيير جر السكين عليي! – ليش؟ – هسا ما وقتا، قأقلك تال!وجدت دعيير واقفا وعلى وجهه إمارات الخوف لرؤية ريمون الغاضب بصحبتي!- ولك كلب ابن الكلب! أتجر السكين عليّا؟ضرب ريمون دعيير بكلابند وركب صدره وهو يكيل له الصفعات، “ابن الكلب! أشو طلعتْ عينك، والله هسا أكسرلك راسك، يالله وين السجينة؟”.”فاككت” ريمون وأقمته من على صدر دعيير الذي صار يبكي ويقول “والله بعد ما أسويها، دفك ياخة عني، بس عاد، بس عاد!”ومنذ تلك الحادثة أدركت أن أيام العز والصداقة والود ولــّت إلى غير رجعة، وصرنا ننتظر ما تخبئه لنا الأيام من المفاجآت إلتى توّجها أو الجراوية بصفعته الرنانة احتفالا باستقلال إسرائيل وتذكارا لا ينسى منه إليّ. وفي عام 1952 كنا جماعة من الأصدقاء نحتفل بعيد استقلال إسرائيل على شاطئ تل أبيب. عرّفني أحد الأصدقاء بشاعر عربي وسيم تبدو على وجهه مخايل الذكاء والفطنة، قدم نفسه بأنه “الشاعر راشد حسين” من مصمص من قرى أم الفحم، ومنذ ذلك الحين انعقدت بيننا أواصر صداقة حميمة وخاصة في نطاق فعاليات الهستدروت (منظمة العمال). وقد رأى فيه حزب العمال الموحد “المابام” بغيته في تكوين كادر من المثقفين العرب لقيادة الحزب معهم أملا في نشر التعاون والإخاء بين اليهود والعرب، فعينوه في هيئة تحرير جريدة “المرصاد” ومجلتي “الفجر” و”المصور”. أدركت بأن أمامي شابا ذكيا يعبر عن عواطفه وأفكاره بحرية مطلقة ولا يحاول التزلف إلى الآخرين والتظاهر بما لا يشعر به، فازداد احترامي له. دعاه البعض للمشاركة في رقصة الهورا فاعتذر وقال: “بدكم الصحيح (تريدون الصدق)؟ أنا لا اشعر بالفرحة معكم في عيد استقلال إسرائيل، لا أدري لماذا!”. ما أن سمعت كلمة “استقلال إسرائيل”، حتى مددت يدي دون وعي مني أحمي خدي الأيسر متذكرا هدية أبو الجراروية في يوم ظهر فيه نجم في رابعة النهار رأى فيه بعض العراقيين فألَ شؤم ٍ. فهمنا مشاعر راشد حسين وتعاطفنا معه حتى عندما ترك البلاد إلى نيويورك عام 1967 وعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وسافر في عام 1971 للعمل في دمشق في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقلت لنفسي لو عبر يهودي في العراق عن مشاعره القومية بمثل هذا الصدق، ماذا كان سيكون مصيره؟ فقد كانوا يحكمون على اليهودي بالسجن بتهمة “تشم منه رائحة الصهيونية أو الشيوعية أو بكلتيهما معا”. حمدت الله بأني أعيش في بلد يحترم آراء الآخرين ولا يأخذ فيه كل مواطن القانون بيده ولا يوجد فيه حجر على الأفكار. لعنت السياسة والحروب والأحقاد والحواجز التي يخلقها البشر للتفرقة بين الشعوب والأديان والمذاهب السياسية، وكنت أسائل نفسي، أي النظريات والأديان والأفكار تستطيع هدم الحواجز بين الشعوب وإحلال السلام والوئام والتعاون بينها لخير الإنسانية جمعاء؟؟؟