رسالة تقدم بها لنيل الماجستير:
ادى دخول الشيخ محمود حفيد زاده مدينة السليمانية اعلانه في تشرين الثاني 1922 عن قيام “مملكة كوردستان المستقلة” فيها، وكونه “ملكا لها” ادى إلى احراج موقف المندوب السامي البريطاني في العراق والحكومة النقيبية، الأمر الذي دفع بالأول لمفاتحة وزير المستعمرات في السادس عشر من تشرين الثاني مقترحا اصدار “بيان يتضمن اعتراف حكومتي العراق وبريطانيا بحقوق الكورد ضمن الحدود العراقية.
لم يكن مقترح المندوب السامي سوى مناورة قصد منها كسب الوقت لحين تشكيل حكومة اقوى من الحكومة النقيبية تستطيع اجراء الانتخابات، وتواجه الاتراك الذين كانوا يقدمون الدعم للكورد، لا حبا بهم، بل لاستخدامهم ورقة ضغط لتحقيق بعض اهدافهم، خصوصا في مضمار تقرير ولاية الموصل، ونجد ذلك واضحا في الصيغة التي تضمنها الاعلان البريطاني بخصوص الكورد في الحادي والعشرين من كانون الأول سنة 1922، فقد نص على ان:
“تعترف حكومتا صاحب الجلالة البريطانية والحكومة العراقية بحقوق الكورد الذين يعيشون ضمن حدود العراق بتشكيل حكومة كوردية ضمن هذه الحدود، وتأمل في ان تتوصل العناصر الكوردية المختلفة، وبالسرعة الممكنة إلى اتفاق بينها حول شكل الحكومة التي يرغبون بتشكيلها، وارسال وفد مسؤول إلى بغداد لمناقشة علاقاتها مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية والحكومة العراقية”.
تكلف عبدالمحسن السعدون بتشكيل الوزارة الجديدة التي كان متوقعا منها ان تنجز ما لم تستطع الوزارة السابقة انجازه من اعمال، وفي مقدمتها اجراء انتخابات المجلس التأسيسي، ومعالجة الوضع القائم في المنطقة الكوردية.
حاول رئيس الوزراء الجديد، بعد تشكيل حكومته في العشرين من تشرين الثاني 1922، ان ينتهج سياسة من شأنها ان تحقق انفراجا نسبيا في الحياة السياسية، من قبيل افساح المجال امام الصحافة للتمتع بحرية اكبر، واعادة المنفيين السياسيين إلى العراق، وتعهد بالعمل من أجل “صيانة الحريات العامة” و”منع المداخلات غير القانونية في الانتخابات”.
حاول الملك فيصل الأول ان يستخدم نفوذه، فأتصل بعدد من شيوخ الفرات الأوسط، واقنعهم بأن البروتوكول الملحق بالمعاهدة مع بريطانيا يعد كسبا للعراق، وان الشروع بالانتخابات ضروري، فوافقوه على رأيه ما عدا عدد قليل منهم، ابرزهم السيد محسن ابو طبيخ الذي صرح انه غير قادر على مخالفة رأي علماء الدين الذين افتوا بتحريم المشاركة في الانتخابات الأمر الذي كان يعكس رغبة الملك في فصل الشيوخ عن رجال الدين عن طريق استمالتهم بامل ان يتم بهذه الطريقة انجاح الانتخابات، وتصديق المعاهدة مع بريطانيا.
لم يكتب لهذه المحاولة النجاح بسبب رفض المندوب السامي لها خوفا من ان يؤدي ذلك إلى تفاقم التسيب في المناطق العشائرية من جهة، وتوقعه ان تقليص مدة المعاهدة من شأنه ان يؤثر على الانتخابات ايجابيا من جهة ثانية.لم تكن مقاطعة الانتخابات في منطقة الفرات الاوسط وجنوب العراق هي العائق الوحيد امام حكومة عبد المحسن السعدون، بل شهدت المناطق الاخرى صعوبات جديدة في اجرائها، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تجر عملية الانتخابات في الموصل بالشكل المطلوب لان عدد الناخبين الاوليين الذين سجلوا فيها كان قليلا قياسا إلى عدد سكان اللواء الذي كان يضم عددا من الاقضية والنواحي الكوردية. وعلى الرغم من ان المتصرف عزا ذلك إلى الخوف من التجنيد الاجباري، الا ان واقع الحال كان يشير إلى ان “مسالة استقلال كوردستان وتكوين دولة كوردية في السليمانية”، واعلان الشيخ محمود ملكا عليها اثرت، بصورة او باخرى، على الانتخابات في الموصل، لان الاقضية الكوردية “دهوك وزاخو وعقرة العمادية” كانت تشكل اربعة اقضية من مجموع سبعة اقضية فيها.
حاول التقرير البريطاني لعام 1923-1924 ان يربط بين حركة الشيخ محمود في الشمال وبين اصدار الفتاوى الدينية في الفرات الاوسط والجنوب، فاشار إلى تردد السياسة البريطانية في اتخاذ ما يلزم ضد حركة الشيخ محمود، وتكوينه “دولة كوردستان المستقلة”، مما دفع العراقيين للاعتقاد بان بريطانيا تسعى لخلق حزام كوردي تحت سيطرتها الدائمة لكي تتمكن بواسطته من تطويق السكان العرب عن طريق الجبال، وقد استغل ذلك القادة الدينيون الذين قاموا بالافتاء ضد الانتخابات، ومنع اتباعهم من المشاركة فيها.
وهكذا فشلت الانتخابات التي بدأت في تشرين الأول 1922 في ان تأتي بمجلس تأسيسي يعقد اجتماعه الأول في كانون الثاني 1923 كما كان مقررا له، فلجأت الحكومة ودار الاعتماد إلى اساليب قسرية لتحقيق مبتغاها في انهاء المقاطعة للانتخابات، فضلا عن اتباع الاساليب السياسية للوصول إلى اهدافها، وكان في مقدمتها الجولة التي قام بها الملك فيصل، على مدى احد عشر يوما، زار خلالها العديد من المدن العراقية، واتصل بعدد من وجهائها من عرب وكورد وغيرهم، وحث سكانها على المشاركة في الانتخابات لسحب البساط من تحت اقدام رجال الدين، وانهاء الدور الذي يمكن ان تحدثه فتاواهم بين السكان، فاثمرت جهود الملك فيصل الأول لانه كان يحظى باحترام خاص لدى اوساط الرأي العام العراقي، كذلك بفضل اسلوبه في الحديث والتفاهم مع الشخصيات المؤثرة في المناطق التي زارها، واقتناع بعض القطاعات الجماهيرية بان تقليص مدة المعاهدة كان تنازلا من بريطانيا امام الموقف الصلب للعراقيين، مما كان له دوره في تهيئة الاذهان لتقبل المشاركة ثانية في الانتخابات.اسهمت الصحافة العراقية المؤيدة للحكومة، والمساندة لها من جانبها بالدعوة للمشاركة في الانتخابات، لاسيما بعد بروز مشكلة الموصل على سطح الاحداث، في التأثير على الموقف من الانتخابات للمجلس التأسيسي بصورة او باخرى، وكان ذلك فرصة سانحة لحكومة عبدالمحسن السعدون لكي تشغل الراي العام العراقي بهذا الموقف بعد توقف الانتخابات، ولتحشده حولها لتقوية مركزها بعد ان اضعفه فشلها في ايجاد أول مجلس تأسيسي للعراق، فكتبت صحيفة (العاصمة) الموالية للحكومة، والناطقة باسم “حزب الحر العراقي” طالبة عدم اثارة الراي العام في الوقت الحاضر في مسالة الانتخابات إلى ان تتوصل الحكومة إلى رفع سوء التفاهم الحاصل بسبب موقف رجال الدين ومشكلة الموصل.
ونشرت صحيفة (العراق) تصريحات رئيس الوزراء ووزير الداخلية وكالة عبد المحسن السعدون الذي اكد فيها “ان الجزء اليسير ممن كان منخدعا باغواء الغرباء… قد تبدلت افكاره، وهم الان يتسابقون للاشتراك في الانتخابات العامة بكل عزم”، وعزا ذلك إلى ما شاهدوه من حسن نوايا الحكومة، واستطرد مؤكدا ضرورة تصديق المعاهدة مع بريطانيا من قبل المجلس التأسيسي، لان عدم تصديقها ستكون له عواقب خطيرة ترك تقديرها “إلى منتخبي الشعب الثانويين، فانهم لا شك يهمهم امر الاحتفاظ بكياننا الذي لم ينله الشعب العراقي الا بعد ان بذل الجهود الكبيرة في سبيله”.لم يقتصر الامر على الصحف المؤيدة للحكومة، وانما امتد ليشمل حتى الصحف المعارضة لها أيضا، فان صحيفة (الاستقلال) التي كانت في البداية متمسكة بحماس بضرورة مقاطعة الانتخابات، قد غيرت لهجتها، وبدأت بالدعوة لالغاء المقاطعة، وتؤكد بنفس الحماس ضرورة الاشتراك في الانتخابات بعد زوال “أي مسوغ شرعي يبرر الاستمرار في المقاطعة” على حد ماذكرت كان على حكومة عبدالمحسن السعدون ودار الاعتماد معالجة وضع المنطقة الكوردية لكي لا تصبح عائقا امام اجراء الانتخابات، فقامت السلطات البريطانية بقصف المناطق الثائرة من كوردستان بقسوة، وحركت قواعد عسكرية إلى الموصل بحجة حماية الحدود الشمالية للعراق . ويبرر التقرير البريطاني ذلك بالاشارة إلى “ان اختفاء فكرة وجود كوردستان مستقلة سيؤدي الى تبدل مركز المقاطعات الكوردية في العراق تبدلا جذريا” بعد ان اضحت “معاهدة سيفر حبرا على ورق، وانتفت الحاجة إلى موادها التي منحت الكورد حقوقا معينة”.اضطر الشيخ محمود إلى مغادرة السليمانية في اوائل آذار 1923 متوجها إلى المناطق الجبلية من كوردستان، فاعيدت السيطرة البريطانية على منطقة راوندوز في الثاني والعشرين من نيسان، وبعد اسبوع وصل ممثل عن المندوب السامي يرافقه مستشار وزارة الداخلية نيابة عن الحكومة العراقية اليها، وتقرر الحاقها بلواء اربيل وتعيين قائممقام لها وبعد ذلك واصلت القوات البريطانية تقدمها نحو مدينة السليمانية فدخلتها في السادس عشر من أيار 1923 دون مقاومة تذكر بسبب انسحاب المدافعين عنها. لكن هذه القوات لم تبق في المدينة طويلا، فقد انسحبت منها تاركة اياها بدون إدارة، فعاد اليها الشيخ محمود واعاد سيطرته عليها، إزاء ذلك وجه المندوب السامي تحذيرا إلى الشيخ محمود طالبا منه عدم التدخل في شؤون بعض المناطق التي حددها له، وعدم “التآمر على الحكومة العراقية”، ووعده انه في حال التزامه بذلك فانه لن يتخذ ضده أي اجراء على حد قوله. واصدر المندوب السامي أوامره في ان يستمر المفتش الاداري البريطاني في كركوك بعمله كوكيل عن المندوب السامي، وضم الاقضية التي دخلت تحت سيطرة الحكومة من لواء السليمانية إلى لوائي اربيل وكركوك.
الاجراءات التي مهدت الطريق لاشتراك المناطق الكوردية في انتخابات المجلس التأسيسي.
عدت حكومة عبدالمحسن السعدون ان الظروف اصبحت مواتية لاستئناف الانتخابات مجددا، فابرقت وزارة الداخلية في التاسع من تموز 1923 إلى جميع المتصرفين تعلمهم بقرار مجلس الوزراء باجراء الانتخابات في الثاني عشر من تموز، وضرورة اتخاذ الاجراءات اللازمة لانجاحها عن طريق الغاء الهيئات التفتيشية السابقة وتأليف هيئات جديدة، واكمال القيود والسجلات الخاصة بذلك. ومن جانبهم فقد اكد المتصرفون تسلمهم للبرقية، ومباشرتهم الانتخابات، وتقرر تخلية المستشفى الملكي الواقع في جانب الكرخ من قبل الجيش ليكون مقرا للمجلس التأسيسي.