في الرابع والعشرين من حزيران من كل عام يتذكر الكردي في سوريا بمرارة الغريب عن وطنه كيف مورس بحقه مع غيره من المواطنين الكرد في سوريا ما يسمى “الحزام العربي” الاستيطاني في الشريط الشمالي لمحافظة الجزيرة، حيث تم تجريد الآلاف من الفلاحين والعوائل الكردية من أراضيها غصباً وبالإكراه؟
أكثر من ثلاثة عقود مرت على ذلك المشروع العنصري الذي طبقته الحكومات البعثية بحق مواطني سوريا من الكرد بعيداً عن كل القوانين والقيم الانسانية والدينية.
في منتصف الخمسينات من القرن الماضي وبعد بروز التيار العربي القومي، بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واندلاع الثورة الكردية على يد الزعيم مصطفى البارزاني في أيلول 1961، ثم حصول الانفصال بين سوريا ومصر عام 1961، تحول الواقع السياسي نحو المزيد من التعصب في الفكر القومي، ونبذ كل ما هو مختلف من اثنيات وقوميات ضمن الوطن الواحد وأخذت هذه الفكرة القومية المتعصبة تمارس سياسات استثنائية على أرض الواقع.
الملازم الأول محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية في محافظة الحسكة والمسؤول عن الملف الكردي آنذاك، كان قد أصدر كرّاساً في بداية الستينات تحت عنوان: (دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية ـ الاجتماعية ـ السياسية)، يضم الكرّاس توصيات خطيرة جداً تهدف إلي كيفية صهر وتذويب الكرد وحصارهم ودفعهم للهجرة في سبيل طمس الهوية الكردية وتعريب أرضهم، لكن الأبرز ما جاء فيه هو مشروع الحزام العربي على شكل مقترحات. فمقترحه رقم (8) ينص على اسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود، فهم حسب هلال “حصن المستقبل وجهاز رقابة على الاكراد، ريثما يتم تهجيرهم”.
بعد استيلاء حزب البعث في سوريا على السلطة عام 1963، قررت حكومة البعث تعريب المناطق الكردية شعباً وأرضاً وهوية، واستعانت بأجندة وخطط محمد طلب هلال العنصرية، فأعادت طبع الكرّاس في 12/11/1963 وقامت بالاستيلاء على آلاف الهكتارات من أراضي الفلاحين الكرد، وتشكيل ما سمي مزارع الدولة.
بعدها لجأت إلى جلب مواطنين عرب واستقدامهم من محافظتي حلب والرقة إلى المناطق الكردية، وتسليمهم الأراضي المستولى عليها والتي وصلت إلى (مليون) دونم، انتزعت بقوة السلاح والترهيب من أصحابها الكرد وهم سكان (335) قرية يقطنها أكثر من 150 الف نسمة من السكان الكرد.
بتاريخ 24 حزيران 1974 اجتمعت القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم برئاسة الأمين القطري المساعد رئيس لجنة الغمر، حيث أصدرت قرارها العنصري رقم (521) والمتضمن: إعطاء الأوامر التنفيذية لتطبيق “الحزام” على الواقع، وتفويض المسؤولين المعنيين باستلام الأراضي الزراعية ومحاصيلها وتوزيعها على المستوطنين وفق استمارات وجداول نظمت مسبقاً. وخلال عام 1974 ـ 1975 بدأت قوافل المستوطنين العرب تصل إلى المنطقة الكردية (الجزيرة) وشرعت الدولة في بناء تجمعات نموذجية لاسكانهم مع حراسة من قوات الجيش والأمن.
هذا المشروع الاستيطاني قوبل من الكرد في سوريا بالنقمة والاحتجاج والغضب، ودفع العديد من الفلاحين الكرد حياتهم في سبيل الأرض والهوية، حتى قيل إن مياه نهر الخابور تلونت بالدم الأحمر من الجانب الكردي والمستوطنين العرب.
لكن المشروع استمر بسبب قلة الوعي الكردي، وتفشي الفقر والجهل في صفوفهم، وسيطرة الاقطاع والاغوات على الحياة الاجتماعية والسياسية الكردية، وتواطؤ بعضهم مع الدولة وحزب البعث في سبيل الحفاظ على مصالحهم الشخصية.
بلغ عدد المستوطنات المشكلة 42 مستوطنة (15 في منطقة سري كانيي المعربة إلى رأس العين، 12 في منطقة قامشلو، 15 في منطقة ديريك المعرّبة إلى المالكية). واستفادت من الأراضي المستولى عليها نحو 4500 عائلة، ونطاق الحزام العربي امتد طوله 275كم، وبعرض بين 10 ـ 20 كم ومن أقصى شمال شرق الجزيرة، إلى تخوم محافظة الرقة غرباً، وحصلت كل عائلة استيطانية على مساحة (150 ـ 300) دونم من أخصب الأراضي الزراعية في الجزيرة وسوريا.
وحتى كاتب هذه السطور تعرّضت قريته التي ولد فيها، للتعريب والاستيطان فبعدما كانت تسمى “تنوري” تم تعريبها إلى اسم “تنورية قديمة” وتشكلت مستوطنة عربية جديدة إلى جانبها، وسميت تنورية جديدة. قامت بعد السيطرة والاستيلاء على نحو سبعة آلاف دونم من اراضي الفلاحين الكرد. طبعاً هؤلاء المواطنين العرب جيء بهم إلى المناطق الكردية من قبل أجهزة الأمن السورية، وذلك بعد بناء سد الفرات، وغمر مياهه لأراضيهم شبه الصحراوية وغير الصالحة إلا للرعي، كتعويض لهم عن الضرر. والبعض من هؤلاء المستوطنين رفضوا أن يكونوا أدوات بيد النظام السوري والعيش على حساب لقمة الغير من الكرد.
البعثيون لجأوا إلى مشروع الاستيطان كنهج لأجل الصهر القومي للكرد السوريين وبناء جدار بشري عربي عازل، مؤلف من العوائل والعشائر العربية المستوطنة، يفصل بين كرد سوريا وغيرهم من أبناء ملتهم من الكرد في كردستان العراق وتركيا، حيث التواجد السكاني الكردي الكثيف على طول الشريط الحدودي.
حكومة البعث وعبر فكرها التوتاليتاري الشمولي، رأت أن الحدود المصطنعة التي قسّمت المنطقة ومنها كردستان على أثر اتفاقية (سايكس ـ بيكو 1916)، حيث وجد الكرد انفسهم تحت حكم كيانات قومية (العراق ـ سوريا ـ تركيا ـ إيران)، لا تفي بالغرض، وأن هناك وجوداً كردياً يشكل خطراً على مشروعها العربي القومي، وانطلقت من ثقافة الاقصاء ونبذ الآخر المختلف، والقضاء على القومية الكردية، حتى كان لها أن رعت وغذت فكرة مشروع الحزام العربي تجاه مواطنيها الكرد، وقد تلاقى هذا مع عمليات التعريب والاستيطان التي مارسها البعث العراقي أيضاً بحق الكرد العراقيين والمسيحيين في سهل نينوى وكركوك ومندلي وشيخان، وتفريغها من سكانها بالقتل والتهجير والإرهاب، وزرع مستوطنات عربية مكانها.
نظام البعث في سوريا لم يكتف فقط بمشروعه الاستيطاني، بل مارس سياسة تعريب بحق المواطنين الكرد على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ولجأ إلى أساليب غير انسانية، واستثنائية، وتمييزية بحق الكرد، من تعريب لأسماء المدن والقرى الكردية، ومنع الأسر الكردية من تسمية أولادهم بأسماء كردية وتحويلهم إلى الأمن السياسي في كل ولادة، أيضاً منع أصحاب المحلات الكردية والشركات والمؤسسات من تسميتها بمعاني أو رموز كردية.
حتى أن المكتشفات الأثرية ضمن المناطق الكردية كان يتم تسجيلها على لوائح محافظات أخرى (الرقة، دير الزور) من أجل طمس وتغيير تاريخ المنطقة الكردية.
هذا المشروع التعريبي ما زال سارياً بمختلف أشكاله بحق المواطنين الكرد السوريين، والآن في مثل هذه الأيام يسعى نظام البعث السوري إلى نفخ الروح من جديد في سياسته الاستيطانية، عبر استقدام عائلات عربية جديدة إلى المناطق الكردية، فبعد أن حظيت الحكومة السورية بخسارات كبيرة على أثر خططها السياسية والاقتصادية، وتفشي الفساد، وانحلال الدولة وسلطتها وغياب القانون، وفشل مشروع الحزام العربي، وانهيار مزارع الدولة، قامت السلطات بإلغاء مؤسسات مزارع الدولة، بقرار من القيادة القطرية لحزب البعث رقم (83 لعام 2000م)، وتفكيكها وتسليم أراضيها برسم الأمانة إلى مؤسسة إكثار البذار موقتاً، ومن ثم إصدار قرار بتوزيعها على العاملين في تلك المزارع، وقد حصلوا فعلاً على البعض منها، أما ما تبقى من الأرض فيتم توزيعها على المتضررين من ما يسمى محمية جبل عبد العزيز في محافظة الحسكة، وحصل المتضررون منها على تعويضات مالية وصلت في حدها الأدنى إلى ألفي دولار، أي (100) الف ليرة سورية.
أما الفلاحون الكرد الذين استولت الدولة على أراضيهم وحوّلتها إلى مستوطنات عربية منذ عام 1963 فيقدر عددهم بعشرات الآلاف، وهم يعيشون في ظروف حياتية قاسية جداً، كانت نتيجتها الهجرة الداخلية إلى دمشق وحلب، وأيضاً إلى لبنان والإمارات وأوروبا بحثاً عن لقمة العيش.
ورغم كل هذا نجد أن الحكومة السورية تسعى في مشروعها الاستيطاني الجديد في منطقة ديريك حيث قامت بإبرام عقود بين الرابطة الفلاحية فيها وبين 155 عائلة عربية تضررت من إنشاء محمية جبل عبد العزيز، ومن سد الباسل على نهر الخابور حسب زعم السلطات السورية (13/6/2007)، واحضرت تلك العائلات لتوطينها على أراضي خمسة قرى كردية هي: (خراب رشك المعرّبة إلى سويدية شرقية 3520 دونماً ـ كري رش المعرّبة إلى تل اسود 1500 دونم ـ قديريك المعرّبة إلى قادرية 240 دونماً ـ كركي ميرو العرّبة إلى تل أمراء 220 دونماً ـ قزرجبي المعرّبة إلى قضاء رجب 80 دونماً).
مجموع هذه الأراضي الخصبة يصل إلى (5560) دونماً، وفجأة وجد معظم سكان تلك القرى الأصليين، والذين استصلحوا تلك الأراضي، أنفسهم لا يملكون أي قطعة أرض ويعيشون تحت خط الفقر.
المعارضة الكردية في سوريا، ومنظمات حقوق الانسان، والمثقفين الكرد، أدانوا هذا المشروع الاستيطاني الجديد وحذروا النظام البعثي من تطبيقه على الأرض، لأن ذلك يحمل في طيّاته بذور فتنة طائفية ستؤدي إلى إشعال حرب أهلية بين الكرد والعرب المستوطنين، ونتيجتها شرخ كبير في الوحدة الوطنية وزرع الكراهية داخل سوريا.
وكذلك دفع المشروع الجديد بالكثير من المستوطنين العرب السابقين إلى الطمع بالمزيد من الأرض، بدعم وتشجيع من حزب البعث والجمعيات الفلاحية، ونقابة الفلاحين، وأجهزة الأمن والمخابرات، في سبيل افقار المناطق الكردية وتشريدهم، فأهالي قريتي “الصحية” و”عين الخضراء” وهما مستوطنتان للعرب الغمر والذين جلبوا في السبعينات إلى منطقة ديريك، طالبوا بأراض جديدة.
في عام 2006 حاول بعض المستوطنين العرب الاستيلاء بالغصب على أراضي فلاحين كرد في قرية (كركي زيرا) المعرّبة إلى تل خرنوب (12 كلم شرق القامشلي)، مع حماية من العسكر والشرطة والمخابرات، ومن ثم الاعتداء بالضرب على سكانها الكرد لدى ممانعتهم واعتقال سبعة منهم.
منطقة ديريك تقع على الحدود التركية العراقية وهي زراعية سياحية بالدرجة الأولى، وتملك أراضي زراعية خصبة، وهي المنطقة الأولى التي طبّق فيها الحزام العربي منذ أيام الرئيس جمال عبد الناصر، ابتداء من قريتي الزهيرية والأحمدية على نهر دجلة عام 1957، وهو مستمر حتى الآن، وتسعى الحكومة السورية لتعريب تلك المنطقة من خلال المشروع الاستيطاني الجديد، بتعاون ما بين حزب البعث ووزارة الزراعة ورئاسة مجلس الوزراء والأجهزة الأمنية الحاكمة لسوريا، المشروع الاستيطاني الجديد يحمل الرقم (168 تاريخ 1/4/2007) مع موافقة وزير الزراعة والإصلاح الزراعي علي سفر وتنص: “نرغب اليكم استئناف عملية استكمال توزيع أراضي منشآت مزارع الدولة وفق ما تضمنه محضر الاجتماع وموافقة رئاسة مجلس الوزراء، وحسب الأسس المعتمدة بكل من قراري القيادة القطرية رقم 83 لعام 2000 ورقم 168 لعام 2006، والتعليمات المنفذة لهما على أن يشمل ذلك: الفلاحين المغمورة أراضيهم ـ فلاحي محمية جبل عبد العزيز ـ أصحاب المعاملات الموقوفة لديكم بسبب وقف عمليات التوزيع ـ باقي الفئات حسب الأفضليات المحددة بالتعليمات النافذة”.
المعارض السوري النائب محمد مأمون الحمصي يقول في الاستيطان الجديد: “إن توصية حزب البعث وقرار وزارة الزراعة بنقل 155 عائلة عربية إلى مناطق كردية تعيش تحت الفقر والحرمان، وهو دليل جديد وشاهد حي على مدى حقد وكره هذا النظام إلى الاخوة الكرد، لتعزيز الفرقة ونشر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، عرباً وكرداً، بطريقة خبيثة شيطانية أعتاد النظام عليها، ويجب أن يعلم الجميع أن المشكلة ليست عربية كردية، ولكنها بعثية أسدية يجب مواجهتها بالحكمة والتماسك، عرباً وكرداً، لضياع الفرصة على النظام الديكتاتوري الفاشي”.
أما الدكتور هيثم مناع المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الانسان فيرى: “بأن التوطين الاجباري لعرب في مناطق ذات أغلبية كردية تمزيق لمبادئ الجمهورية، هذه المبادئ غير المحترمة لا في المؤسسات التي أصبحت جملكية، ولا في آليات العمل الديكتاتورية الأمنية، والنتيجة بكل بساطة زرع اسفين الكراهية بين القوميات والخوف من الآخر في مكونات الشعب المختلفة. التوطين والتهجير إجراءات غير دستورية على الصعيد القانوني الوطني وهي مناهضة لمبادئ القانون الدولي لحقوق الانسان الذي التزمته سوريا بكل ما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية منذ عام 1969، وللأسف كلما قامت الحكومة بإجراءات من هذا النوع تتعزز يوماً بعد يوم مشاعر الفرقة بين الشعبين، وتصبح ردود الفعل الشوفينية سائدة على حساب التآخي والتعايش والتمثيل الديموقراطي المتبادل للأفراد والجماعات دون تمييز”.
الدكتورة وداد عقراوي رئيسة منظمة الدفاع الدولية ـ الدانمارك والناشطة في هذه القضية تقول: “القرار جاء مخالفاً للعهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان، ولقرار القيادة القطرية رقم 83 لعام 2000 والذي قضى بحل مزارع الدولة وتوزيع أراضيها وفق محضر اجتماع صدّق من رئاسة مجلس الوزراء تاريخ 27/11/2007، ومخالفاً لنص الدستور السوري النافذ في المساواة بين المواطنين والتوزيع العادل للثروة، ونحن كمنظمة تدافع عن حقوق الانسان يهمنا تفادي الكوارث الانسانية، وضمان العيش الكريم، وإحقاق الحق لكل انسان، ولذلك نناشد الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وكافة المنظمات الدولية والمؤسسات الرسمية للضغط على النظام السوري لأجل وقف تنفيذ خطة الحزام العربي في محافظة الحسكة، وتوزيع الأراضي بشكل عادل على أبناء المنطقة”.
(*) صحافي كردي سوري مقيم في لبنان