الرئيسية » مقالات » بانوراما العبث في العراق

بانوراما العبث في العراق

في الكثير مما تنشره الأهالي الزاهرة،لمحات وومضات تستحق الإشادة والرد والتعقيب،وكثيرا ما حاولت تجنب التعقيب والرد على ما ينشر فيها،خوفا من الاتهام بالاستبداد والسلبية،وكم الأفواه،والتضييق على الحريات،فالعراق الديمقراطي ألتعددي الفيدرالي،يسمح بالرأي والرأي الآخر،ويفسح في المجال لتلاقح الأفكار والآراء،لذلك أرجو أن لا يحسبني الأستاذ المهندس ماهر حسن،ممن يحملون الأحجار في جيوبهم لرجم من يخالفهم الرأي،فلست من أصحاب الحجارة،وحجارتي لا تؤذي،فهي لينة ناعمة تحاول التوضيح في موقع التصريح،لذلك أرجوا أن يكون في سعة صدره مجالا،لأبدي رأيا قد يوافق رأي الأكثرية،وأن جاء مخالفا لما يراه،ففي مقاله لمحات من بانوراما العبث في العراق الحديث،المنشور في عدد الأهالي216 الصادر في 25 تموز البائس/2007 ،أورد الكاتب الكثير من الآراء والتصورات،أو كما يقول اللمحات،التي يستحق كل واحد منها وقفة طويلة،والمزيد من العناية،ولكنه مر عليها مرور الكرام،بلمحات ذكية،دون الإسراف على القارئ بالكلام المسهب الطويل،ولعلي أوافقه في الكثير منها ،وأخالفه في بعضها الآخر،لذلك ستنصب ملاحظاتي على هذا البعض،وخصوصا ما يتعلق بثورة تموز البائسة على رأيه الكريم،فيما يراها الغالبية من الشعب العراقي مجيدة حميدة رائعة،وتراها القلة انقلاب مشئوم أضر بمصالحهم،وهذه نتيجة الثورة التي يتضرر منها البعض ويستفاد آخرين،تبعا لتصوراتهم التي نحترمها ونحترم خلفياتها التي يعرفها الجميع،فقد أورد قول جدته رحمها الله،صاحبة التفكير السليم والمنهجية العالية في التحليل السياسي”حوبة الملوك” فيما تقول جدتي رحمها الله”شارة المظلومين”،وشتان بين الرأيين،فجدتي التي ذاقت مرارة العوز والحرمان ترى في تموز الخلاص الأكبر،وجدته التي استلبت ضياعها وصودرت أراضيها تراها وبالا على العالمين،وهذا هو الفرق في التفكيرين والتوجهين،فالكل ينظر إلى الأمور من وجهة نظره الطبقية،والصراع الطبقي هو الأساس في النظرة إلى ثورة تموز التي أيدها الملايين،وحاربها القلة من النفعيين والأقطاعين والموتورين،وما في قاموس تلك الأيام من تعابير ،نحاول تجاوزها هذه الأيام،فالحفاة العراة أمثالي كانوا من المباركين للثورة والمؤيدين لها،أما مالكي وسائل الإنتاج والنفعيين فكانوا بالضد منها،لذلك تكون الأحكام ضمن هذين المنظورين،فجدته المرحومة كانت تنظر لحكام العهد المباد على أنهم حملان وديعة عاشت الشعوب في ظلال حكمها بخير ورفاه،وجدتي تراهم ذئاب مفترسة أتت على الزرع والضرع،ولعله معذورا في ذلك ،فهو على ما يبدوا كان غائبا تلك الأيام،فأعتمد على جدته الكريمة،ليأتي بجملته البائسة “فمنذ تلك الثورة البائسة،تموز1958،وشعب العراق يدور في دوامة متلاحقة من الصراعات الأهلية والإقليمية والدولية فضلا عن عدد لا حصر له من الدسائس والمؤامرات والاغتيالات…الخ” وأحب أن أتوقف لدى هذه النقطة المركزية من مقاله،لأبين له خطل أرائه وتطرفها،فالأستاذ على ما يبدوا،لم يقرأ أو يطلع على الوضع العراقي أبان العهد الملكي،والمظالم الحادثة والاستغلال والاستحواذ لطبقة من أشباه المتعلمين والأميين ،لا تمتلك من المؤهلات ما يجعلها أهلا لتسلم قياد السلطة في العراق،فكان المجلس النيابي من رجال الإقطاع وشيوخ العشائر الأميين،والكثير من الوزارات تسلم قيادها من لا يملكون مؤهلات علمية،بل أن بعضهم يمهرون الكتب بمهرهم لعد أجادتهم القراءة والكتابة،ولعله لم يطلع على الخلافات الإقليمية بين العراق وجيرانه في تلك الفترة ومحاولة أشراك الجيش بمؤامرة على سوريا لإسقاط نظام الحكم ،والخلافات مع السعودية ومصر وغيرها،ولم يسمع بأعداد المعتقلين لأسباب سياسية ،ونقرة السلمان كما لا يخفى علامة بارزة في تاريخ العهد الملكي،لم يدانيها إلا قصر النهاية ألصدامي في السبعينيات،ولعله لم يسمع بمباذل الأسرة المالكة وهروب بناتها مع الخدم الأجانب،وأعمال صباح نوري السعيد المشابهة لأعمال سيدنا عدي صدام حسين،أو مباذل الوصي وغيره من أعمدتها بما عرف عنهم من ليالي ملاح إلى الصباح،ولعله يتناسى أن النظام الملكي العميل كان مرتبطا بمعاهدات واتفاقيات مع الدول الاستعمارية،واستحواذ حفنة من رجال الإقطاع والملاكين والمرابين على الثروات العراقية،في الوقت الذي يعيش فيه الملايين في فقر مدقع،ولعله لو سأل المرحومة جدته عن واقع الفلاح العراقي والمرأة العراقية،ومآسي العمال العراقيين،لعثر على الكثير مما يغير أرائه،ولكن يبدوا أن جدته الكريمة كانت تعيش حياة مترفة،أضر بها التغيير الجديد،لذلك كانت ترى العهد الملكي،عهد الخير والرفاهية التي تعيشها.
أن ثورة تموز سيدي الكريم،رغم ما حدث بعدها،كانت ثورة شعبية،آزرها الشعب،ونزل إلى الشوارع لتأييدها وإسنادها،وقام بمهاجمة أوكار العملاء وأركان العهد المباد،رغم أن البعض من ذوي الأفكار الرجعية يصمونها بالانقلاب،ويبخلون باسم الثورة عليها،في الوقت الذي يمنحوه لعروس ثوراتهم في 8/شباط الأسود،و17 تموز الأغبر،ولو أكمل الشعب عمله وأنهى مرتكزات العملاء،وقطع رؤوسهم كما فعل مع العائلة المالكة ونوري السعيد،لكان العراق غير ما هو عليه الآن،ولكن ترك رأس الأفعى سائبا لينفث السم الزعاف،لتعود الأمور إلى أسوء مما كانت عليه.ولعل سيادته لا يعلم أن ثورة تموز قامت بأعمال عظيمة،لو أردت الإشارة إليها لاحتجت إلى تسويد مئات الصفحات،ويكفي أنها أخرجت العراق من حلف بغداد،والتبعية الإسترلينية،وشرعت قانون الإصلاح الزراعي،وقانون العمل،وقانون رقم(80) الذي أعاد الثروة النفطية إلى أصحابها،وجعل الأمريكان بعد نصف قرن يزحفون بأساطيلهم لإعادة بسط هيمنتهم وسرقة النفط العراقي بتشريع قانون الاستعمار والاستئثار النفطي،الذي تضغط بكل قوتها لتمريره،رغم أنف الحكومة العراقية،كذلك أصدرت الثورة قانون الأحوال الشخصية الذي يعد مفخرة من مفاخرها،حيث أعطى للمرأة حقوقا لم تحضا بها النساء في الكثير من دول العالم،وشيد للفقراء دور الإسكان التي بيعت بأسعار رمزية للعوائل الفقيرة،وبأقساط بعيدة المدى،إضافة لتوزيع الأراضي على أصحاب الأكواخ الهاربين من ظلم الإقطاع،ومدن الثورة في العاصمة والمحافظات شاهد على العدالة الاجتماعية التي وفرتها الثورة للعراقيين،وأحيل الأستاذ إلى الكتب التي أوردت منجزات الثورة خلال أعوامها الأربع ليرى أن الكثير من المشاريع العملاقة في العراق ،كانت من تخطيط الثورة للعراق الجديد.
ولعل أكثر ما يميز ثورة تموز عما سبقها أو تلاها من عهود نزاهة زعيمها،الذي بز الأولين والآخرين بترفعه ونزاهته وشعبيته العارمة التي لا تزال أصدائها وملامحها ظاهرة رغم مرور نصف قرن على انبثاقها،ولم أرى من يذكر بخير أي من قادة العراق،أو يشيد بمآثرهم ونزاهتهم وسمعتهم،ولكن ما واجهته الثورة من مؤامرات الأدعياء،وعرابيو الفكر القومي من زعيمهم البطل صاحب الانتصارات جمال عبد الناصر،إلى فلتة العصر صدام حسين، إلى آخر الجوقة القومية الداعرة،بالتحالف مع الرجعية المحلية،وعملاء الاستعمار،ودول الجوار العراقي،التي لا زالت تمارس ذات الأدوار في الوقت الحاضر لإيقاف مسيرة العراق،ولعله لا يجهل أن البعث الفاشي جاء بقطار أمريكي مبارك من جهات أخرى يعرفها الجميع،وهو نتاج القومية العربية المزعومة،والفكر الطائفي الأهوج،فلا تتحمل ثورة تموز أوزاره ومباذله،بل يتحملها اللاهثون وراءه،ولا يبرر الأجرام ألصدامي تهافت وعمالة واستبداد النظام الملكي،لذلك أرجو من الأستاذ الكريم أن يكون مترويا في أحكامه البائسة،التي تنبئ عن منطلقاته البعيدة عن الوطنية،وربما هناك سؤال يفرض نفسه هل الاستبداد الأموي والعباسي وعصور الانحطاط العثماني وما رافقه من أعمال طائفية بشعة،هو من نتاج ثورة تموز،وهل يدري السيد الكريم أن العراق مر بظروف عسيرة جعلته يأكل لحوم القطط والكلاب والموتى من البشر،وأن حروبا أهلية عديدة جرت في العراق بسبب التدخلات الأجنبية طيلة قرون،وكل هذا بسبب ثورة تموز البائسة،وله أن يدلني عن زمن نعم به العراق بالأمن والاستقرار والعدالة والمساواة،أو حكمه أبناءه الحقيقيون،فالعراق حكمه الأجانب من حمو رابي إلى صدام حسين،وسأقبل وجنتيه الكريمتين أن أظهر لي خلاف ذلك،فالعراق سيدي الكريم لم ينعم بالاستقرار أو الرفاهة طيلة قرون ،وقدره أن يكون نهبا للطامعين والاستبداديين،ولعلها لعنة العراق،أن تكون فيه هذه النعم والخيرات،وشعبه يموت قهرا وكمدا مرات ومرات.
وأخيرا وليس آخرا،ففي المقال الكثير مما يستحق الوقوف عنده في إطراء أو نقد،فقد وزع الأستاذ مكارمه الهجومية على مختلف الأصعدة والاتجاهات،دون أن يجد لنا حلا،ولعله اكتفى بتفسير الواقع دون القدرة على تغييره،فلمحاته الذكية الوقادة تنبئ عن فكر أصيل أضاعه بهنات ما كانت تصدر لو أعتمد الاستقراء العلمي للتاريخ،وعذرا أن أشتط القلم في خروج عن عرف أو تقليد،فليس غرضي إلا ألإفادة وتبيان الحقائق،ولابد لمن يعمل أن يخطي،ولا يصيب إلا غير العاملين.