لعل من أكثر الأسلحة لتي ابتكرها الإنسان أسلحة التدمير الشامل, التي تدخل في نطاقها الأسلحة الجرثومية و الإحيائية و الكيميائية و الذرية و الهيدروجينية و قد تبنت المنظمات الدولية كالأمم المتحدة , و مجلس الأمن , و حقوق الإنسان , و جمعية الرفق بالحيوان , و غير هذه المنظمات قرارات حازمة بتحريم هذا النوع من الأسلحة ومنع انتشارها والمعاقبة على استعمالها ووضعت لذلك القوانين الرادعة التي يعرفها الجميع .
ورغم تضافر جهود دول العالم جميعاً لمحاربة هذه الأسلحة المحرمة دولياً لكنها من جانب آخر تسمح وبشكل مطلق لاستعمال سلاح هو من اخطر الأسلحة على البشرية ذلك هو سلاح الكذب هذا السلاح الفتاك الهائل الذي لا يبقي ولا يذر يستعمله الفرد في تعامله اليومي مع الآخرين والزعيم مع أبناء شعبه إذا خرجوا عن صراطه المستقيم والكذب له فلسفته الخاصة وأساليبه المتجددة والمتطورة على مر العصور . ومنه الكذب الأبيض والأسود لذلك لنترك الأبيض على بياضه لأنه رمز السلامة ونتوجه إلى الأسود الذي هو رمز الحزن والألم والكآبة والدمار.
لقد كان للكذب فلاسفته الذين أبدعوا في تمريره واوجدوا الصيغ الكفيلة بنجاحه منهم (لويولا) ذلك الرجل النابغة الذي كان يعمل في بلاط فرانسوا وكان شديد المطامع ذكي الفؤاد له فلسفته الخاصة في الحياة بناها على أساس متين هو الكذب
فالكذب على رأي لويولا سلاح ماضي يستطيع الإنسان به تحقيق ما يصبو أليه ويحكم به ومن خلاله يتمكن من إزالة كل العقبات التي تقف في وجهه وهو سلاح الأقوياء والجبابرة الذين خبروا الحياة وحذقوا في مساربها وعرفوا إن الأمور لا تسير إلا به بعد إن خبروا ضمائرهم وسبروا أغوارها فوجدوا إن الذمة وهم والصدق خرافة والأخلاق أكذوبة لا معنى لها والنقاء أسطورة لم يزكيها التاريخ والدنيا خلقت من العدم وان العوام قطعان تسوسها وترعاها إن عاشوا لخدمتنا وان قتلوا فداء لنا وعلينا أن نعلمهم الفضائل وندعوهم إلى كرائم الأعمال ونبغض لهم الكذب فهو من أفظع الآثام واكبر الكبائر وجريرة تفوق القتل وننصحهم بالصدق والأمانة وحسن السريرة فإنهم إذا عرفوا من قوة الكذب ما نعرف حاربونا به وكان لهم ما أرادوا من الفوز والنجاح .وهم كالنمر الهائج إذا طعنته بسيفك واضطرب ساعدك عن الطعن وجرحته جرحاً بليغاً فقد يرتد عليك ويطعنك بأكثر مما طعنته أما إذا أجهزت عليه فقد منعت أذيته وكفيت مؤنثه وأمنت غضبه وخلصت من نقمته ،وإذا أردت أن تكذب فلا تكذب كذب الجبان الخائف المتردد فتخيف الآخرين أو يظهرون لك الخوف أما إذا كذبت كذب الواثق المطمئن واشفعت الكذبة بأخرى وتهاوت كذباتك تترى كالسيل المنهمر تؤكد الواحدة الأخرى . بما أضفت لها من الإسناد والتأكيد وثق بك الناس وامنوا بأنك تقول الحقيقة أو اظهروا لك تصديقهم وهذا كل ما ترجوه منهم. إما من يخاف عدم تصديق أكاذيبه،فهو ضعيف الفؤاد منخلع القلب خائر العزيمة فلا يوجد كذب لا يمكن تصديقه أو إقراره إنما يوجد كاذبون يعرفون يكذبوا.
ولأضرب لكم مثلا مما يكون عليه الأمر فلو قلنا إن زيداً تسميم عمر فماذا سيكون سيقول الكثير من الناس (لا دخان من غير نار ) فلماذا اتهم زيد ولم يتهم غيره فان خلاف زيد وعمر مما تصافق عليه الجميع وما المانع من قيامه بذلك للخلاص منه.يضاف لهؤلاء أعداء زيد الذين سيزيدون الطين بله ويؤكدون إن زيداً أهل لارتكاب الجريمة فيقوم هؤلاء بإشاعة الخبر الذي يوافق ما في أنفسهم وتطوعوا لإذاعته بين الناس بما يملكون من قوة وما لديهم من جهد ومعهم أولئك الذين تغريهم الأراجيف فيروجون لها بما يذيعون مع إضافات أخرى على عادتهم في المبالغة في كل شيء وديدنهم في نشر الفضائح ونقل الأخبار وبذلك فلا تمر فترة حتى تسري الإشاعة مسرى النار في الهشيم وتصبح من الحقائق التي يسجلها التاريخ.
أما المسكين زيد الذي ألحقت به هذه التهمة الباطلة فأمامه أمرين، أما انه يترفع عن الرد ويحتقر هذه الإشاعة ويغضي عنها أو يقوم بالدفاع عن نفسه فإذا سكت عنها أخذت الإشاعة طريقها إلى تصديق الناس وسارت نحو هدفها متنقلة من هذا إلى ذاك مع ما يضاف لها من تزويق وإضافات حتى تنتشر بين الملأ ويقول الناس لو كانت هذه الإشاعة كاذبة لكذبها زيد، ولكنه سكت عنها وبسكوته ثبت ارتكابه لها.وإذا حاول الدفاع عن نفسه بنقضها وتكذيبها فأرفقها بإشاعة ثانية تؤكد الأولى فتقول انه قتله بسم ازرق اللون مزجه مع البن فيحاول زيد إنكار ذلك بعدم امتلاكه لهذا النوع من السم ولم يرى مثل هذا السم في حياته فيقتصر دفاعه بعدم امتلاكه للسم متجاوزا التهمة الأولى فيأخذ الناس بالجدال في لون السم بعد أن تكون الإشاعة الأولى قد رسخت في الأذهان.
لقد تخرج من مدرسة هذا الفيلسوف الداهية الكثيرون ولعل أنبل طلابه قد ظهروا في عراقنا العظيم فقد عرفنا المعجزة الأول صدام حسين وكيف كانت كذباته تنهل كما ينهمر الماء من أعلى الجبل وكل يوم يخرج علينا بأكذوبة جديدة يشفعها بأخرى تضفي عليها شيء من الحقيقة حتى اختلطت الأوراق على الكثيرون وباتوا يؤكدون ما يقال رغم بعده عن الحقيقة.
وبعد سقوط النظام المقبور وانطلاق العراق من عقاله وشيوع المفاهيم الجديدة عن الحرية والتعددية والديمقراطية وغيرها من هذه الكلمات البراقة التي تخلب الألباب وما رافقها من فساد وانفلات وتسيب أدى إلى انعدام الموازين واختلاط الأوراق أفسح في المجال لكثيرين أن يمارسوا هذه الطريقة، وأصبح من الطبيعي إن يكذب الفرد مهما كانت منزلته الاجتماعية أو مكانته الوظيفية لان سوق الكذب رائج هذه الأيام.
لقد شبعنا كذباً كما اتخمنا مواعيد وأصبح من البديهيات أن يكذب الكبير وان لا يصدقه الصغير بل إن الصدق ضاع بين هذا الركام الهائل من الأكاذيب فأصبحنا نعيش في دوامة من الكذب الأسود، ووجدت له سوق رائجة هذه الأيام، مما جعلنا لا نثق بأصدق الصادقين فالقيادات السياسية والحكومية لا تتورع عن إطلاق التصريحات التي لا تلتقي مع الحقيقة في أدنى مستوياتها فالجميع ضد الطائفية ولكنهم يلهبون أوارها ويذكون نارها بتصريحاتهم النارية التي تلقي النار في الهشيم وتحرق ما أمامها والجميع يطالب بحل المليشيات ومليشياته تجوب الشوارع بملابسها المرقطة أو المخططة ويهاجمون الأبرياء في رابعة النهار بل يستغلون حمايات الدولة الرسمية ويقتلون بسلاحها والجميع يشاهد ارتال السيارات تجوب الشوارع وتفعل ما تشاء دون أن يتصدى لها احد ،والهجوم على اللجنة الاولمبية أو وزارة التعليم العالمي دليل واضح على عمق الترابط بين القوات الحكومية والقوات المليشياوية ولا ادري لماذا سكت قادة الكتل وأغلقوا باب الصراع في هذا الجانب الذي لم تعرف نتائجه لحد الآن ولم يستطع احد كشف المستور في مثل هذه القضايا.
والكل يسعى للمصالحة الوطنية في النهار ويذبح الوطنية في الليل فقد مضت أكثر من سنة على إطلاق مبادرة المصالحة ولم نجد غير المناطحة المعلنة بين الأطراف ولا احد يدري من يفاوض من، أو من يصالح من ،وفي معالجة الفساد الإداري الجميع يقرع طبول الحرب علية ويلوحون بسيوفهم الخشبية لإنهائه ولا ادري من يحارب من ،فالكتل الحاكمة هي التي جلبت الفاسدين وقاسمتهم الأرباح فهل يحاربون أنفسهم ، وأحيل البعض إلى المحاكم أو شهر بآخرين، ولكن ليس بين هؤلاء من سار في حاشية القيادات المتعاقبة أو السائرين بركابهم ،وهم من جهات قيض لأزلام الطائفية إنهائهم أو أصبحوا جزءا من الصراع الطائفي ونقطة الصراع بين الكتلتين المتحاربتين.
ولو أردنا الاسترسال في إيراد الكذب الأسود لاحتجنا إلى الكثير من الحبر الأسود ولكن هذه عينات من الجراثيم التي عششت في بناء الدولة العراقية الحديثة وكل ذلك سببه الكذب لان الجميع يكذب على الجميع وبالتالي ضاع كل شيء وسط الكذبة الكبرى التي اسمها الحقيقة،فهل نستطيع تشريع قانون يحرم الكذب ويعاقب عليه ذلك ما أشك فيه لان مثل هذا القانون سيضع الجميع تحت طائلته ولا ينجو منه احد حتى كاتب السطور لأنه يكذب على نفسه عندما يتصور انه يستطيع بقلمه النحيل هدم الأهرامات الكبرى التي بنيت على شقاء الآخرين وانه يستطيع تغيير العالم وبناء الإنسان فليس بغريب أن يعود الإنسان إلى أصله ويقبل صلعت داروين، ليكون قرداً بدلا من التزي بزي الإنسان الذي أساء لطبيعة القرود.