الرئيسية » الملف الشهري » غائب طعمة فرمان

غائب طعمة فرمان

 توقف قلب الكاتب العراقي الكبير غائب طعمة فرمان في 17 آب 1990، وتمر هذه الأيام الذكرى الخامسة عشرة على رحيله. نقدم للقراء هنا مقالتين منسيتين له بهذه المناسبة. الاولى بعنوان(خواطر وأحلام) التي نشرها في جريدة الهاتف النجفية لصاحبها ومديرها المسؤول جعفر الخليلي- الشخصية العراقية المعروفة في تاريخ الفكر العراقي الحديث

وقد صدرت المقالة في العدد 473/ السنة الثالثة عشرة بتاريخ 10 تشرين الأول 1947 وهي المقالة التي أشار اليها بعض الباحثين بوصفها مقالة مفقودة في تراث غائب طعمة فرمان (انظر: غائب طعمة فرمان- أدب المنفى والحنين الى الوطن- د. احمد النعمان. منشورات المدى 1996)أما المقالة الثانية فهي بعنوان(طه حسين) المنشورة في جريدة صوت الأهالي”العدد 151 بتاريخ 31/ 3/ 1954“ ومن المعروف ان غائب طعمة فرمان كان قريباً من جريدة الحزب الوطني الديمقراطي ورئيسه الاستاذ كامل الجادرجي.
في مقال قديم له:
أستاذ الرواية الأكبر، يمّني نفسه أن يكون شاعراً كالشريف الرضي او الكاظمي
خواطر وأحلام الشعر
غائب طعمة فرمان
كانت محنتي في الأدب فوق كل محنة، ومصيبتي في الركون الى مقاييس ثابتة لتفهمه وادراك جماله تربو على مصائبي الباقيات، ولست تراني الا متأرجحاً بين ما يقول الجاحظ والباقلاني والجرجاني وابن الأثير، وما يقوله كتاب العصر من غربيين وعرب. وكنت متأثراً- أول الأمر- في البيئة التي أحاطت بي وصهرتني بمصهارها، وبيئتي ضيقة مغلقة الأبواب أمام الآراء الجديدة، وكنت منغمراً بين طيات الكتب الصفراء والقديمة غير الصفراء التي رحمتها المطابع الحديثة فانتشلتها، وكنت آنذاك أقول الشعر، وأحاول جاهداً ان يكون متيناً(كلمة مفقودة) يجاري في اسلوبه شعراء العباسيين، فلست تراني أحفل بالمعاني، ولا أجهد فكري في استنباطها، وكنت امني نفسي بتقليد الشريف الرضي والمتنبي والبحتري والكاظمي، والامنية الكبرى ان يقول الناس عني أنا صنو الكاظمي والمتنبي والرضي.
وقرأت(المثل السائر) مرتين لاخرج الى الطريق التي سلكها أجدادي الشعراء، لأسلكها وأترسم خطاهم المطموسة في رمال الزمن، وكان هذا الكتاب الغليظ القلب يلقي عليّ أوامر قاسية، ويجبرني على اتباع طريق شائكة، وكل أوامره تركن الى الذاكرة، وذاكرتي اخت المنخال، فكان يأمرني بحفظ القرآن، فحفظت منه أكثر من عشرة أجزاء، اسلمتني الى كلال العزيمة، والزهد بالحفظ واضطراب الحافظة، ولم تمض حتى توارى محفوظي في واد بعيد القرار . جئت ثانية الى ديوان الحماسة، ورحم الله شيخنا التبريزي في شرحه الحماسة، فقد حملني اثقال اللغة والصرف، ولم يخرج لي مواطن الجمال ومكامن البلاغة، فحفظت منه جزءين حفظاً غير مفيد في مشقة كبيرة، وصعوبة مرة دونها شرب”الملح الانكليزي!“ فسرعان ما استقرت هذه الثروة المحفوظة جنب اختها في لحد النسيان، تاركة نفسي بين انياب الحيرة والذهول، ورامية بفكري في وهدة الأوهام والأحلام الطائشة وأحلام اليقظة المتعجرفة، وانتبذت طريقة الشيخ(الميكافيلية) الى غير رجعة ورحت التمس برد الاستقرار في التراث الغربي وتواليف ادباء النهضة، وصرت التهم الكتب واعبئ فكري بالأفكار الجديدة اللامعة لفهم الأدب الذي خبت في تفهمه والوصول الى ماهيته المتلفعة في أطباق سميكة، ومعيني في ذلك تلك المقاييس الجديدة غير مقاييس الالفاظ والمعاني المجردة، وغير مقاييس نقد الكلمات والسرقات، وغير القاء النقد القاء مرتجلاً عاماً خالياً من الدقة والادراك الفني، وغير الحكم على البيت الواحد حكماً صبيانياً، يدعو الى الضحك كما يدعو الى الرياء.
ورأيتني أقف على بناء سامق، وامسك في يدي- معذرة من الاطراء- ميزاناً جديداً في النقد ومقاييس عادلة في الحكم الأدبي، ورجعت وفكري ممتلئ بهذه الأفكار الغريبة، مشحون(بالالكترونات) متحفز للتطبيق، وأخذت أقرأ دواوين شعراء العصر العباسي والأموي بتلك الروح، محاولاً الوصول الى جمال الشعر العربي، واستشفاف سر البلاغة التي شغفت بها زمناً غير قصير، وحاولت أن أجد الومضات النفسية، والأشواق الحارة التائهة المتلهفة، وحاولت ان أجدد الأبواب التي فتحها لي الشعر في سماء الروح او الخيال او الجمال، وحاولت ان أروي(كلمة مفقودة) التي وجدتها في غير الشعر العربي القديم، ولكن والاسف يملأ جوانحي لم أحظ بشيء، ولم ألق في يدوان الشعر العربي الضخم غير أزهار متفرقة عند ابن الرومي والمتنبي والمعري والرضي، أزهار تتفتح في مواضع وتشرق في الومضات الذهنية وتخبو في مواضع فتلوح الواحاً مرسومة دبجتها يراعة موكلة في الأصباغ والزركشة اللفظية ولا أساس لعمل الروح فيها.
وخيل لي ان قراءة الشعر العربي هي أشبه بقراءة الجرائد اليومية لا تحمل الانسان الى الآفاق البعيدة، ولا الى التفكير، ولا الى استيعاب عوالم جديدة في دنيا الخيال والجمال. وقلت في نفسي أهذا حظنا من المجد الشعري؟ أهذا ادراكنا للاشياء؟ تفكير ساذج ونظرات طفل راقد في أحضان البله والجهل، نظر قصير يومض ومضات ذهنية تافهة يمقتها المناطقة والعلماء، وأكبرت- كما أكبر الاستاذ الناقد سيد قطب- هذا الذهن الكبير الذي خنق كل خفقة من خفقات القلب والروح، وسحق كل أزهار الوجدان والعاطفة، وطمر(كلمات مفقودة) الى الكون والطبيعة والى الربيع النفسي الخالد.
ورأيتني التمس الأسباب لهذا التأخر في شعرنا العربي، وصرت أشفق على هذا الطفل المسكين المتمرغ في حمى الذهن الفاسد، والمصفد بأصفاد الصناعة اللفظية، والتذاويق السخيفة وكبر في فكري ان لغة الشعر والحقل الذي نشأ فيه هما سببا التأخر.
وأرجعت اللوم على أنفسنا، نحن الذين نتوكأ على عصا أكل عليها الدهر وشرب، نحن المساكين الذين ظلمنا التقليد او هو ظلمنا،وصار شعرنا اشبه ببعر الأغنام متساوياً في الشكل واللون، وان كان مختلفاً في الحجم والكمية(معذرة).
لم يتورع أجدادنا الشعراء، رحمهم الله، من إلباس شعرهم لباس الشعراء الذين سبقوهم، وراحوا يقتطعون الجمل، ويجترون الاساليب التقليدية، ويخضعون لقوة اللغة الوهمية، ويتملقون لجمالها كما يتملق عباد الاجسام الفتيات المتزوقات، ولله من قوم استعبدتهم اللغة فهم كالنعاج وضع أمامها قطعة قائمة فظلت تقفز عليها، فلما رفعت القطعة استمرت في قفزها الرتيب كلما وصلت الى المكان.
وخليق بالشعر وهو موكل بالجمال ألا يستعبد، وألا يركن الى قوة اللغة الوهمية ومستلزماتها، خير له ان يجعل لغته الخاصة لغة الجمال الموسيقي، والتراكيب الحية، وان يحمل كل لفظة وكل مقطع معنى شعرياً منسجماً مع المقطوعة الشعرية. وخير له ان تكون لغته حية نابضة غير قاموسية.
ان اللغة القاموسية لغة ميتة مبادة، لغة لا روح فيها ولا معنى، ولكن اذا استعملت في محلها اللائق، ووجدت الصيرفي الذي يستطيع ان يستفيد منها افادة كلية كانت صورة حية نابضة تحمل الذهن الى التفكير، وأخلق بالشعر ان يعرف هذه البديهية، ويلبس اللباس الحي المنسجم. والذي يؤسفني ويؤلمني اننا قد تعودنا ان نقرأ الشعر كما نقرأ النثر، قراءة سطحية، ونمر بمعانيه الواضحة، كما نمر بخبر محلي في احدى الصحف اليومية، ومن دون ان نشارك الشاعر بتجاربه. اننا اصبحنا- او هكذا خيل لي- نزعق زعقات جنونية كلما رأينا شعراً يحتاج الى تفكير غير قليل، واستيعاب كلي للمعاني الروحية، والى تجارب ماضية ترقد في حاستنا الواعية. اننا صرنا نهرب من الشعر السامق في سماء الابداع الحافل بصنوف الاكتشافات النفسية لأنه يدعونا الى ان نخلو ساعات بفكرنا وحواسنا، لأننا تعودنا ان نقرأ الشعر في المحال العامة وفي الطرق وفي الوقفات العابرة تزجية للوقت، وطلباً للتسلية، وترويحاً للنفس كأننا أطفال نتلهى بصور مزركشة ذات ألوان مغرية.
وكل ذلك هو جريرة اللغة الفتاكة كل ذلك لأننا أسأنا استعمال اللغة فأسأنا فهم الشعر، وأسأنا في وجهة نظرنا اليه، كل ذلك لأننا مجبرون على التقليد والبقاء على سنن الأجداد وانتهاج النهج التقليدي في كل شيء.
وميدان الشعر وما أدراك ما ميدان الشعر.؟ ميدان المديح البائخ والرثاء المتخنث، والتهاني الصبيانية والوعظ والارشاد، ورحم الله ذلك الشاعر الذي رثى رجلاً لا يعرفه معرفة شخصية ولكن أذنيه قد امتلأتا منه- وهو بعد لم يمت- ورحم الله ذلك الرجل الذي عزى رجلاً له ولد وابنه فرثى ولده والمتوفية ابنته. وماذا نقول بالاحتفال بالجيش الي انتصر والمدرسة التي تشاد، والقصيدة التي تؤلف؟ وماذا تقول ببكاء الشاب قبل وفاته، وتملق عواطف الحب والشهق بأحلام اليقظة، وخلق الحوادث. كل ذلك من مواضيع النثر، اما الشعر فميدانه الفسيح ميدان الطبيعة والحياة، ميدان تسجيل الأحاسيس الصادقة واخراج الصور الحية، وتخليد لغة القلب الذي يتحدث مع كل كائن. القلب الكبير الذي يستوعب الكون بأسره، فينظر الشعر بمنظار القلب والروح الى كل ما في الوجود وينفذ الى الأعماق، وليس للذهن له من نصيب.
أعجب من أناس يقدسون كل شيء قديم تقديساً أعمى، أعجب من أناس يسيرون وراء نعش الفقيد ويقولون: فليحيا مولانا العظيم، أعجب من اناس يسبحون في رمل ثم يقولون هذا ماء فرات.
وفي النهاية، هل تجد صيحتي من مجيب ام سأسمع في أعماق نفسي فحسب، وتذهب كما ذهبت صيحات متعددة من قبل، أم يقول الناس هذا هذيان محموم ولغو ليس ومن رائه طائل؟
طه حسين
بقلم غائب طعمة فرمان
منذ ان كان طه حسين طالباً يافعاً ثائراً على الأزهر ونظام التدريس فيه، كانت(الجامعة المصرية) تحتل مكاناً كبيراً في نفسه، فكان يهرع في امسية كل يوم بعد ان يفرغ من عناء دروس الفقه، وشرح المتون، الى تلك البناية التي كانت قائمة وسط القاهرة ليقف على طريقة جديدة في التدريس، وعلى ألوان من المعرفة لم يكن يعرفها في معهده القديم.
وبمضي الزمن أصبح الشاب الثائر على القديم المتطلع الى جديد يملأ نفسه المتوقدة يضمر للجامعة حباً عميقاً، فترك الأزهر ليكرس نفسه لها، طالباً، فعضواً في بعثتها الى فرنسا، فاستاذاً، فعميداً لكلية الآداب فيها، وأصبحت الجامعة من مقومات نفسية طه حسين لا ينفك يتحدث عنها،ويولع بالتدريس فيها. الا ان السياسة المصرية بما حفلت من تغليب احزاب الأقليات، وتسليمها زمام الحكم مدة طويلة، ومن تزاحم التيارات المتضاربة الطارئة البعيدة عن حق حكم الشعب لم تشبع رغبة طه حسين في البقاء في الجامعة، فتعرض مع كثير من رجال الفكر والرأي في مصر الى محن كثيرة، فكانت كلها تنتهي باخراجه من الجامعة، حتى تملكه من جراء ذلك شعور عميق بأنه محارب ومضطهد، وبأن الناس لا يعرفون منزلته الحقيقية، ولا يقدرونه حق قدره، ونشأت عنده”عقدة“ نفسية يعرفها خاصته والمقربون اليه تتارث في الأوقات التي يكون فيها مبعداً عن الجامعة، فتمتلئ نفسه بالثورة على الأوضاع، وينشد حالاً اخرى غير الحال الحاضرة.
وفي احدى سنوات الاعتكاف ثار الدكتور طه حسين لأن أحداً من الكتاب وصفه بأنه غير ديمقراطي، وبأنه لا يحب الشعب، فكتب مقالاً عنيفاً في مجلة”الفجر الجديد“ التي كان يصدرها احرار مصر ابان الحرب العالمية الأخيرة ذكر فيه بأنه مؤمن ايماناً قوياً بالديمقراطية، بل انه لا يقنع بها، بل يتخطاه الى الاشتراكية والى الاشتراكية المتطرفة التي تتيح للشعب أكبر قسط من الهناء والحرية والكرامة.
وظل الشعور بالاضطهاد او بعدم التقدير الحقيقي له ينمو في نفسه، يغذيه حس مرهف عاطفي، وقد كتب طه حسين عدداً كبيراً من أحسن كتبه تحت تأثير هذا الشعور الملتهب.. كتب ”أديب“ و”المعذبون في الأرض“ و”رحلة الربع“ و”الفتنة الكبرى“ وكثيراً من المقالات الوجدانية التي صور فيها(سطران مفقودان). الا ان طه حسين خلافاً لما كان يشعر به، ظل يحتل المركز الأرفع في قلوب الناس، فلم ينسوا جهاده في اخراج الأدب العربي من جموده، ومده بحياة جديدة، ومقاييس تلائم روح العصر، ولجرأته في اعلان الرأي الجديد في بيئة كانت الرجعية فيها تجلس على عرش من ذهب، وتتحكم في كل أمر من امور الناس، فلما جاء الوفد المصري الى الحكم كان طه حسين وزيراً لمعارفه، وان لم يكن من أعضائه، وعمل مع الوفد على اثبات حق المواطنين المصريين في التعليم وجعله مشاعاً بينهم كالماء والهواء.
وعمل الزمن من جهته على احداث تغيير جوهري في حياة طه حسين.. تغيير أخمد الى حد كبير ألسنة اللهب التي كانت تتوقد في نفسه، فلم يعد طه حسين الشاب الذي يسكن أحد أحياء الأزهر القديمة، ويعيش حياة بسيطة قليلة التكاليف، بل أصبح من اصحاب القصور في الزمالك، ومن أصحاب رحلات الاصطياف والنزهة في مصايف اوروبا، واكتفى الرجل وأغناه كل ذلك عن ان يقول شيئاً جديداً، وان يكلف نفسه تكاليف اخرى او ان ينادي بشيء يحول بينه وبين ما هو متوفر لديه. فلما شهدت مصر حكم الضباط وضربت الدكتاتورية أطنابها على البلاد، كان طه حسين اول أديب مصري هلل لها، فألقى بين يدي اللواء محمد نجيب، وفي قاعة محبوبته القديمة، الجامعة.. خطاباً فلسفياً برر فيه دكتاتورية الضباط، وذكر انه في سبيل العدل.. عدل الدكتاتورية، ليس من الكبير أن تضحي مصر بحريتها، فهناك صراع ابدي بين الحرية والعدل أثبته فلاسفة أثينا، وانه يفضـــل ان تذبح الحرية على أيدي الضــباط الأحرار فداء لعدلهم.
وهكذا.. بينما كان طه حسين ينطوي على نفسه، ولا يأتي بشيء جديد، وينادي بأن يستخرج الادباء حتى من بؤس المحروم جمالاً ومتعة للعقول والنفوس والقلوب. بينما كان طه حسين عضواً في مؤتمر السلام المسيحي الذي تمده أميركا بدولاراتها، اذ كان ثمة جيل من الادباء في مصر ينهض على اسس ادبية جديدة لا يتخذ الأدب متعة للعقول والنفوس والقلوب، بل وسيلة لخدمة الحياة، واظهاراً للبراعم النامية الفتية المبشرة بحياة جديدة.. جيل من الادباء مستعد لأن يسجن ويضطهد ويحرم من أبسط حقوقه في سبيل عقيدته ومبدئه، وحرية شعبه وسعادته.. جيل لا يعرف سلاماً خاصاً بدين من الأديان، بل يؤمن بسلام عالمي يجمع الناس على اختلاف دياناتهم وعقائدهم وجنسياتهم، ويحفظ للبشرية التقدمية حضاراتها وقيمها من كل معتد معتوه.
وأخيراً.. وبينما كانت حكومة الضباط المتنازعين على السلطة يختطفون كتّاب مصر الأحرار واحداً بعد الآخر، لأنهم يتحدون الدكتاتورية، ويصرخون بجرأة مطالبين بحقوق الشعب المصري المسلوبة، اذ يكتب طه حسين في جريدة الضباط كل ما يجعله مطمئناً الى قصره في الزمالك لا يمس، وان رحلة الصيف لا تمنع.
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=10058