في الذكرى السادسة عشر لرحيل الأديب العراقي غائب طعمة فرمان ارتفعت أصوات عدد ٌ من الأدباء والصحفيين في العراق مطالبين أمانة بغداد بإقامة نصبٌ تذكاري ٌ تخليداً له ُ ولأعماله ، وطالبوا كذلك بإطلاق اسمه على احد شوارع بغداد . وعلى الرغم من ان تلك الصيحات كانت عالية إلا أن الضجيج من حولها كان أعلى منها ، فضاع الصوت في زحام من الهشيم الثقافي والركام الأدبي المحترق ، وتاه صدى ذلك الصوت يبحثُ عن جدارٍ يلتطم فيه ، ولم يتبق غير الأمنيات تعتصر قلوب الأدباء ليروا شاهداً حضارياً يعيد البهاء إلى وجه الثقافة الشاحب في العراق .أمانة بغداد بكل إمكانياتها عجزت عن تحقيق ذلك الحلم الذي يراود المثقفين بل لم تعير اذن صاغية لتستمع لذلك المطلب الثقافي ، فهي تمتنع حتى عن إعطاء وعدٍ بتنفيذ ذلك المشروع وكأنها تحاول تهميش دور المثقف العراقي . فحين يهاجر الأديب وطنه يبحث ُعن وطن يأويه وحين يرتحل الفنان وفي قلبه حنين للعودة وحين تعشعش خفافيش الظلام في زوايا مسارحنا ويتعلق نسيج العنكبوت فوق ستارها يحل الخراب والدمار في ذلك البلد وهذا ما حصل للعراق . فلا يمكن لاي امة ٍ ان تنهض بدون ان يكون هناك مسرحاً ترتكز عليه، لا سيما وان العراق صاحب اول ملحمة مسرحية عرفت في التاريخ . والفنان مثل الاديب لا ينتمي الى فكرٍ سياسي بل ينتمي الى مدرسة فنية او ادبية يعبر من خلالها عن ارهاصاته وابداعاته واحساسه المتدفق ، واذا كانت السياسات السابقة تحاول ان تلج الفنان في المعترك السياسي فان ذلك الذنب لا يتحمل الفنان وزره بل هو جرم الساسة انفسهم . فالفنان والاديب كائنان يقفان عند منطقة الوسط والتي على أطرافها البشر والملائكة ولم يكونا في يومٍ من الايام شياطين يستحقا اللعنة والرجم . لذلك نرى أكثر شعوب العالم المتحضر تحتفل بذكرى ولادة فنانيها وأدبائها وتذهب شعوب أخرى إلى جعل ذلك اليوم عيداً وطنياً لها . وعلى العكس من ذلك تماماً ما يحدث اليوم في العراق فالأدباء يرغمون على ترك وطنهم ، والفنان يقصى عن تأدية دوره في المجتمع وهناك عملية تهجير قسرية ومنظمة لهما حتى تخلوا الحياة من أشعة النور الممتدة من روح الفنان وقلم الأديب . حينها يحل الظلام الفكري ليفسح المجال لحلبة صراع طويل بين ميليشيات متصارعة وأحزاب متقاتلة وفرق الموت ومنظمات الإرهاب ويكون وقود هذا الصراع هم الجاهلون . كان لزاماً على الفنان ان يرحل الى حيث مأمنه من الارض يترقب حلول النسيم القادم من وطنه ليشم عبق ارضه وطلع نخيله ورائحة دجلته وفراته . يحيا في منافي غربته يوقظه الحنين ويعصره الالم ويهزه الشوق لرؤية نخلة قد عانقت سماء وطنه ، وينتحب عالياً حين تجول في مخيلته صور جيرانه الذين اعتاد رؤيتهم كل صباح ومساء او حين يستذكر ( التعلولة ) العراقية في ليل العراق الجميل .
وغائب طعمة فرمان كان رمزاً لأولئك الذين عاشوا في منافي الغربة بعيداً عن وطنه واسقطت عنه الجنسية العراقية مرتين حتى أدركه الموت و على شفتيه كان اسم العراق يعطر فمه ، ولعل نخل العراق وصور جيرانه قد حضروا أمامه في ساعة الاحتضار . غائب لم يغب فهو حاضرٌ بيننا . فلقد أبت الفنانة المتألقة ولؤلؤة الفن العراقي هديل كامل – كما اسماها البروفسور عبد الاله الصائغ – الا ان تخلد ذلك الأديب بطريقتها الخاصة وفي ظل إمكانياتها المتاحة بعيداً عن الحاجة الى لئيم وآلت على نفسها الا ان تخلد معه جيلاً من الفنانين الرواد الذين قدموا ذلك العرض المسرحي الرائع . ولعل روح الفنانة زينب ( سليمة الخبازة ) التي توفيت وعيناها ترنو نحو العراق تطوف حول النخلة والجيران ودعواتها تصل الى العالم العلوي وهي تدعو لهديل بالموفقية والنجاح .
لم تكن النخلة والجيران مجرد عمل مسرحي قدمته ( فرقة الفن الحديث والذي أسسها الفنان القدير والكبير والرائع خليل شوقي ) عملاً مميز فحسب قد استقطب اهتمام الجمهور والإعلام على حد سواء وبقي عالقاً في ذهن هديل كامل حتى صيرته إلى اسم موقعها هذا . فهديل بخزينها الثقافي الكبير اوسع افقاً من ذلك فلـ(النخلة والجيران ) دلالات عميقة بعيدة الغور ، فقد خبرنا وفاءها وقد شهد الجميع لها بذلك حين أبكت مدامعنا وهي تستذكر المرحوم (عوني كرومي ) وعرفنا حجم ذلك الوفاء الكبير الذي تكنه للاساتذة الذين سبقوها بالعطاء الفني . ولا سيما جيل الرواد الذين لعبوا ادوار تلك المسرحية فهي تقدم بعملها هذا كامل الوفاء وجزيل العرفان . وسنظل نستذكر كلما مررنا في هذا المنتدى قائمة طويلة من المبدعين تبتدأ بالأديب غائب طعمة فرمان ثم المخرج الرائع قاسم محمد ونترحم على روح الفنانة زينب ( فخرية عبد الكريم )) والفنان المرحوم عبد الجبار عباس ، وندعو بالشفاء للفنانة القديرة أعاد الله بصرها ( ناهدة الرماحي ) وندعو بمديد العمر للفنان الكبير خليل شوقي والأديب والفنان الأستاذ يوسف العاني والدكتور الفاضل فاضل خليل والفنان الرائع مقداد عبد الرضا والفنانة آزادوهي صاموئيل والقديرة الرائعة ( ام الدراما العراقية ) سليمة خضير والفنانين مجيد العزاوي وكريم عواد . ولا تنتهي قائمة الذكريات بشخوص تلك المسرحية فالوفاء يوجب علينا ان نتذكر كل الفنانين الملتزمين وخاصة الفنانة القديرة فوزية الشندي وفوزية حسن وهند كامل والمخرج الكبير فيصل الياسري والفنان الرائع سامي قفطان والرائع محسن العزاوي ومحسن العلي وريكاردوس يوسف وجواد الشكرجي والجميلة أسيا كمال والغائبة سهير أياد والرائعتان شذى وسهى سالم وسناء عبد الرحمن والمخرج جلال كامل والمخرجان الرائعان جواد الاسدي وعصمان فارس كما سنتذكر كلما مررنا من على صفحات هذه المنتدى هموم الثقافة وشجون المسرح والواقع العراقي المر وتطلعاتنا المستقبلية لرؤية عراق يعمه السلام ، واتمنى ان نرى حمامات السلام تنطلق من هنا لتحلق فوق سماء حاضرة الدنيا بغداد الحبيبة ، وسنمحو من ذاكرتنا تلك الأيام العصيبة التي اجتاح فيها جيوش التتار مسارحنا فحولوا تلك المسارح الرائعة الى نوادي للرقص والمجون والتفاهات التي ليس لها صلة بالمسرح ، فأسدل الستار على فرقة الفن الحديث لتحل محلها فرقة ( ام علي ) للفن الوضيع .
لم تكن دلالات الوفاء لتغيب عن ذهن الفنانة الرائعة (أم الأمير ) بالإضافة الى دلالات أخرى أرادت من خلال اختيارها لعنوان ( النخلة والجيران) فالقصة تؤرخ لزمن كان العراق يرزح فيه تحت نير الاحتلال البريطاني وما أشبه اليوم بالبارحة فالبريطانيون لازالوا في العراق ويتواجد معها دولة أخرى طالما اهتمت بسياسة اسمها ( ملأ الفراغ ) . اما بالنسبة لمضامين النخلة فهي رمز العراق والتصاقها بتربته هي أشبه بالتصاق الفنان بوطنه ، وشموخ النخيل أشبه بشموخ الفنان على خشبة المسرح . والجيران هو حنين المغترب بالعودة الى وطنه وبيته وقد عم السلام والأمان حينها سنذرف دموع الفرح ونحتضن تراب الوطن ونخلتنا والجيران .
إنني أستطيع ان أشبه هذا المنتدى الثقافي والذي تديره فنانة ولدت في رحم الفن العراقي الأصيل ونمت وتغذت من الثقافة العراقية الأصيلة هو حتماً سيكون أشبه بمجالس ولادة بنت المستكفي وصالونات مي زيادة الأدبية .
واخيراً أقول أن قصة النخلة والجيران كانت بحق رائعة الأدب العربي الحديث ومسرحية النخلة والجيران رائعة المسرح العراقي الحديث ، ونتمنى أن يكون موقع النخلة والجيران رائعة المواقع العربية الحديثة .
http://www.alnakhlahwaaljeeran.com/loay-kassam-alnakhlah.htm