الرئيسية » مقالات » في الذكرى السنوية لرحيل الجواهري الكبير – خواطر متناثرة

في الذكرى السنوية لرحيل الجواهري الكبير – خواطر متناثرة

تمر في السابع والعشرين من هذا الشهر الذكرى العاشرة لوفاة الشاعر العملاق الجواهري, فإلى ذكراه الخالدة هذه المقالة المتواضعة.
كنت آنذاك صبيا في الثانية عشر من عمري حين انطلقت مع المتظاهرين في مدينتنا الحزينة الباكية دوماً, كربلاء. شدني إليهم ذلك الحشد المتماسك وتلك الهتافات الغاضبة والهرولة الجماعية. التقيتهم في الساحة المقابلة لصحن الحسين بن علي بن أبي طالب وهم متجهون صوب الساحة المقابلة لصحن أخيه العباس بن علي بن أبي طالب على امتداد شارع علي الأكبر. كانت الهتافات تدعو إلى إسقاط وزارة صالح جبر وإلى قبر معاهدة بورتسموث وكانت الشرطة متحفزة وقد اتخذت مواقع لها على جانبي الشارع أو على سطوح المقاهي الناصية. كان الناس في الشوارع والبيوت والمدارس يتحدثون عن مظاهرات مماثلة تجري في المدن المجاورة , في بغداد والنجف والحلة والديوانية والسماوة والبصرة والناصرية والعمارة والكوفة والسليمانية وأربيل وكركوك وفي بقية المدن العراقية. بعدها علمنا بسقوط شهداء وجرحى واعتقالات واسعة شملت مدينتنا أيضا. وكان من بينهم الشهيد جعفر الجواهري , أخ شاعر العراق والعرب الأكبر محمد مهدي الجواهري , الذي سقط في بغداد وبرصاص جندرمة الحكم الملكي الإقطاعي. وبعد أسابيع قليلة تلا علينا معلم العربية بصوت غاضب وحزين, وكنا حينذاك تلاميذ في الصف الخامس الابتدائي, بعض مقاطع من رائعة الجواهري المهداة إلى أخيه الشهيد جعفر “أخي جعفر” , باعتباره رمزا لكل شهداء وثبة كانون في الحفل ألتأبيني الذي عقد في الرابع عشر من شباط في العام 1948 في جامع الحيدر خان:
أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم
فم ليس كالمدعي قولة وليس كأخر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع أريقوا دماءكم تطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين أهينوا لئامكم تكرموا

وأخذ المعلم على عاتقه تفسير ما صعب علينا فهمه من أبيات القصيدة, نحن الصبية الصغار. وبعد أسابيع قليلة عاد المعلم لينشدنا قصيدة الجواهري الخالدة “يوم الشهيد” في الذكرى الأربعينية لاستشهاد جعفر الجواهري:
يومَ الشهيد: تحيةٌ وسلامُ بكَ والنضالِ تؤرخُ الأعوامُ
بكَ والضحايا الغُرِّ يَزهو شامخاً علمُ الحسابِ, وتفخرُ الأرقام
بكَ يُبعثُ “الجيلُ” المحتمُ بعثُه وبكَ القيامةُ للطُغاة تُقام

حفظنا بعض أبيات القصيدة عن ظهر قلب. كانت هذه المقاطع أول لقاءاتي بشعر الجواهري (ولد في 26/7/1899 وتوفى في 27/7/1997). ثم توالت مع الأيام. ولم تبق المعرفة محصورة بشعره الرائع, بل وكذلك بشخصه البديع, الحساس, وبمعشره الحلو وشخصيته المتناقضة والمتصارعة.
عندما اقترح عليَّ الأخ والفنان المسرحي منذر حلمي باسم نادي الرافدين أن القي كلمة في الحفل ألتأبيني لأربعينية الجواهري الكبير تتضمن انطباعاتي ومعايشتي للجواهري في براغ ,وافقت في الحال, رغم إدراكي بصعوبة المهمة ومن أين يفترض أن يبدأ وأي جانب يمكن أن يتناوله المتحدث عن الجواهري الكبير. ولكن الخواطر العفوية في أعقاب رحلة أبدية حزينة وخلود دائم لشخصه وشعره , تبقى إلى حدود معينة أقل وعورة ولا تغوص بالضرورة في دراسة وتحليل شعر وشخص الجواهري. فشكرا للتكليف الكريم.
كان الشعر السياسي الثوري للجواهري دائم الحضور في أحداث الوطن ابتداءً من ثورة العشرين ومرورا بأحداث الثلاثينيات والأربعينيات واستمراراً بوثبات وانتفاضات الشعب ووصولاً إلى ثورة الرابع عشر من تموز وما بعدها. كانت قصائده من وحي حركة الجماهير ولكنها كانت في الوقت نفسه تصعّد من الفعل الثوري للجماهير وتمنحها زخما متدفقا وجديدا. كانت قصائده تمرداً على الواقع وعنيفة في دفقها غير هيابة لما يمكن أن يواجهه الشاعر من صعاب:
ماذا يضُرُّ الجوُع؟ مجدٌ شامخٌ أنّي أظلَّ مع الرعيِّة ساغبا
أنّي أظَلُّ مع الرعّيِة مُرْهَقاً أنّي أظَلُّ مع الرعيَةِ لاغبا
يتبَجحوُنَ بأنّ مَوجاً طاغياً سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا
كذبوا فَمِلء فمِ الزمان قصائدي أبداً تجوبُ مشارقاً ومَغاربا
أنا حتفُهم ألجُ البيوتَ عليهمُ أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا

كان حضور الجواهري في أحداث البلدان العربية غير منقطع ابتداءً من قضية فلسطين ومرورا بأحداث مصر ولبنان وسوريا وهو القائل بدمشق في عام 1956:
خلّفتُ غاشيةَ الخنوعِ ورائي واتيتُ أقبسُ جمرةِ الشهداء
ودرجت في درب عَنتِ السُّرى القٍ بنور خطاهمُ وضَّاء
أو عندما راح يهدر بقصيدته الرائعة في ذكرى استشهاد عدنان المالكي في عام 1957 قائلا:

ترنحت من شَكاةٍ بعدَكَ الدارُ وهبَّ بالغضب الخلاق إعصار
أنا “العراق” لساني قلبه .. ودمي فراته .. وكياني منه أشطار

وكانت مواقفه الإنسانية ذات المضمون الأممي متميزة في شعره السياسي. فهو الذي رفض الفاشية وعدوانها في الحرب العالمية الثانية على الاتحاد السوفييتي والشعوب الأخرى حين قال:
يا عروسَ “الفُلغِ” والفولغا دمٌ ساءت البلوى فأحسنت البلاء
وعلى الجُرفين عظمان هما رمزُ عهدَيْنِ انحطاطاً وارتقاء

كان شعر الجواهري مرآة العراق الناصعة وضمير الشعب الناطق.
كان المناضلون في السجون العراقية والعربية وفي المنافي البعيدة وفي أيام العمل السري الصعبة يتغنون بشعر الجواهري. إذ كان السجن مكانا متميزا لقرائة وحفظ وتحليل وقرض شعر الجواهري والتعلم منه. تعلمنا منه الشيء الكثير. هذا ما عشته بنفسي في سجون العراق وفي المدرسة ومقاهي المثقفين في كربلاء وبغداد , وهذا ما عرفته من المناضلين المصريين والجزائريين والسوريين مثلا. وهكذا كنا نردد معه:
سلامٌ على حاقدٍ ثائرِ على لاحِبٍ من دمٍ سائرِ
يخب ويعلم أن الطريق لا بُدَّ مفض إلى آخِر
سلام على جاعلين الحتوف جسرا إلى الموكب العابر
سلام على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافر
كأن القيود على معصميه مفاتيحُ مستقبلً زاهر

كان شعر الجواهري نهرا واسعا متلاطم الأمواج وهادئاً يشعرك بخريره الجميل . كان نهراً ممتدا لا ينضب, ننهل منه الكلمة الحلوة واللوحة التشكيلية البديعة بألوانها الشفافة والغامقة, في نقاط الضوء والظل فيها, في دفق الحياة فيها , في موضوعاتها الكثيرة ومضامينها العميقة والغنية, بتحدياتها العاصفة المشحونة بتناقضات الحياة اليومية المعبرة عن طبيعة شعب العراق ومشكلاته, عن تاريخه وتراثه الحضاري العتيد, عن حبه وأحزانه وعن طموحاته المستقبلية المنشودة., عن عيشه في ظل الاستبداد منذ ألاف السنين رغم كرهه له وانتفاضته ضده.
التقيت به أول مرة في سينما الخيام بعد أحداث الشواف عام 1959 وكان في صوته المجلجل وشعره الواضح والمباشر تحذيرا لقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم من مغبة انفلات الوضع وضياع الثورة, وهو ما حصل فعلا.
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فأن في ترخائه الضرر
وقد عبر في هذه القصيدة عما كان يتحدث به الشارع ويتظاهر خشية النهاية الحزينة للثورة والثوار والمكاسب الثورية , وهو ما حصل في الثامن من شباط من عام 1963 بذلك الانقلاب الدموي حيث استشهد قائد الثورة ورئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم وصحبه وكثرة من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين اليساريين ومؤيدي قاسم..

كان اللقاء الثاني حزينا وكئيبا, كان في برلين. كنا قد دعوناه للمشاركة في مؤتمر ومهرجان الجمعية الطلابية للاحتجاج على انقلاب شباط الدموي في عام 1963 وعلى المجازر الدموية التي كانت تنفذها عصايبات الحرس القومي وقادة حزب البعث في العراق. جاء حينذاك على رأس وفد من حركة الدفاع عن الشعب العراقي التي كان يترأسها, يضم الفقيد الفاضل الدكتور فيصل السامر, صاحب كتاب ثورة الزنج, والأستاذ عبد الفتاح إبراهيم, صاحب كتاب على طريق الهند, وكانا صديقين حميمين للجواهري. وكان الجواهري يكن لهما احتراما وودا كبيرين. وكان ضمن وفد براغ الأستاذ نوري عبد الرزاق حسين, سكرتير عام اتحاد الطلاب العالمي آنذاك. كنت مع الوفد الذي استقبله , إذ كنت في حينها رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية , وكان معنا الكثير من الأصدقاء أخص بالذكر منهم الصديق والرفيق الشهيد الدكتور صباح الدرة والأخ الدكتور عبد الأمير العبود والدكتور أحمد الحكيم وغيرهم.
لقد حول الجواهري ذلك المهرجان إلى تظاهرة كبيرة وغاضبة أدانت بقوة الاعتقالات الواسعة وسفك الدماء والقتل الجماعي والبغي السياسي والطغيان, أدانت الانقلابيين, وكان من بينهم بعض حكام العراق في أيامنا هذه (المقصود هنا في العام 1997 حيث كان نظام صدام حسين ما زال قائماً , ك. حبيب), ودعت إلى التضامن مع شعب العراق.
تكررت زيارات الجواهري إلى برلين. كنا نقضي معه الساعات الطوال نستمع إلى شعره وإلى كيفية خروجه من بغداد إثر تحذير وصله من سفارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية تؤكد له علمها بمؤامرة تدبر لاغتياله بعد أن توترت علاقته مع الزعيم عبد الكريم قاسم, إذ أن الزعيم ضاق صدره ذرعا من مماحكات الجواهري , خاصة وان الجواهري كان حينذاك رئيس اتحاد الأدباء ونقيب الصحفيين العراقيين وتدعوه لزيارة برلين. واستغل الجواهري دعوة وجهت إليه لأحياء مهرجان الأخطل الصغير “بشارة الخوري” في بيروت عام 1961م ملبياً بشكل غير مباشر دعوة الألمان. وفي هذا المهرجان الكبير صدح الجواهري بقصيدته الشهيرة:
“لُبنانُ” يا خمري وطيبي هلاّ لَممتِ حُطام كوبي
هلاّ رَدَدتِ لسُهدِها عيني, وقلبي للوجيب

ومن لبنان العزيز أقلعت به الطائرة قاصدة ألمانيا وحطت أولا في براغ. وجاء مستقبلوه من أدباء ومسئولين تشكوسلوفاكيين. اخبرهم بأنه متوجه إلى برلين بدعوة من اتحاد الأدباء. قالوا له نعرف ذلك , ولكن أقامتك ستكون عندنا في براغ فأهلا بك. نزل إليهم ولم يكن يعرف قبل ذاك أن براغ ستكون المدينة التي سيقضي بها ردحاً طويلا من الزمن ومكانا لولادة الجميل من شعره الرائع.
لقد أحب الجواهري براغ, هذه المدينة الذهبية الخضراء, وبنات براغ على نحو خاص, وكانت المدينة وغوانيها الحسان سببا في تفتق قريحته على مجموعة بديعة من قصائده الرقيقة, ومنها “بائعة السمك”.
دَلَفنا ل”حانوتِ” سماكةٍ نُزِوَّدُ بالسمكِ “الكابري”
فلاحت لنا حلوةُ المجتلى تَلفَّتُ كالرشأ النافر
تَشُدُّ الحِزامَ على بانةٍ وتفَترُّ عن قمرٍ زاهر
من الجيك حسُبكَ من فتنةٍ تضيقُ بها رُقبةُ الساحر

في أحدى سفرات الجواهري إلى برلين قمنا برحلة قصيرة مع صديقنا ورفيقنا الغالي الشهيد الدكتور صباح الدرة إلى بحيرة موگلزيه في ضواحي برلين الجميلة. وفي الطريق التقينا بالعشرات من الشابات والشباب الألمان الذين انتشروا في الغابات المحيطة وعلى الطرق المشجرة وهم يتبادلون القبل وما شابهها. كان الجواهري ينظر إليهم والدهشة ترتسم في عينيه وعلى محياه والآهة الحاسدة تعذبه. كانت التنهدات والحسرات تتوالى وتصدر عن عاشق محروم. بدأ يلعن ذلك اليوم الأسود الذي جاء به إلى برلين ليرى كل ذلك ولا يستطيع ممارسته. ويمكن للإنسان أن يتصور مزاج الجواهري حينذاك. بدأ يترنم بقصيدته الرائعة أنيتا مكتفيا بالذكرى والحنين للماضي البعيد ومستعيدا صور شباب فات ولن يعود. وقد أصابنا بعض الشيء من غضبه الهادئ, إذ تكهرب الجو, بسبب لوحات الحب البديعة , التي كانت شبيبة ألمانيا أبطالها , فوق طاقة تحمله العاطفية وحاجته الإنسانية. كان لا يريد أن يكتفي بما يراه , بل كان يريد أن يمارس ذلك أيضاً, أن يضم إليه حسناوات برلين ويحتضنهن , أن يسرق منهن ولو بعض القبل, أن يخفف شيئا من أعباء السنين التي كان يحملها على كتفيه. ولكن كيف؟ لم يسعفه الحظ رغم الجهد الذي بذله الصحفي والشاعر العراقي مرتضى الشيخ حسين (أبو مفيد) في جولاتهما الليلية في بارات ومراقص برلين.
كانت للجواهري جولات وصولات ليلية مشهورة ومشهودة مع صديقه الصحفي والشاعر أبو مفيد. وقد حدثني الجواهري عن بعضها وعن الكثير من النوادر مع الشيخ أثناء تلك الجولات والصولات الدونكيشوتيه وانطباعات كل منهما عن علامات الشيخوخة عند الإنسان, بل عندهما, إذ كان لكل منهما رأيه الخاص المختلف عن الآخر, فهل سيتسنى لأبي مفيد أن يحدثنا عنها أو ينشرها يوما!
التقيت بالجواهري في السبعينات في حفل أقامه سفير ألمانيا الديمقراطية في بغداد. وكانت دار السفير تقع في الهندية وهي تطل على نهر دجلة مباشرة عبر حديقة واسعة غناء. وكانت أضواء الحديقة تتساقط على مياه دجلة فتمنحنا مشهدا جميلا أخاذا ونشوة بديعة. وقفنا سوية نتناول كأسا من الويسكي المثلج. قال الجواهري بنبرة حزن وغضب وحسرة وغيرة , كلها مجتمعة في نظرته وعباراته في آن واحد: “أترى يا أبا سامر ما فعل الزمن والحكم البعثي بي: سفير يملك دارا على ضفاف نهر دجلة, أوباش يملكون دورا على مجرى هذا النهر العظيم, ويتمتعون بها, وداعيك أبو فرات , أبو الفراتين لا يملك حتى ولا كوخا صغيراً على ضفاف هذا النهر المعطاء العظيم الذي أغنيه دوما..”. كان الرجل محقاً وصادقاً ومعبراً عن واقع حال.
كان الجواهري غاضبا وقانطا من مجرى الأحداث في العراق حينذاك ومن سياسات البعث. كان حانقا وهو على حق. فليس من العدل والأنصاف أن لا يملك الشاعر الكبير الجواهري بيتاً على نهر دجلة , وعاجزاً عن تحقيق حلم بسيط وجميل في آن هو ان يكون له مثل هذا البيت الآمن على دجلة الخير وفي بغداد السلام.
ومع مرور السنين تكونت لي مع الجواهري معرفة طيبة ثم صداقة اعتز بها كثيرا واحترام جم_. التقيت به في الجزائر حين كنت اعمل مع جمهرة كبيرة من المبعدين عن الوطن في جامعات ومعاهد ومدارس ومؤسسات الجزائر العلمية والمهنية. جاء ضيفا عند صديق له, كان يكن له الود الكثير, عند الدكتور محمد حسين الأعرجي, أستاذ اللغة العربية في جامعة الجزائر حينذاك, واحد حفظة ورواة شعر الجواهري المعروفين. وقد سعى الصديق الأعرجي إلى تأمين كل ما من شأنه أن يريح الجواهري ويسعده ولم يقصر معه أبدا. وكان الجواهري غير بعيد عن ابنه الدكتور كفاح الذي كان يعمل أستاذا في جامعة الجزائر ويزوره أو يتحادث معه هاتفيا كل يوم. قضينا أياما جميلة مع الجواهري لا يمكن أن تنسى أبدا.
استمعنا مع الجزائريين إلى قصائد بديعة من شعره الجميل واستمتعنا بها, قصائد في الحب والغربة والوطنية والحياة الاجتماعية. قصائد قديمة وأخرى جديدة. كان الجواهري عاشقا أبدا, كان محبا للحياة والنساء والليالي المقمرة والخمرة التي لم تفارقه ليلا.
أذكر هنا طريفة حصلت لنا مع الجواهري.
أثناء وجوده في الجزائر العاصمة دعوته وكفاح والأعرجي لتناول الغداء في احد المطاعم الواقعة على شاطئ البحر في الجزائر. وعندما جئنا لأخذه من بيت صديقه الأعرجي وجدنا الجواهري في غضب شديد على صاحبه مهموما مع نفسه ومزمجرا بشعر فيه الكثير من الحب والحسرة والغضب على حاله بعد أن كان قد بدأ يتذوق طعم الحب ثم انقطع فجأة , وفيه الكثير من الشتم المقذع بحق صاحبه وصديقه الوفي الذي حرمه من مواصلة التمتع بحب صاف ورقيق مع شابة سمراء, هيفاء رائعة الجمال من الجزائر العاصمة. كان لتوه قد مَّر بتجربة حب حركت فيه مشاعر كانت مكبوتة ففجرت كل عواطفه وقريحته المعطاءة في شعر قرأنا شبيها لها في قصيدته الخالدة أنيتا ولكن على نهج آخر. ولكن ذلك الحب والحلم الجميل لم يستمر طويلا ولم ينته إلى ما كان يتمناه, انقطع حبل الوصل في منتصف الطريق, إذ عندما نضجت الثمرة وحان قطافها سرقت منه, اقتلعت من بين أسنانه, هرّبت من الدار كما عبر لنا عنها. كان الغضب يتآكل الجواهري من الداخل وشرر الحب والغضب يتطاير من عينيه.
قال الجواهري بعصبية: تدري أبو سامر هذا “النذل , هذا الأعرجي ” اشسوه بيه, وصلت للزردوم وجره اللعين بالچلابتين… (أتدري ماذا فعل بي هذا اللعين , وصلت إلى البلعوم ثم سحبها بالكماشة أو الملقط) , وكأني به كان يعيد ما قالته الفنانة المبدعة صباح: وصلتينه النص البير وقطعت الحبل فينا…وينك وينك..
أنشدنا الجواهري حزينا ما كتبه من شعر في تلك الليلة الليلاء عندما انقطع حبل الوصل في منتصف الطريق وبالرغم منه. لقد عاش الجواهري رقة الحب ووقسوة الحرمان منه بشكل لم يعرفه من قبل وفي آن واحد. وكان ذلك سببا في كتابة ثلاث مقطوعات بديعة حقا عبر فيها عن معاناته وحسرته وغضبه. لقد كان الجواهري الرجل عاشقا ومفتونا بالمرأة دوماً. كان الجواهري ما يزال يحتسي البيرة ويدخن السيجارة تلو السيجارة ويشتم صاحبه المسكين, ولكن بمحبة وحنان, الذي حرمه من حب جميل. رأفنا بحال الصديق الطيب والودود الدكتور الأعرجي. خرجنا معا لتناول طعام الغداء وكنا ثلاثة الجواهري وابنه كفاح وأنا , ولم يخرج معنا الأعرجي خشية إفساد الجلسة بسبب غضب الجواهري وشتائمه التي لم تنقطع. في الشارع الممتد على طول الساحل الجزائري باتجاه حي المناضلة جميلة بو حيرد قال الجواهري:
“تدري أبو سامر أنا جئت إلى هنا بدعوة ووعد في التمتع بمباهج الحياة من هذا الصديق محمد … ولكن لا شيء من ذلك أبدا.. أنا ضجرت حقا , سأغادر الجزائر غدا قطعاً, سأعود إلى براغ الجميلة إذ كل ما فيها جميل..”. فهمنا الوتر الذي كان يضرب عليه الجواهري … رجوت الجواهري أن يبقى معنا بعض الوقت إذ أن الأخوة في الجزائر, وخاصة من رفاق حزب الطليعة الجزائري, يريدون اللقاء به والتمتع بشعره وحلو حديثه ويحاولون ترتيب لقاء له مع قادة الدولة في الجزائر حينذاك. فهو بالنسبة لهم لا أحلى منه شعرا ولا أبدع منه أنسانا.
وفي الطريق إلى المطعم قال د. كفاح وعلى حين غرة وبين الجد والهزل: “تدري بوية أمي لما كانت عدنه هنا بالجزائر كانت هي تگول على طول انا ضايجة”. وكان كفاح ينظر لي من خلال مرآة السيارة غامزا بعينه مستفزا والده منتظرا غضبه ومنتقما لحبيبة الجواهري ورفيقة عمره أمونة.
التفت الجواهري نحوي وكانت بسمة عريضة قد ارتسمت على محياه وقال: “اسمع أبو سامر , الفطير شيگول…”. ضحكنا معا ومرت المزحة بسلام!
في شقتي الصغيرة في الجزائر اجتمعنا معا احتفاء بالجواهري: كان معنا الأخوة عبد الحميد بن زين والهاشمي بونجار واحمد الماحي وبو علام خلفة, من قادة حزب الطليعة الجزائري, والدكتور خالد السلام والدكتور غانم حمدون والأستاذ عزيز سباهي والدكتور حسام صالح جبر والدكتور كفاح الجواهري. في تلك الليلة أنشدنا الجواهري الكثير من شعره , استمعنا لأحاديثه الشيقة حتى وقت متأخر من صبيحة اليوم الثاني. وفي تلك الليلة أتى الجواهري على قراعة ويسكي بلاك ليبل بالكامل, كما عبر عنها الأصدقاء الجزائريون, ونزل من الطابق الخامس إلى الشارع وكأنه لم يحتس الويسكي أبدا.
كانت كل من براغ ودمشق الشام من المحطات الرئيسية الطويلة في حياة الجواهري استغرقتا معا ثلث عمر الجواهري الذي دام قرنا كاملا من الزمان وفق حسابات البعض وأقل من ذلك بقليل وفق حسابات البعض الآخر. صبايا وحسان براغ خلبن لبه واطلقن فحولته الشعرية وانسانيته الفائقة… كان عندما يسأل ما تفعل أيها الجواهري مع الحسناوات من الصبايا اللواتي يأتين إلى بيتك .. . كان يرد عليهم باعتزاز ومفاخرة: شأني معهن شأن كل فحل, والله أعلم!
في جلسة لطيفة وطريفة مع الجواهري جئنا على ذكر الحسناوات في براغ فقال الجواهري متذكرا ومفاخرا: قلت يوما لأبني فلاح, ولك شمالك ما تتونس ولا تطلع ويه هالحلوات الجيكيات ولك يسوون الدنيا كلها.. . أجابني الملعون قائلا: بوية انت تعرف احسن مني النار ما تخلف غير الرماد, فأنت النار وأنا رمادك … كان الجواهري نارا ضارِمة حقاً مُستعرِة دوما في حبه للنساء.
التقى الجواهري مرة مع النقابي المعروف أرا خاجادور ( أبو طارق) في براغ. وكان أبو طارق حينذاك ممثلا للحزب الشيوعي العراقي في مجلة قضايا السلم وال اشتراكية (الوقت). كان الجواهري قد سلمه قبل ذاك قصيدة له ينوي تقديمها في القاهرة لدعوة وصلته من المسئولين المصريين فيها لإقامة حفل تأبيني وخطابي بمناسة ذكرى وفاة جمال عبد الناصر. فسأله ما رأي الجماعة بالأمر. رد عليه أبو طارق برطانته المعروفة والمحببة .. أي أبو فرات خوش قصيدة .. زينة.. ردّ عليه الجواهري بغضب ممزوج بسخريته المعهودة مقلدا رطانة أبو فاروق مع ضحكة باغتته: ولك بول انه جاي اسألك شلونه القصيدة حتى اتگلي زينه لو موزينئ , لو آنی أريد أسمع رأي الجماعة , (وكان يقصد رأي الحزب الشيوعي العراقي) بالنسبة للسفر إلى القاهرة في مثل تلك الأجواء السياسية المتوترة والمعقدة, هل الوقت مناسب للزيارة أم لا حسب تقديرهم… احمر وجه صاحبنا خجلا وتلعثم وراح يعتذر, فتداركه الجواهري بمزحة لبقة وجميلة, إذ كان لأبي طارق ود خاص عند الجواهري.
كان الجواهري الكبير يكن احتراما كبيرا وخاصا لكل المناضلين في العراق وغناهم في شعره كثيرا. وكان يعبر عن ذلك الاحترام والود في احاديثه في مناسبات كثيرة. وكانت له علاقات حميمة مع جمهرة كبيرة من السياسيين العراقيين, وخاصة مع الشيوعيين العراقيين, ويحترم الحزب الشيوعي العراقي ويقدر تضحياته الكبيرة. إلا أن الحزب, وهذا هو الإيجابي والبديع في الجواهري, لم يفلت الحزب من انتقاداته النابتة والصادقة, التي كان الحزب الشيوعي يأخذها بعين الجد.
كانت للجواهري مواقفه السياسية المستقلة ورؤيته الخاصة بشأن مختلف الأحداث في العراق والعالم العربي وفي المنطقة عموما. وكثيرا ما كانت شخصيات سياسية معروفة تستشيره الرأي وتسعى إلى معرفة تصوراته في تطور تلك الأحداث. لقد كان الجواهري يمارس النقد الرصين والصارم, وأحيانا يوجه النقد اللاذع إزاء فصائل الحركة الوطنية العراقية المختلفة بسبب الأخطاء التي ترتكبها أو التمزق الذي تعيشه والذي يطيل ليل الاستبداد الدموي في العراق, ولكنه كان نقدا بناء ومسئولا باستمرار.
وقف الجواهري في مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت في العام 1991 غاضبا ومزمجرا ومطالبا بانسحاب القوات الأمريكية المحتلة من الأراضي العراقية معتبرا وجودها تدنيسا لأرض الرافدين. وكان هذا تحديا لمجموعات كبيرة من المشاركين في المؤتمر. ولم يشاركه في موقفه الواضح والسليم سوى ما جاء في خطاب السكرتير الأول للحزب الشيوعي العراقي الرفيق عزيز محمد والفنان المبدع والصديق العزيز محمود صبري بهذا الصدد, في حين كان التيار العام بخلاف ذلك, بل قد وصل الأمر بالبعض منهم أن دعا إلى استمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق وان تأخذ هذه القوات على عاتقها ما ينبغي أن تقوم به المعارضة العراقية, أي أن تقوم بإسقاط النظام العراقي بدلا عنها. وفي أعقاب هذا المؤتمر تبلورت الطبخة الأمريكية لتشكيل المؤتمر الوطني العراقي الذي ولد في فينا, والوفاق الوطني الذي ولد في عمان لتفويت الفرصة على اتفاقات أو تحالفات عراقية خالصة وجادة. وكان الجواهري يلاحظ ذلك بحسه الوطني السليم ويرفضه ويبتعد عنه.
كان الجواهري, ومعه كوكبة لامعة من الشخصيات الاجتماعية والسياسية الوطنية العراقية البارزة, عضوا نشطا في حركة السلام العراقية التي تأسست في أوائل الخمسينات, كما كان ولسنوات طويلة عضوا في مجلس السلم العالم, إضافة إلى كونه كان رئيساً لاتحاد الأدباء العرقيين فترة غير قصيرة.
كان الجواهري يمتلك حسا سياسيا ثوريا متميزا. كان يتحسس مبكرا الإرهاصات الثورية في حركة الشعب العراقي. والكثير من السياسيين العراقيين كانوا يتهيأون لاستقبال أحداث سياسية عاصفة في العراق, عندما كان الجواهري ينطلق هادرا بقصائد غاضبة وشامخة معبرا عن حالة الشعب وحاجاته. ولكن حركة الشعب, وانتفاضاته, وتضحياته, ورفضه للظلم والطغيان هي التي كانت تحرك الجواهري وتطلق موهبته وقريحته الشعرية الفريدة.

التقيت بالجواهري من جديد في براغ في سنوات 1985-1989 عندما كنت ممثلا للحزب الشيوعي العراقي في هيئة تحرير ومجلس تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية مع انقطاع أكثر من عام قضيته في حركة الانتصار مجدداً في إقليم كُردستان العراق. وكانت لقاءاتنا كثيرة وشيقة, وكان الشعر والأحاديث الجميلة وأوضاع العراق السياسية محورها الأساسي. كان مهموما بسبب أوضاع المعارضة العراقية وتدهور الأوضاع في العراق واستمرار الحرب مع إيران حينذاك.
في براغ الجميلة الحالمة كان الجواهري يعيش بعض أحلى سنوات عمره. كنا نلتقي أحيانا في بيت الفقيد أبو سرود, عادل المصري ومعه الكاتب والصحفي الدكتور مجيد الراضي, وأحيانا أخرى في بيته أو في مقهى ومطعم في براندوف, وكان الصديق العزيز وابن أخت الجواهري أبو لمى, المهندس رواء الجصاني معنا دائما. وكان الجواهري في كل مرة نلتقي بها يكون بطل السهرة ومحدثها اللبق وصاحب المعشر الجميل وشاعرها الدائم. لقد كان الجواهري مكتبة تاريخية جوالة, يحمل في ذاكرته الكومبيوترية تاريخ العراق وأحلى وأروع أشعار الشعراء العرب , وهو الذي ساعد على وضعه كتاب عيون الشعر العربي في الشام. كان الجلوس أليه والاستماع إلى شعره المتنوع وأحاديثه الطرية والشفافة لا يمل. كانت له ذاكرة ليست تاريخية وشعرية فحسب, بل ومنظمة وواسعة جدا, لا ينسى حتى أصغر الأحداث. من المؤسف انه لم يحظ من المسئولين في براغ بالعناية الكافية باعتباره شاعر العرب الأكبر. لقد امتلك شقة صغيرة متواضعة في احد أحياء براغ في حين كان يسعى إلى الحصول على شقة على نهر براغ المولداو (فيتافا) الشهير. ولم يفهم الأصدقاء التشيك أهمية ذلك لمثل هذا الشاعر صاحب الحس المرهف الذي افتقد العيش بجوار وعلى ضفاف نهري دجلة والفرات. وعندما سعينا لتحقيق هذه الرغبة واجهتنا مصاعب غير قليلة ذللت بعد عذاب شديد وبجهود مضافة من الجواهري ذاته.
كان بيت الجواهري في براغ محطة لاستقبال الكثير من الضيوف العراقيين والعرب الذين يقدمون ويسعون إلى حج بيته والتمتع بصحبته والاستماع إلى بعض شعره وأحاديثه.
كان الجواهري إنسانا بالغ الحساسية, يتأثر بأصغر الأحداث ويتفاعل معها, يتكدر مزاجه بسرعة, فهو حاد ومتقلب المزاج وصعب المراس. كان يضحك كالطفل البريء مرة ويغضب عابسا, وعند ذاك يصعب تحمله. وكانت عائلته هي التي تعاني من مزاجيته. لم يكن سهلا بأي حال من الأحوال, بل كان إنسانا صعبا وأحيانا بالغ التعقيد, وإذا غضب لا يرحم ولكن عبر الكلمات. في داخل الجواهري كانت هناك ثورة تتفاعل باستمرار وحياة مضطربة وفوضى غريبة فيها شيء من البوهيمية والحيوية المحببتين. الاعتزاز بكرامته, الثقة بنفسه, الاعتزاز بتاريخه ومواقفه العامة, الإدراك العميق بقوة شعره, القلق الدائم, الرغبة في العيش المريح والخوف منه في آن. كان الجواهري كريم النفس رغم حبه الشديد للمال ورغبته في تحقيق المزيد منه في آن. أبرز ما في الجواهري التزامه الكامل بقضية الشعب, فهي قضيته, قضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد كان الجواهري عميق الإدراك بأهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان وشديد الكره للعنصرية والتمييز العنصري والشوفينية والطائفية والفاشية والتمييز ضد المرأة. لقد وقف إلى جانب قضية الشعب الكردي ودافع عنها وهاجم بعنف شديد مضطهدي هذا الشعب. ولم يسكت عن القادة القوميين الكُرد, وبسبب صداقته لهم أيضا, عن تقريعهم قولا وشعرا عندما سلكوا سبيل القتال في ما بينهم وداسوا على الديمقراطية وحقوق الإنسان في كُردستان.
وهو القائل في قصيدة بعنوان “كردستان يا موطن الأبطال في العام في 1964 فيما يلي بعض ابياتها:
قلبي لكردستان يهدى والفم ولقد يجود بأصغريه المعدم
ودمي وأن لم يبق في جسمي دماً غرثى جراح من دمائي تطعم
تلكم هيدة مستميت مغرم وأنا المضحي زالضحية مغرم
سلم على الجبل الأشم وأهله وأنت تعرف عن بنيه من هم
يا موطن البطال والدنيا بها نصف وأن خليت تجور وتظلم

يجد القارئ في شعر الجواهري نفحات الحب الصوفية الصريحة, والعقلانية المتميزة والقرمطية الثائرة الطامحة للعدالة والرافضة للجور والاستبداد والساعية نحو التغيير, كان الجواهري اشتراكي النزعة , مادي وجدلي المنهج, غير متدين, نجد في شعره تاريخ وتراث وتقاليد شعب على مدى الأجيال. شعره ينبض بالحياة وتناقضاتها وجدليتها, يجسد في شعره حركتها وفعلها ويتحرك مع حصيلتها الصاعدة المتدفقة صوب التغيير. الجواهري بستان شعر فسيح, حدائق غناء زاهرة.. أجواء متنوعة, ألوان بديعة وحياة زاخرة بالحركة, وجسارة فائقة ومتقدة دوما لا تخلو من خوف, وقلق وشك. شاعر ناعم, رقيق وأنيس, وثائر متفتح ومتمرد في آن.
لقد غنى الجواهري لنفسه ولنا في غريب الدار حين قال:

من لهَّم لا يجارى ولآهات حيارى
ولمطويَّ على الجم ـر سرارا وجهارا
من لنا عاف اهلا وصحابا, وديارا
تخذ الغربة دارا إذ رأى الذلَّ إسارا
إذ رأي العيش مدارا ة زنيم لا يدارا
من لمطلول دمٍ مثل دمِ العبد جُبارا
ياغريب الدار لم تك فل له الأوطان دارا

بدأ الجواهري بكتابة مذكراته في براغ التي صدر منها حتى الآن جزءان. نصبت أمامة كاميرا وجهاز فيديو وتلفزيون. كان يقضي يوميا بعض الوقت للتسجيل. وكان سعيدا بهذه التقنية المتقدمة التي كانت توفر له وقتاً كثيراً. ومن المؤسف أن سطا على بيته في براغ لصوص سرقوا منه تلك الأجهزة إضافة إلى بعض التسجيلات المصورة. وقد ذهب الظن في حينها إلى أن السفارة العراقية كانت وراء الحادث, وبقى الأمر غامضا حتى الآن. لقد استمتعت ببعض تلك التسجيلات القيمة عندما كنت أزوره بين فترة وأخرى في داره في براغ.

حياة الجواهري أغزر وأعمق بكثير وأوسع أفقا وأرحب حركة من حيث الفكر والممارسة مما جاء ألينا عبر مذكراته التي نشرت في السنوات الأخيرة. ولدي القناعة الكاملة بأن الرجل قد اضطرته الأيام أن لا ينشر كل ما كتبه أو سجله على أشرطة الفيديو حينذاك أو انه نشر ما رأى إمكانية نشره في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العراق والدول العربية. أتمنى أن يتم العثور على ما سرق من أفلام الفيديو المسجلة والمسروقة أولاً, وأن تنشر كتاباته وتسجيلاته بعد أن غادرنا الجواهري كما أراد لها أن تكون قبل نشر بعضها في جزئين.

مات الجواهري بعد عمر دام قرنا كاملا تقريباً, ولكنه سيبقى حيا في ضمير الشعب ووجدانه, وستبقى أشعاره شامخة كالجواهري ذاته. سيتحول قبره في الشام ( السيدة زينب) إلى مزار للملايين من محبي شعره, إلى مزار لأولئك الذين غنى لهم في وادي الرافدين وفي جبال ووديان كُردستان, وفي كل بقعة من أرض العراق والبلاد العربية, وخاصة أولئك الذين قال يخاطبهم بحنان وألم مشحون بغضب واستفزاز منشط للكادحين:

نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
نامي وان لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يدافُ في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس الـ أحلام في جنح الظلام

وستكتب عنه بعد أن فارقنا وإلى الأبد الكثير والكثير من البحوث ورسائل الدكتوراه في العراق والعالم العربي, وأتمنى أن تفي تلك الدراسات هذا الشاعر العملاق وشاعر العراق والعرب الأكبر في القرن العشرين حقه., عاش هذا القرن وتفاعل مع أحداثه وعواصفه وزلازله الكبيرة. وفي أربعينية الجواهري الكبير أنحنى إكراما واحتراما ومحبة لذكراه الخالدة.

برلين, في 27/ أيلول/ سبتمبر 1997 كاظم حبيب

قصيدة للجواهري نظمت في صيف عام 1987 في براغ ومسجلة على شريط بصوته مهداة إلى كاظم حبيب , وهي ضمن الأدب الذي يطلق عليه بالإخوانيات :
يا أبا سامر إليك حبيبي أبا سامر اهديها وعن كل بيت منها أريد بيتا جميلا في موقع جميل على فلتافيا مثلا , وقد منح شقة بعد فترة من الزمن.

يا أبا سامرٍ وأنتَ حبيب تتخطى الأحباب والأسمارا
لكَ مني شوقٌ يُدغدغُ نفسي كَنسيمٍ يُدغدغُ الأسحارا
أبدلَ اللهُ عنكَ سوءاً بخيرٍ كن شفيعي أن أبُدلَ الدارَ دارا
كن شفيعي أن أبُدلَ الجارَ جارا فلقد بُدّل الغزالُ حِمارا
أنا فيما أنا به كمضيع جنة حوله ليدخل نارا
ومحلي أعاذك الله منه قفص موحش يضم كنارا
قفرة والرياض منها بمرمىً ولقد هان من يجوب القفارا
ربع قرن ولا صداح صحاةٍ تتغنى , ولا صياح سكارى
وثلاث من المحطات تطوى لأرى مطعما و ومُقهى , وبارا
وحوالي كل أشعث جهم الوجه مرٍ قطيعة , ونفارا
كلُ جبسٍ يُنسي اليهودةَ موسى ولئيمٍ يُنسي المسيحَ النصارى
صمتَ أهل القبور جيرانُ عيبٍ لن يزاروا , وضيفهم لن يزارا
لا تُمسّي , ولا تُصبّح إلا هزةً بالرؤوس مثل الحيارى
فإذا قلتَ : كيفَ أنتَ وعشرون وخمسُ وما اشتكين جوارا
حاورتك السنون أفصح من ناغاك صدقا ومن يجيد الحوارا
كان شيخُ القريض يقرضُ في الستينِ من حرقةٍ شفاه العذارى
يحسدُ ابن العشرين ساعاتهِ الحلوة , والليل يستمنُ النهارا
ليس يدري ما الكائنات وما الكون وجارا من حوله أم جِرارا
همهُ أن يذيب ما لا يبارى من همومٍ في سكرة لا تبارى
وهو ذا اليوم يحسد الفارة إذ تقرض زبدا , وإذ تُغازلُ فارا
كان في أمسه يناجي العذارى وهو في يومه يناجي الجدارا
يا حبيبي والعبقري يحيل الحب سحرا يبلبل السحارا
يتداوى بالحب وهو دمار لكأن الحياة تعني الدمارا
فهو ما دارت الخطوبُ تخطاها وما دارت الكؤوس استدارا
يا ابن ودي , ولست مبدل ودٍ كن شفيعي أن أبدل الدار دارا
وتعجل أمري لتخلد في التاريخ زهوا وعزة وافتخارا
يا بن ودي , فُز بالرهان , وشمر لِسباق في حومة لا تُجارى
أو فهذه أنشودة تتغنى بأبي طارق المبجلِ “آرا”
يا أبا طارق وسميت آرا أنّ آرا أبٌ لكل الغيارى
كان سام , وكان آرا قديماً والحضارات تستدان لآرا
يا بن ودي ولست مبدل ودٍ كن شفيعي لأبدل الدار دارا
يا أبا سامر تحياتي إليك وسلامي عليك….
المخلص
الجواهري
نشر الأخ الدكتور محمد حسين الأعرجي هذه القصيدة الإخوانية في كتابه الموسوم “الجواهري دراسة ووثاق” الصادر عن دار المدى في دمشق في العام 2002 الطبعة الأولى. وعلى الصفحات 473-476.