لا يمكن عزل تاريخ المجتمع الحالي عن ماضيه وقيمه الموروثة العظيمة حيث لوحظ وفي جوانب عديدة ان نقلت التصاميم المعمارية الغربية بكل محتوياتها الى العراق والتي اساءت بشكل او بآخر الى التراث وحاولت ازالة القديم بكل جوانبه المشرقة مما ادى الى انهيار قيم الانسان العراقية الاصيلة والعلاقات الاجتماعية المتميزة خاصة مبادئ العمارة العراقية التي تعد شاهداً تاريخياً امام التطورات الحديثة.
ان الحفاظ على البيئة القديمة هو تراث غني يعبر عن فكر الاجداد والآباء عبر عصور مختلفة هدفها الاساسي ايجاد السبل الحسنى التي يمكن ان توفر الحياة الكريمة للانسان العراقي. ولابد من خلق حالة من الموازنة العقلانية بين التطور المعماري العالمي والتكنولوجية العالمية ووضع المعالجات البيئية التي تناسب الظروف المحلية اجتماعياً واقتصادياً والحفاظ على ممتلكات البلد المعمارية وفق اسس ومعايير علمية.
هذا وستتناول هذه الدراسة خمسة اجزاء او فقرات رئيسة هي توضيح مفهوم التجديد الحضري ومن ثم تحديد الاسس اللازمة للحفاظ على الموروثات المعمارية والاساليب المتبعة بذلك والى تمويل برامج الحفاظ واخيراً فهناك موجز لحالة دراسية عن قلعة اربيل والله الموفق. 1-التجديد الحضري تعد فكرة التجديد الحضري فكرة حديثة العهد خاصة بالنسبة للبلدان النامية للموروثات المعمارية، وقد ازداد الاهتمام في السنوات الاخيرة بها واقترنت بدراسات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لما يحيط بالمنطقة الموروثة، بعد ان تعرضت هذه الموروثات لفترات طويلة لاهمال كبير وتدمير قسم منها فهي بالتالي خسارة قد لا تعوض. عرف العديد من علماء الآثار والاقتصاد والجغرافية التجديد الحضري للموروث بصور مختلفة تعكس اتجاهاتهم وافكارهم وهي تنصب بمفهوم اعمار او ادامة منطقة او مدينة او حتى بناية لها قيمة تأريخية واهمية اجتماعية واقتصادية واثرية. فالتجديد الحضري هو (تغيير في البيئة العمرانية للمدينة، يتم من خلاله تحسين او اعادة بناء الهياكل، وخطوط الخدمات البالية او المهملة في جميع مناطق المدينة لمواجهة ضغط التغييرات الاقتصادية والاجتماعية) ويتضمن التجديد الحضري بمنهاجه ثلاثة مبادئ رئيسة وهي كما ياتي:
1-1 الحفاظ
فالمبدأ الاول للتجديد الحضري هو الحفاظ على التراث المعماري ولابد ان نعرف ما هو مفهوم الحفاظ فقد تناولت عدة كتب تعريف هذا المبدأ لوضع الاطر التنظيمية له فهو (الوسائل المتبعة من اجل حماية الصفات والدلائل ذات العلاقة بالقطاعات القديمة في مدينة ما والتي لها درجة من الاهمية حيث يتم تصحيح او ازالة او الغاء العلامات الاولى للاندثار وتهيئة درجة مقبولة بقياسات معينة للفضاءات المفتوحة واماكن الترفيه) ويمكن ملاحظة ان عملية الحفاظ لا تعني مدينة بكاملها او منطقة كبيرة باكملها لكن تعني قسماً منها او عدداً من المباني توضع لها دراسة معينة ليتم المحافظة عليها من الدمار او التهرؤ بشكل غير معقول، فقد تكون هذه المباني لها اهمية تاريخية او درجة من الاساليب المعمارية تميزها عن غيرها من الابنية ويمكن ان تأخذ ابعاداً مهمة في الواقع الجديد كما يمكن ان تتمتع باهمية كبيرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية في المجتمع.
وعملية الحفاظ على التراث المعماري لابد ان تحدد بضوابط وقوانين محددة لوقف التجاوزات التي تحدثها بعض المؤسسات او الاهالي تجاه المدينة العراقية القديمة بسبب ضعف القدرة على استيعاب اهمية ذلك التراث من قبل الاجهزة المسؤولة عن التطور العمراني وكذلك الاختصاصيون في علم الاجتماع والجغرافية والاقتصاد والثقافة والنقابات والجمعيات التي تمثل عموم المواطنين.
يعتبر الحفاظ على الموروث واحداً من المبادئ او منهاج التجديد الحضري في التعامل مع الابنية ذات القيمة التاريخية والتراثية نسبة الى وظيفتها وكذلك تحديد الابنية ذات النوعية الجيدة من حيث القيمة، وهي بلاشك ثمينة بمثل تلك العناصر التراثية ذات الفن المعماري العريق الذي يوضح الصورة المشرق للتاريخ العربي والاسلامي على وجه الخصوص ومراحل تطوره عبر العصور وقد اطلعنا على التصميم المتميز للازقة والمنشآت الدينية والابنية والاسوار وتحديد الفضاءات التي تراعي الجوانب الانسانية وتراعي درجة التلوث وكيفية التعامل مع المحيط الخارجي وتهتم بسلوكية الانسان العراقي وذوقه وجمالية تصميمه، كما انها تساعد المخطط الحضري المعاصر عند التطلع اليها للافادة من التجارب الناجحة لاجدادنا والتي يمكن تطويرها او اجراء الموازنة مع النماذج العصرية. وهي وظيفة مهمة ومن الواجبات القومية والانسانية وانسجاماً مع نداءات وقرارات هيئة اليونسكو باعتبار المحافظة على المواقع التاريخية في المدينة العراقية هي جزء لا يتجزأ من التراث العالمي للانسانية جمعاء وان على دول العالم المساهمة في دعم الجهود المبذولة للحفاظ على هذا التراث.
هذا وقد تناول المؤتمر الثالث لوزراء الاسكان العرب في اجتماعه بالرباط عام 1979 هذا الجانب واقر بتوصياته المحافظة على الاحياء القديمة للمدينة العربية بضرورة توعية المواطنين باهمية المحافظة على المباني والاحياء السكنية التي تحددت قيمتها الحضارية والاثرية كما طالب باجراء مسوحات لتحديد تلك المناطق وحصرها وتصنيفها ومراعاة اظهارها ضمن المخطط العام للمدينة واكد اهمية ترميم المباني التاريخية والحضارية واعطاءها استعمالاً يساعد على صيانتها والحفاظ عليها بشكل يتماشى مع حاجات السكان الآنية والمستقبلية.
1-2 اعادة التأهيل
يمكن اعتماد مبدأ التأهيل في المناطق التي تكون فيها الابنية متهرئة جزئياً وتنقصها الفضاءات الداخلية او المناطق الخضر وعنصر التنظيم او الازدحام الشديد وتعاني من نقص الخدمات، فهي اذن (عملية اعادة تحديد بعض الاماكن المزدحمة الملوثة لدرجة كبيرة ولكنها تحتفظ بهياكل عمرانية يمكن اصلاحها او تحويرها وقد تتطلب ازالة بعض الابنية الرديئة منها وسد نقص الخدمات العامة منها).
ويقصد بمبدأ اعادة التأهيل زيادة كفاءة المباني والمنشآت وازالة بعض الاجزاء منها والابقاء على الاجزاء الاغلب منها على حالها لغرض توفير بعض المرافق والتسهيلات الواجب وصفها لخدمة المواطنين.
وقد ظهر هذا المبدأ في دول عديدة بغية عدم تجريد كل التهرآت عن طريق ازالتها واعادة تطويرها، فهو اذن من الممكن ان يتطور بحدود اعادة المحافظة على العلاقات الاجتماعية في المنطقة كما يمكن ان يوصف بأقتصاده في نفقات الصيانة بعدم هدم المباني القديمة واعادة انشائها بل يمكن ان يوصف بانه عملية ترميم او تطوير فقط. وقد تعرض هذا المبدأ الذي صور بالصورة الحسنى لنقاش حاد يتعلق بطبيعة منطقة الدراسة ودرجة تأهيلها وارتباطها بظروف المنطقة الحضرية عهدها الجديد وكما ياتي:
1- ان اعتماد مبدأ اعادة التأهيل يتطلب درجة مهارة وكفاءة عالية من قبل الاشخاص العاملين بهذا المجال.
2- عدم اتاحة هذا النهج المرونة الكافية في اجراء تحويرات مادية ووظيفية على المباني التي يتم التعامل معها خاصة ذات الطراز القديم بحيث تصبح كلفة اعادة التأهيل اعلى من كلفة انشاء مبنى جديد مما ينظر اليه بعدم الجدوى.
3- يتعارض عمل المشروع احياناً مع وجود بعض الابنية الحديثة الاخرى ذات الاهمية كالمباني الادارية والصناعية.
1-3 اعادة التطوير
ان مبدأ اعادة التطوير يرتبط بفكرة ازالة وهدم المباني والاحياء المتهرئة في المدن ثم اعادة بنائها وفق مخطط جديد يبين استعمالات الارض ونمط توزيع السكان. ان فكرة الموضوع كما جاء اعلاه هي الغاء وجود بعض المناطق المتهرئة لغرض اعادة تصميمها بشكل حضري جديد فقد طبقت هذه الفكرة في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا بهدف وضع حل شامل لمشكلة الاحياء القديمة فيها خاصة في الاربعينيات من هذا القرن، على اساس عدم ملاءمة تلك الاحياء للحياة الجديدة في تلك الدول وكان لابد من ازالة المناطق المتهرئة فيها. ومبدأ اعادة التطوير يعمل وفق اهداف معينة طالما انها تكلف جهوداً واموالاً كبيرة تنطوي تحت واحدة او اكثر من المبررات الاتية:
1- استئصال المناطق المتهرئة والملوثة.
2- تخفيف حدة الفقر.
3- جذب صناعات نظيفة الى مركز المدينة وابعاد الصناعات الملوثة.
4- تشجيع العوائل ذات الدخل المتوسط بالاستمرار بالمعيشة في المناطق المركزية بدلاً من هجرتها بسبب تهرؤ المباني، وعليه يخلق هذا المنهج فرص عمل مستمرة لسكان المنطقة.
1-4 لماذ الحفاظ على الموروثات المعمارية؟
للحفاظ على التراث المعماري كما بينا اهمية كبير في تحقيق اهداف معينة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والسياسي فضلاً ان وجود هذا التراث يعني محاكاة الماضي وعكس الجوانب الحضارية والتاريخية للامة وتحقيق مبدأ الاستمرارية في عملية البناء الفعال للمجتمع من جيل لاخر، وهو وسيلة لبناء وانعاش المجتمعات فكرياً وثقافياً وفنياً.
فالجانب الاقتصادي الذي يحققه الموروث يظهر من خلال الايرادات التي تدرها السياحة الخارجية خاصة اذا كانت المدينة التي يتم الحفاظ عليها تعبر عن تراكم تاريخي للمباني والمنشآت وتحقق ترابطاً عضوياً في الوظيفة والاداء بحيث تتكامل اوجه الحياة فيها لتحقيق الوظيفة الاقتصادية.
وتوجد امثلة عديدة في العراق كمدن كربلاء والنجف وسامراء حيث يتجمع بمركز المدينة فنون التراث المعماري المترابط وظيفياً فضلاً عن انتشار المنشآت السياحية خارج تلك المدن كبحيرة الرزازة في كربلاء والملوية في سامراء.
وعلى هذا الاساس يعتبر الموروث (ثراء فكرياً للانسان من جهة ويحقق جوانب اقتصادية واجتماعية وعمرانية من جهة ثانية، وعليه اهتمت دول العالم بدعم من منظمة اليونسكو بقيمة هذه الموروثات وانقاذها من الاندثار) اضافة للاهمية السياسية والتراث القومي.
ويقول ورسكت ان سياسة الحفاظ تتعزز بصورة واقعية بعيدة عن الخيال وعند الضرورة تتوحد في خارطة التركيب الحضري والاقليمي او الخطط المحلية وان مناطق الحفاظ يجب ان تصان بوقت مبكر كمقياس مؤقت لغرض تجنبها من العبث لحين بدء العمل بها بصورة جيدة.
2- الأسس اللازمة للحفاظ على التراث
ترى بعض الدراسات ان مشكلة الحفاظ على الموروثات المعمارية بجوانبها المختلفة يجب ان تحل وفقاً للاسس الاتية:
2-1 الاختيار يجب ان تتضمن عملية الحفاظ مبدأ اختيار انواع معينة او اعداد معينة من الابنية التراثية لصعوبة تحديد مدينة بكاملها لان عملية الحفاظ تحتاج الى تغيير كلي ومؤشر على مجمل النسيج الحضري للمدينة، وعلى ان يتم التحديد وفق المعايير الاتية: 1- اهمية البناية وفاعليتها الاقتصادية والاجتماعية.
2- حجم المبالغ المصروفة لعملية الحفاظ على بناية مقارنة مع البنايات الاخرى وبالاعتماد على الجوانب النوعية وليس الكمية.
3- الملاكات المتخصصة بهذا المجال.
2-2 القيود والتوسعات
من خلال تحديد اهداف الحفاظ تظهر الحاجة الملحة في اجراء الموازنات العملية لانجاح هذه المهمة، فقد تحتاج مدينة معينة للحفاظ على موروثاتها التاريخية بينما توجد مدينة اخرى تحتاج الى النمو والتوسع، فتظهر محددات وقيود خلال عملية الموازنة، حيث عندما يتم الحفاظ على جزء من المدينة فأن الجزء الاخر سيكون معرضاً للتغيير، فمثلاً اذا كانت هناك حاجة الى بنايات بارتفاعات عالية في منطقة معينة يجب ان يؤخذ بنظر الاعتبار وجود بنايات عالية ضمن الجزء المراد الحفاظ عليه، لاجل المحافظة على سلامة النسيج الحضري وعدم هيمنة المباني العالية على المباني الواطئة ضمن المنطقة.
2-3 الاستخدام الكفوء والاهمية الاقتصادية
لكي يكون الحفاظ مبرراً من الناحية العملية يجب الاعتماد على استخدام التقنيات العلمية المؤثرة وعلى الوفرة الاقتصادية، حيث ان هذين العاملين متداخلان فيما بينهما، وان الاهمية الاقتصادية للبناية تعبر عن المردودات الاقتصادية لتلك البناية ويجب ان تكون عملية الحفاظ ذات تكاليف معتدلة وملائمة المكان للاستخدامات المختلفة من حيث تجهيز الكهرباء والماء والغاز والعوامل المساعدة التي تعزز اهمية البناية وتحقق السهولة والسلامة في عملية الوصول الى البناية ما يحقق اهميتها وقيمتها الاقتصادية، ويجب الاهتمام بالعامل البيئي.
فهل ان مكان البناية يحقق الهدوء من الضوضاء او انه يحقق مجالاً للعمل فقط. وعليه فان الموروث الذي يحقق الجوانب الفنية والاقتصادية والبيئية يعتبر عنصراً مهماً يجب الاهتمام به وصيانته، وان البنايات القديمة التي اهملت مثل هذه الجوانب بقيت فارغة وغير مشغولة
2-4 اولويات الاستثمار
من خلال الدراسات الميدانية يمكن تحديد الاسبقيات في توجيه الموارد و الاستثمارات نحو المباني ذات القيمة التراثية العالية.
حيث ان الامكانات المتوفرة في البلد لا يعني انها توجه نحو صيانة كل المباني التراثية، اذا ما تبين بانها ذات كلفة باهظة وعليه يجب ان يتركز الاهتمام في تحسين البيئة والتعمير للمباني التراثية اعتماداً على الامكانات المتوفرة وضمن برنامج عمل زمني يحدد المراحل المتتالية لعملية توجيه الاستثمارات وصيانة الموروث وفق المعايير والاسس المعتمدة.
2-5 علاقات المجتمع
ويقصد هنا المستوى الاجتماعي المطلوب لتحقيق سياسة الحفاظ الناجحة حيث لابد من وجود مجتمع مدرك ومتعلم كضرورة حتمية قبل احداث عملية الحفاظ وليس بعدها، حيث تتحدد الرغبة في الحفاظ على الموروث من قبل المجتمع نفسه وتقع المســـــؤولية على عاتق الطبقة المتعلمة.
التاخي
الرئيسية » الآثار والتنقيبات » الحفاظ على الموروثات المعمارية في مدن اقليم كوردستان العراق (قلعة اربيل انموذج) (الحلقة الاولى)